سبعة وعشرون أديبة سعودية يبحن بومضات من سيرتهن

القاصة والناقدة المسرحية السعودية د.نوال السويلم تجمع في كتابها 'ومضات سيرية.. سرد سيرذاتي لكاتبات سعوديات' حيث اختارت كل أديبة الكتابة عن محطة من حياتها أو عن ذاتها واهتماماتها وعالمها الخاص لنرى فضاءات روح النساء في المملكة في نشأتهن وتطورات حياتهن وتجليات أبرز الأحداث ومواقف عايشنها طفلات وشابات ومسؤولات.

سبعة وعشرون أديبة سعودية تتنوع أفكارهن وعوالمهن وهمومهن الإبداعية في تجربة فريدة في رؤيتها، اجتمعن على مائدة البوح دون اتفاق أو تشاور حول طبيعة موضوع هذا البوح ومدى حريته، جاء الأمر كمبادرة من قبل القاصة والناقدة المسرحية السعودية د.نوال السويلم، وقد جمعتها وأعدتها وقدمت لها في كتابها"ومضات سيرية.. سرد سيرذاتي لكاتبات سعوديات"، حيث اختارت كل أديبة الكتابة عن محطة من حياتها أو عن ذاتها واهتماماتها وعالمها الخاص، لنرى فضاءات روح المرأة السعودية في نشأتها وتطورات حياتها وتجليات أبرز الأحداث والمواقف التي عايشتها طفلة وشابة وامرأة مسؤولة.

تقول السويلم في مقدمة كتابها الصادر عن دار النابغة "السيرة الذاتية النسائية مغامرة تتهيب الكاتبة خوض غمارها، ومازال هذا الجنس حضوره قليل في الأدب العربي، والحديث عنه في أدبنا السعودي مشروع بحث عن أسباب محدودية ممارسته، فالأديبة السعودية تبتكر وسائلها الفنية وحيلها الإبداعية للخروج من قبضة هذا الفن، والتعبير عن ذاتها مرتدية عباءة شهرزاد لتحكي وتبوح وتتسرب ذاتها بخفاء في أعمالها الروائية والقصصية ومقالاتها وقصائدها دون أن تقول أنا أو بعض من أناي. ويحسب لبعض السعوديات اقتحامهن لهذا الفن العصي والعسير التناول، أمثال هدى الدغفق، أميمة الخميس، وليلى الجهني، والهنوف الغيشم، وآخرهن أمل التميمي. قد نختلف حول أجناسية بعض هذه الأعمال وتداخلها مع المذكرات واليوميات أو أدب الرحلات لكننا نتفق أنها تندرج تحت مظلة هذا الجنس الكبير السيرة الذاتية.

وتضيف "مع الثورة في عالم التقنية والإعلام الجديد، نمت كتابة الذات في مواقع التواصل الاجتماعي، فمساحة البوح في التغريدات والمدونات والصفحات الشخصية عن لحظات ومواقف حياتية مرت بها الكاتبة نعثر عليها مبثوثة في هيئة نصوص قصيرة، أو بورتريه منشور في صحيفة يومية. لم تنشغل الكاتبة بهاجس التصنيف لهذا الكتابات الذاتية كونها شذرات لم تنتظم في نص أدبي سيري يعلن عن نفسه بوضوح. الأديبة السعودية تكتب وتبوح وتميل إلى التعبير عن ذاتها بأسلوب الذكريات، تكتب ما أسميته بومضة سيرية، وأعني به سرد استعادي قصير حول مرحلة من مراحل الحياة أو تجربة حياتية. ومن هنا جاءت فكرة هذا الكتاب وهي تعزيز الكتابة النسائية حول الذات، والتجاوب مع طبيعة المرأة الميالة إلى الاجتزاء من سيرتها، وانتقاء ما تراه جديرا بالبوح".

وتشير السويلم إلى أن هذه الفكرة تحولت إلى مبادرة لاستكتاب أديبات سعوديات، تختار كل واحدة منهن الكتاب عن محطة من حياتها أو ذاتها في اهتماماتها وعالمها الخاص. تقدم ذاتها بطلة للنص بوضوح في كتابة لا نشغل بها القارئ في البحث عن هوية أجناسية لما يقرأ، ونعقد معه الميثاق السيرذاتي لهذه النصوص معلنا وصريحا. بدأت المبادرة منتصف يوليو 2022، واكتملت المشاركات في 10 أكتوبر/تشرين الاول من العام نفسه، هذه الفترة كنت على موعد مع مع الجمال، وبهجة تصلني على هيئة حروف أسميتها إيميلات السعادة.

وتؤكد أن التأليف الإبداعي المشترك معظمه مختارات أدبية لقصص أو قصائد، أما هذا النوع من التأليف الذي يجمع كاتبات يتحدثن فيه عن ذواتهن فهو قليل في الأدب العربي ـ حسب اطلاعي ـ ولم أعثر في الأدب السعودي، سوى تجربة سبقت هذا الكتاب خاضتها سبع كاتبات سعوديات في كتابات سعودية في كتاب "روزنامة.. أيام نتداولها" صدر عن دار إثراء عام 2014، اتفقت الصديقات على فكرة الكتابة والتخطيط لها وكتبت كل أديبة عن ذكرى خاصة حدثت في يوم من أيام الأسبوع، وهن: نجلاء مطري وحليمة مظفر وسهام القحطاني وفاطمة إلياس وزينب غاصب ولمياء باغشن وصباح أبو عزة. وفي هذا الكتاب لم يكن هناك تواصل بين الكاتبات للتخطيط حول الكتابة، أو الاتفاق والتشاور حول المحتوى، ولم ألمس حرصا منهن على معرفة أسماء المشاركات، قد يكون بينهن تعارف على أرض الواقع، لكنهن هنا في هذا الكتاب صديقات يلتقين لأول مرة، كتبت كل واحدة نصها باستقلالية عن الأخريات، واختارت المساحة التي تحرك فيها قلمها، شعور الهيبة والتخوف من التجربة طرأ على بعضنا أثناء الكتابة، ومنهن من سألت هل هناك انكشاف أكثر مما ينبغي؟ ومنهن من لم يخطر عليها سؤال كهذا. ولم تتواصل واحدة منهن معي حول هذا الموضوع، تستفسر وتتابع مجريات العمل، شعرت أنني أمام ثقة كبيرة منهن، وتضاعف شعور الامتنان والتقدير والشكر لهن على قبول الدعوة أولا وسلاسة التعامل والتجاوب لإنجاح العمل.

السبعة والعشرون أديبة اللاتي شاركن في الكتاب هن: آمنة الذروي، أحلام الحميد، أميرة بنت علي الزهراني، أميمة بنت منور البدري، حليم الفرجي، دلال بنت بندر المالكي، رانية محمد شريف العرضاوي، رجاء البوعلي، زكية بنت محمد العتيبي، زهرة موسى، سعاد أبوشال، سكينة الشريف، سهام العبوي، شيمة محمد الشمري، عائشة بنت يحيي الحكمي، عطاف سالم، فوزية الشنبري، ليلى بنت إبراهيم الأحيدب، نادية بنت عبد الوهاب خوندنة، نوال السويلم، هديل خالد، هند بنت عبد الرزاق المطيري، هيفاء بنت محمد الفريح، هيلة بنت عبد الله العساف، وفاء بنت إبراهيم السبيل، وفاء الطيب.

نماذج من الومضات

سطور

نبدأ بمقتطف من ومضة أو بوحالقاصة والشاعرة والروائية حليم الفرجي، والذي كتب بروح إنسانية وفنية راقية في صدقها، تقول:

"لطالما كنت وحدي، تعرضت لللإيذاء الجسدي والنفسي والإحباط من أقرب الناس إليّ وعلى مدى سنوات.. في كل مرة أبكي وحدي، وأتعثر وحدي، وأحاول تجاهل كل شئ لأقف من جديد.. هذه طريقي منذ البداية.. فتلك المشاعر من وحدة وألم وضعف وخوف كنت أحولها لحروف تنزف بكل تلك الخيبات ومازلت.. هذه ليست قصة نجاح بقدر ما أرى حقيقتها بداخلي نقاط سوداء تحجب عن قلبي الفرح والطمأنينة رغم تظاهري بالقوة والتماسك. لا أدري حقيقة متى سيضحك لي القدرة لأغتسل من كل أولئك الذين يحيطون بي ولونوا ما حولي بالحزن لأكمل طريقي نحو القمة. ولا أعلم متى ستشرق شمسي فالظلام حولي فرض هيمنته على كل شيء". ربما عليّ البدء من أول السطر ولكم على الحق كقراء أن أكتب لكم على صفحة بيضاء، إذن دعونا نبدأ..

سطر أول

أنا حليم نعم هذا اسمي الذي اختاره لي والديّ دون تاء مربوطة، ليظل نقطة استفهام عند كل من يسمعه، وربما استغلوه فيما بعد للتنمر عليّ.

ـ حليم!!!

ـ يعني إنت ولد!؟

كنت أحرج في البداية وطالما وجدت توبيخا من معلماتي كلما وجدن اسمي بورقة الاختبار (حليمة)

أرأيتم أني لم أكن متصالحة مع اسمي منذ البداية، وبات مصدرا لانزعاجي أغلب الوقت!

ثاني سطر

ولدت في أسرة فقيرة في قرية ظلت حتى وقت قريب جدا بعيدة عن العمران والتطور، فلم أحظ في طفولتي بأي لعبة تهدى لطفلة بل أقصى متعتي أنا وأخوتي بناء بيوت الطين وتزيينها بأوراق الشجر الخضراء بعد هطول المطر حيث تكون الأرض رطبة طينية قابلة للتشكيل، وفي نهاية المطاف نتركها بعد أن نبذل فيها مجهودا كبيرا لتشكيلها وتزيينها. يصحبنا أبي إلى الأراضي الزراعية حين قدوم السيل الذي كان مقدمة فرحة عظيمة للقرويين، حيث كان يحمل معه الفرح وبوادر الرزق للمزارعين. تطل قريتي على واد عظيم يسمى "خلب".

ثالث سطر

العائلة

والدي كان حنونا جدا، يعمل نجارا في المنزل وتحديدا تحت شجرة اللوز الضخمة، يجمع الأخشاب ويعمل عليها بتركيز عال فتخرج تلك القطع الخشبية من بين يديه كراسي جميلة يقوم بصباعغتها وبيعها كل صباح في سوق المحافظة، هذا هو دخله الوحيد في طفولتنا قبل أن يلتحق بالعمل عامل مدرسة، وذلك بعد أن ضعف بصره جراء عمله الطويل بالنجارة.

أمي ربما لا أستطيع عنها مطولا، فبداخلي لها عتبا لا أستطيع تفسيره حتى الآن! يسبب لي الحزن كلما تذكرتها.. ولكني أستطيع القول بأن أمي كانت جميلة جدا بيضاء البشرة طويلة القامة حنونة حتى آخر مساء قضته بيننا. (أمي رحلت عنا فجأة دون سابق إنذار ولحق بها أبي بعد ثمانية أعوام، باقيا على العهد والحب الذي جمع بينهما حين تزوجها طفلة فنشأت وكبرت بين يديه؛ رحل العاشقان ولم يتبق منهما إلا ذكريات وحزن لن يزول..)

لا شيء إلا...

وتقول الشاعرة والكاتبة تهاني بنت حسن الصبيح في ومضتها "لا شيءإلا... سيرة عادية":

في السابعة من عمري ظن أبي أن بي مسا من الجنون حين سمعني أتحدث بعدة أصوات على لسان الدمى وأنا ألهو بألعابي، كان وجهي يحمر، وتتغير ملامحي، فأغضب وأبكي وربما أذرع إلى السخرية والتهكم حسب ما يمليه الموقف، كنت أمثل أدوار عائلة مكونة من أم وأب وطفلتين صغيرتين بإتقان، ومن هنا بدأت أسافر بخيالي وأميل إلى القراءة بتمثيل الأدوار وأقود أصدقائي الأطفال إلى التمثيل وصياغة حوار وبالتالي صناعة قصة من واقع الحياة. وبسبب جرأتي وعدم ترددي في أداء أي حركة مسرحية أمام الجمهور أصبحت عضوا في الإذاعة المدرسية.

في التاسعة من عمري بدأت كتبت قصة خيالية عن ملك يحب جميع الناس ويقتل الأشرار من السحرة الذين يخيفون الصغار في الظلام، واحتفظت يومها معلمتي بدفتري لتطلعه على معلمات أخريات متباهية بمحاولاتي اللافتة في الكتابة. وبعدما كبرت وجدتها قد كتبت في خانة الملاحظات الخاصة بسجلي في المرحلة الابتدائية: تحب الكتابة والقراءة. وفي التاسعة أيضا بدأت أشعر بميل عجيب لقراءة الشعر وحفظه، بالأخص ذلك الذي يحمل قيما جميلة أو وزنا موسيقيا خفيفا فحفظت شعر أحمد شوقي، وكنت أعتلي طاولة الصف كمسرح لأنشد:

قم للمعلم وفه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا

الأم مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعبا طيب الأعراق.

صفحات من دفتر الذكريات

وتقول أميمة بنت منور البدري في ومضتها:

تخرجت من الجامعة حاملة لدرجة البكالوريوس في إدارة الأعمال، احتفل بي أفراد أسرتي في ليلة كبيرة، بحضور عدد من الصديقات من مختلف مناطق المملكة، بحكم علاقاتي معهن في سكن الجامعة، التي حملت طابعا أخويا حنونا جدا، لم أكون صداقات بعدهن، عدا زمالات العمل، والاحتفاظ بدائرة صغيرة من الانقياء. عدت من جامعة الملك عبد العزيز، بأحلام وطموحات، حملتني إلى مدينة أكسفورد البريطانية، حيث ابتعثت بعد إنهاء الماجستير، لأكمل دراسة درجة الدكتوراه في إدارة الأعمال. درست مرحلة اللغة في معهد كلية الملوك بمدينة أكسفورد، تلك المدينة التي أحيت بطرازها وثقافتها وتاريخا كوامن عميقة. في المعهد كانت مناقشات الأساتذة الإنجليز، للروايات والأفلام، تحرك شغفا كامنا، اعتزازهم بكتابهم، وعيشهم لتفاصيل الروايات وتاريخها، دافعا آخر.. فالكاتب لا يموت.

كان بلدا وعالما مختلفا ومدهشا، في أولى رحلاتي إلى لندن حضرت بعض مسرحيات شكسبير، وتلمست جدران مسرح "شكسير غلوب"، أصوات مؤدي مسرحياته، يقال إنه على يد شكسبير دخلت أكثر من 1700 كلمة للغة الإنكليزية، استهوتني زيارة المتاحف والقصور التاريخية والمكتبات. زرت منزل الكاتبة جين إير، الذي أصبح متحفا ومزارا، وخططت لزيارتين لم تتما لمنزل أجاثا كريستي "غرينواي" ومنزل تشارلز ديكنز. في زيارتي لبعض القصور الإنكليزية والمتاحف كنت ألحظ اهتمامهم بغرفة وزاوية المكتبة والقراءة وركن المكتب والمحبرة، حيث كتبوا رواياتهم أو مذكراتهم، كان الجزء الأكثر بذخا، في كل زيارة. وقد قرأت بالإنكليزية الآمال العظيمة، بنهايتيها المحتملتين.. كبرياء وهوى، أوليفر تويست، قرأت لشارلوت برونتي وإيميلي برونتي.. ذات مساء قرأت مرتفعات وذرينغ، استيقظت متعبة، وآثار دموع بائنة على خدي من ليلة البارحة.. يعشق الإنجليز الإثارة ـ رغم برودة دمائهم ـ والنهايات الحزينة.