
الشاعرة مريم محمد قوش: العلاقة ما بين الناقد والمبدع متذبذبة
مريم محمد قوش شاعرة فلسطينية تبحث عن الحلم في قطاع غزة، تخيط من أجنحة الهواء في غزة جسورا للوصول لعالم مفعم بالأمل. ولدت في مخيم النصيرات للاجئين وسط القطاع، درست في مدارس المخيم وأتمت دراستها الجامعية في الأدب العربي في الجامعة الإسلامية في غزة، وأكملت الماجستير في جامعة الأقصى في غزة – الخطاب السياسي.
أصدرت عدد من المجاميع الشعرية مثل:"سبع عجاف، كما تمشي القطا، رسائل إلى البرتقالي، انتماء للنهار"، حازت على العديد من الفلسطينية والعربية والعالمية، وترجمت بعض قصائدها إلى غير لغة أخرى.
في هذا الحوار الذي تم خلال معرض فلسطين الدولي للكتاب 2023، نلسط الضوء على جوانب مهمة في مسيرتها الإبداعية وقضايا أخرى في القصيدة العربية الحديثة.
تاليا الحوار:
• لكل شاعر نقطة توهج، ماذا عن شرارة القصيدة الأولى عندك؟
- إن القصيدة بقعة ضوءٍ كامنةٍ، تحتاج لشعاع ضوئي منسدلٍ من رئة الكون لتتخلق القصيدة، فتتحول من كونها نورًا كامناً إلى فينيق يشتعل في منقاره عشب الخلود، فتصبح ملكوتًا لا يتسع له مدى ولا يجاريه صدى!
أتذكر في صبايَ أنّني كنتُ مزيجًا من الهدوء المخملي الذي ينمو في بواطنه شغبُ العصافير واندفاع المطر وارتياح الوادي بعد انتهاء الفصول.. كانت تتوهج القصيدة بي حين وقفتُ وجدي أمام السنابل الممتدة من بيتنا وحتى نهاية الأفق، كنت أسأل جدي
ماذا وراء تلك الحقول؟ فكان يبتسم ويقول: هناك الحقيقة الكامنة في مناقير الصباح؛ فأسأله: وما هي الحقيقة يا جدي!
فيقول لي بأن خلف السنابل وطنًا، وخلف مناقير الصباح أحلاما تحنّ للمروج!
منذ أنْ لامستُ حقيقة الوطن وضياع الإنسان، توهجّت في روحي القصيدةَ، وباتت الكلمةُ تقودني لأختزل في معناي وطنًا وحمائم تغني للحرية، ونمت على كتفيَّ عنادل من ضياءٍ واعشوشبت في أناملي أنهار الغناء، فكانت بي أسئلة المزاريب بعد الهطول، وكانت بي أجوبة الغيم بعد الجفاف، وكان لي حنين المرايا بعد تقلص المجاذيف، بي كل شيءٍ يُسمى وطن أو حقيقة!
• يقال بأن القصيدة العربية الحديثة اخذت بالمراجعة أمام سطوة الرواية.. ما مدى صحة هذا القول؟
- في الحقيقة هذا تفسير غريبٌ لنمو الأدب وتطوره، فليس هناك مقارنةٌ بين المسرح والفيلم السينمائي، أو بين الأغنية المسموعة واللوحة الفنية، إن لكل فرع من فروع اللغة توهجه المثير.
إن انتشار الرواية العربية المعاصرة لأسباب كثيرة برأيي منها مدنية الفكر العربي المعاصر، ورغبة الكاتب في الإسهاب والتفصيل، وميل القارئ للدعة الثقافية، وكذلك عوامل تتعلق بالقصيدة الحداثية وغموضها وانغلاقها تلك عوامل أسهمت في انتشار الرواية ولكن ذلك لم يكن ليجعل الرواية العربية ديوانًا للعرب؛ لأنه لم يكن قائمًا على فكرة العزوف عن الشعر، إنما إتمامًا له؛ إذ أن مرحلة ما بعد الحداثة أفضت بتمازج الأجناس الأدبية وانصهارها وتجليها بطاقة إبداعية فلسفية، ما جعل الرواية العربية المعاصرة بطريقةٍ أو بأخرى وجهًا آخر للقصيدة.
ففي الفلسفة الإنسانية كلنا رواية سواءً كتبناها أم لم نكتبها، ولذلك فإن التجانس والانصهار الثقافي بين فروع اللغة قرب ما بين القصيدة والرواية، حيث إن الأولى تختزل المشاهد وتحشد من المقومات الفنية والجمالية بينما الرواية تقوم على تفصيل وتجزئة تلك المشاهد وتفتيتها ومن ثم تعيد تركيبها مرة أخرى. ليتم كلٌ منهما الآخر، فالرواية تاريخ وتدرين لثقافة الشعوب والشعر ديوان العرب يختزل التاريخ في قصيدة أو بيت، ففي الفلسفة الإنسانية كلنا رواية سواءً كتبناها أم لم نكتبها، فكل إنسان رواية سواء كتبها أو لم يكتبها، فالقصيدة تختزل المشاهد وتحشد من المقومات الفنية والجمالية بينما الرواية تقوم على تفصيل وتجزئة تلك المشاهد وتفتيتها ومن ثم تعيد تركيبها مرة أخرى.
• يُقال بأن القصيدة العربية أخذت بالتراجع، ما رأيك في ذلك؟
- القصيدة كالنهر، تسيِّره الغمامةُ، متى اشتد الهطول وصدقت التجربة بذخ نهر الشعر وتشعّبت الضفاف، ومتى انحسرت الرؤى والحكمة ضنّ الغيث على الوادي، ولكن فطرة الأرض أنَّ الفصول متنوعةٌ وأن الجدب لا يطول تلك هي سنةُ الله في ترتيب الكون، فلا جفاف يطول ولا انهمار يدوم، إنما يبقى رهين تقلبات الحياة وفلسفاتها.
ومن ثمَّ؛ فإن تنوّع الفصول ينعكس على مرايا الشعر بطريقةٍ أو بأخرى.
وإنَ زمننا هذا الذي يعجُ بالسرعة جعل الشعر يقف في منعطفٍ صعبٍ، ويقف أمام تحديات حقيقية، لا سيما وأننا في زمنٍ بصريٍّ يعتمد على الثقافة البصرية المصورة.
وهذا الأمر يزيد المسئولية على الشاعر في قدرته من تحويل المادية الشعرية المعتمدة على البصيرة إلى مادةٍ بصرية تدركها الروح وتعيد بناء صياغتها بما يتسقُ مع الفكر المعاصر والروح الشعرية العربية، وذلك من ناحية الموضوع بطرح قضايا معاصرة تلامس واقع الحياة العربية الجديدة، وكذلك من ناحية الشكل وطريقة العرض التي تعتمد على استثمار التواصل البصري والسمعي وصولا لإحياء البصيرة وتحقيق الرؤيا الوجودية للشعر؛ ما يحفظ للشعر وجوده في خضم الحياة المعاصرة.

• كيف تنظرين إلى قصيدة المقاومة؟
- قصيدة المقاومة هي ترجمةٌ أخرى للبقاء، ودليلٌ على وجود الفلسطيني بأرضه، هي أرشفةٌ حقيقيةٌ نضال شعبٍ بأكلمه، فهي تلخص صمود شعبٍ لا ينتهي.
فالقصيدة تلخص حكايات وتراثٍ وحروبٍ وأسرار مدنٍ واشتياق لاجئين، وحنين طرقٍ للغائبين، و تلويحة أيادي العابرين؛ لذلك تُعتبر القصيدة الفلسطينية المعاصرة ذات طبعةٍ إنسانيةٍ فريدةٍ، تلامس هوية الإنسان ورغبته بالوجود حيث كان، ما جعلها قصيدةً عالمية تتناول قضايا الوجود والإنسان وحق البشر بتحقيق مصائرهم.
• بعد إصدار أكثر من عمل شعري، هل قلتِ ما تريدين شعرًا؟
- لم أبدأ حتى أنتهي! هذي هي علاقتي مع الشعر، إن خوض غمار الكتابة لا سيما تلك التأملية في الوجود والإنسان لا تنتهي إلا بانتهاء زيت البصيرة، وزيت البصيرة باقٍ ليس يخمدُ.
• برأيك، كشاعرة وناقدة هل ثمة تأثير على جسد القصيدة في انتشار العالم الافتراضي والتواصل الاجتماعي؟
- بتفجر المعرفة المعاصرة، نال الثقافة العربية والعالمية من عولمة الفكر ما نالته نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكان لمواقع التواصل الاجتماعي دور كبير في تشكيل الوعي الكتابي بطريقةٍ أو بأخرى، فها هي مواقع التواصل تكتظ بعوالم شتّى تلقّفها الجمهور العربي سواءً في الموسيقى أو الفن أو الشّعر أو غيرها من مجالات الحياة المختلفة.
وبذلك؛ وجد الشعراء أنفسهم أمام عالمٍ افتراضي يوازي العالم الحقيقي، فتنقّل المبدعون بين مرافئ هذه المواقع ينقلون ما قطفوه من زرقة الحلم، وينشدون أفقًا يتسع لأحلامهم، فكانت المهرجانات الثقافية الافتراضية واللقاءات الافتراضية التي اكتسحت مسافات شاسعة حقيقة، واختزلت خلف شاشاتها عشرات التجارب والأفكار والأحلام المؤجلة.
لقد استطاعت القصيدة الرقمية أن تحقق حضورًا لافتًا وانتشارًا فريدًا بطرق شتىً سواءً بالقصيدة المكتوبة أو المرئية أو المسموعة، فلاحقت رواجًا ما جعلها تحقق لنفسها شهرةً واسعة.
ولكن ذلك الأمر –برأيي- يزيد من قلق الشاعر الحقيقي، لاسيما أن هذا الانتشار الواسع جعلنا أمام قصائد متشابهةً في الصورة الخيالية، فكثر الشعراء ووقفت القصيدة الحقيقية تبحث عن هويتها ووجودها لاسيما بعد أُغرق المشهد بقصائد شتى بكافة المستويات منها ما أخلَّ بالذائقة الشعرية.
• النقد والإبداع برأيك هل أزمةٌ في النقد أم في الإبداع، أين تكمن المشكلة؟
- تولد القصيدة من شغاف النّفس البشرية حاملةً معها ترسبات أزمنةٍ مضت، ورذاذ معاجمٍ تنفست في أرحامها أجنة اللغات، مختزلة في رحابها عشرات الشعراء والنقاد والفلاسفة وتحمل في مكنونها الفلسفي عصارة التجربة الإنسانية؛ لذلك فإن القصيدة حياةٌ موازيةٌ للحياة وللذات البشرية بكل تشعباتها وانعكاساتها، إذ تصوّر بطريقةٍ أو بأخرى تمازج الذات البشرية بالقصيدة الصادقة وقدرتها على التأثير في واقع المجتمعات. فهي كائن حيٌّ يتنفس الهواء المشبع بلقاح الشمس ورذاذ الشجر ووبر الأسئلة وكثافة الهواء الممزوج بالعوالق، إنها جميعها تزدحمُ ليصفيها الشعر فتثمر شجرةٌ من نورٍ تتعهدها بالاهتمام أيدٍ حريرية، فتُروى بعرق الياسمين، وتُمنح ذاكرة السنابل، ويحجب عنها ضباب الأشواك ومرارة التفسير.
هي هكذا فعلا علاقة الناقد بالقصيدة، يمهّد للشاعر سبُل الكتابة ويضيء للرؤية عناقيد العنب المضيئة في طريق القصيدة لتثمر الرؤى، وتتسع المخيلة الواثقة على ضفاف النص.
ولكن المنظور العربي القديم لفلسفة النقد كان يحمل مفهوم تصيد المثالب والأخطاء، فالنقد كان بمثابة غربال عليه تتم غربلة القصائد لتُفرز كالحبوب ما بين غث وسمين، ما جعل النقد قائمٌ على المنطق الحاد في حين أن عباءة القصيدة فلسفية واسعة لا تليق بعبابها مقصلة المنطق الحادة الطباع.
إن تلك النظرة الحادة للإنتاج الإبداعي دفعت للبحث عن حداثة فلسفية في النقد تعتمد على النظرة الرؤيوية الحيادية عوضًا عن تلك الرؤية التقليدية الحادة، وهو ما ساهم فعلا في انتقال المبدع والعمل الإبداعي لفضاءات لا حدود لها.
فقد ساهمت النظريات النقدية الحديثة المعتمدة على البيئة ووعي الكاتب بالبيئة وبالعمل الإبداعي في انتشال القصيدة من رئتي المبدع حيث تعج المعاجم بغبار اللغة، ليخرج من ركام الألفاظ ويتحرر من أنفاس الشعراء السابقين ؛ فيخلق نصًا يعتمد على الرؤية الوجودية الفلسفية التي تخدم الإنسانية بحق..
إن التعامل مع الشعر بهذه النظرة الفضفاضة لا يقبل لحنجرة الحياة أن تُشريحَّ بحثًا عن مصدر النبض، إنها تستمع بكامل وعيها ولا وعيها للنبض وتقوّم ما استطاعت تقويمه دون أن تقتلع من حنجرة الشعر أوتاره وأسراره.
لا شك في أن العلاقة متذبذبة ما بين الناقد والمبدع، وأعتقد أنه لتجاوزها لابد أن يلعب الناقد دورًا قياديًا قائمًا على خطوتين، أما الأولى فتعتمد على توجيه المبدع للطاقات الكامنة فيه وتوجيهه للبؤرة الفنية التي بوسعه أن يبدع فيها، وهي استقراء وعي المبدع وحدسه والعمل والقدرة على التنبؤ بالمجالات التي بوسع المبدع أن يتميز فيها، أما الخطوة الثانية في تقويم النقد الأدبي ليس بناءً على نظرية هذا ذهبٌ لامع وهذا حجرٌ منطفئ، بل بالتعامل مع الكل الأدبي باعتباره حجرٌ من المرمر أو اللازورد بحاجة لصقل بحذاقة ليبرز جماله.
• فزت بغير جائزة في الشعر، ما الذي تضفيه الجوائز للشاعر؟
- في الحقيقة - برأيي- أن الجائزة الأجمل للشاعر هي ذلك البريق الجذاب الذي يلمع بعيني الجمهور حين يبدأ بإنشاد قصيدته، ذلك البريق الذي يأخذك حيث النشوة المنشودة.
أما عن سؤالك تحديدًا، إن الجوائز التي تحصل عليها أعمالنا الإبداعية بمثابة تأشيرةٍ لعبور مملكة الخلود، فهي تخبرك بطريقةٍ أو بأخرى أنك تسير على الطريق الصحيح، وأن نهجك الرؤيوي يلامس حقيقة الشعر وجوهره، وأنه ينبغي عليك أن تستمر في دروب النور والحكمة لأنك جديرٌ بذلك والجوائز أيضا تعد حافزا للإبداع والتميز!
• المبدع العربي إذا وصل إلى ذروة الإبداع هل يتنحى جانبًا ويتكئ على موروثه الثقافي؟
- ذروة الإبداع! هي أكثر شعور ينبغي أن يقلق منه المبدع، إذ أنَّ هذه النشوة بالوصول للقمة المنشودة هي أخطر ما يهدد الإبداع الحقيقي، لأنها تطفئ جذوة القلق العذب الذي يلد الندى والياسمين، إنه رماد الشغف الذي تهبُّ منه عنقاء القصيدة!
نحن توجعنا الكتابة بذلك القدر الذي تسرنا فيه، إنها بنت الروح وشقيقة الروح وشفاؤها ولهيبها على حدٍ سواء، وهذه العلاقة المتناقضة في ظاهرها هي سر اكتمال البرق الخاطف الذي تفضي إليه القصيدة.
فالشاعر في بداية توهجه يقع في قلق التأثر بالآخرين، ويسعى جاهدًا أن يجعل لقصيدته مذاقها الخاص الفريد الذي يجعلها خلقًا آخر مختلفا عما سواها، ثم ما يلبث أن يقع في قلق ماذا بعد هذه القصيدة؟ ماذا وراءها؟ فهل وراءها كثيبٌ ممتدٌ واسعٌ يرتاح فيه الصوت ثم يتلاشى كما يتلاشى الصدى؟ أم أن وراءها جبلًا بلا قمةٍ يتطاول كلما صعدناه فيتسع كلما ارتفعنا المدى؟
يقول درويش: "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"
وفي هذا بلورةٌ حقيقية للغز الإبداع، ففي القصيدة بدء وميلادٌ مع كل تجربة، ليحافظ على نزق قرنفل مستمرٍ، فوقفتْ راحةُ القصيدة القرنفلية وجهًا لوجهٍ أمام الموت واستطاعت أن تتجلى بوجودها الفلسفي المخمليِّ فكرةً إنسانية تُعاش وتعبّر عن قضايا الإنسان حيث كان وكيف كان.
الإبداع مثل هذا الكأس عصير الليمون وعيناه للجبال الممتدة حتى انتهاء الأفق، لا ينبغي عليه أن ينتهي، أنا بعد ممارسة قصيدة شاقةٍ أحرق كل اعتقاداتي وكل أوراقي وأبدأ كأنني للتو أكتب العمل الأول، أنا لا أستعجل أبدًا في الكتابة، أفتش في قصب كل نهارٍ عن حلمٍ أتعلمه، بدءًا من الشمس وليس انتهاءً بتفاصيل الحياة اليومية.
في الحقيقية القصيدة حياة نعيشها، ثم ينسفها لنبدأ أخرى، إذن؛ لا قمةً في العمل الإبداعي الحقيقي، لا قمة ولا ذروة ولا إنما تلالٌ كتلك تغطي رئة الشمس وتمتد كقلب نبيٍ يجرب الصعود، هكذا تنمو القصائد على عشب السؤال، تلالا متجاورةً متصاعدة بلا قمم!