تكريم الطيب بالحاج أحمد في ذكرى وفاته الثانية بيوم دراسـي
قبل عامين رحل الفنان التونسي الطيب بالحاج أحمد حيث كان له نشاط فني في فن الاستعادة (Récupération) أو التّجميع (َAssemblage)، وقد حول منزله إلى معرض كبير لأعماله ومجال لتجميع الخردة وبقايا المصاع والمتروكات المستعملة من المواد قبل أن يتحول إلى متحف يحمل اسمه وقد زرته قبل أكثر من عقدين حيث حدثني وقد بدت عليه أمارات التفاؤل والرغبة في العمل لإنجاز معرضه المفتوح في شارع الحبيب بورقيبة ولقي آنذاك إقبالا من الناس وأحباء الفن لخصوصيته وخروجه عن السائد وكان رجلا مرحا وبسيطا وعميقا محبا للفن وأحباء الفن رحمه الله.
في هذا السياق واعترافا بمسيرة الفنّان الطّيب بالحاج أحمد (1949-2022) وتكريما لروحه في ذكرى وفاته الثانية تنظّم مندوبيّة الشؤون الثقافيّة بسوسة بالتعاون مع الرابطة التونسية للفنون التشكيلية والمعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة ومتحف الفن المعاصر الطيب بالحاج أحمد يومـًا دراســـيّا حول موضوع: "فنّ النّحت المعاصر بين القيم الجماليّة ورهانات الفضاء اليومي المعيش"La Sculpture Contemporaine entre les Valeurs Esthétiques et les Enjeux de l’Espace Quotidien Vécu وذلك في الثالث والعشرين من ديسمبر/كانون الأول المقبل بالمتحف الأثري بسوسة، بداية من التاسعة والنّصف صباحا... ويكون التّنسيق العام لهذا النشاط للأستاذ الفنان التشكيلي لطفي بن صالح والتّنسيق الفنّي للأستاذ يوسف بالحاج أحمد نجل الفنان المحتفى به وأما المستشار العلمي لليوم الدراسي فهو الأستاذ والفنان التشكيلي الدكتور خليل قويعة.
وتقول ورقة الإعداد لليوم الدراسي وهي نص للفنان التشكيلي والناقد الدكتور خليل قويعة "بدأ النحات التونسي الطيب بالحاج أحمد (1949-2022) يعرض أعماله بالمعارض الجماعيّة بتونس وبالخارج منذ سنوات الثّمانينات، بعد عودته من السويد، حيث زار عديد المعارض والورشات الفنيّة وعاشر عديد الفنّانين وأخذ عنهم واستأنس بثقافة الفنون المعاصرة بأوروبّا وخبر تقنياتها... ولعلّ من شأن البحث عن أصول التّكوين العصامي لدى هذا الفنّان وطبيعة استلهاماته المختلفة وانفتاح سريرته على مشارب مختلفة، أن يساعد على استرجاع إنشائيّة أعماله الفنيّة ومواكبة مساره الإبداعي. ولئن كانت هناك مقوّمات فطريّة ثاوية لديه، حيث يبدو من خلالها فنّانا بالسّليقة، إلاّ أنّ انفتاحه على حساسيّات متنوّعة قد أدّى إلى عدم انغلاقه في أقنوم تقنيّ أو أسلوبيّ بعينه. لقد كان الطيب يمقت الأقانيم والمكبّلات والمعلّبات".
وبقدر ملامستنا المباشرة لأثر الفنّان، بقدر ما نكتشف فيه اختزاله لذلك التفاعل الحيّ، الحسّي والتّخيّلي والرّوحي، ما بين ذاتيّة النحات وبين المواد والخامات التي استخدمها في علاقتها بالمحيط اليومي الحي، فقد خالط الرجل عديد الخامات والتقنيات بما لم يطفئ ظمأه ولم يشبع توقه الفياض إلى الإنشاء والتجريب، عندما كان يحاور خاماته ما بين رخام وحديد وخشب ومطاط واسمنت... يغازل فيها ممكنات التعبير عن ذات تعانق الحياة، ويباحث فيها تضاريس الوجدان الإنساني وآفاقه الزلوقة والمخاتلة والهلاميّة والمُلهِمة أيضا. وهي متعة البحث والاكتشاف التي كان حريصا على مقاسمتها مع جمهوره من أصدقائه وخلاّنه.
أما المهارة الحقيقيّة للنحات فتكمن في قدرته على تحويل الرخام أو الحجر، أو تلكم المعادن والأخشاب إلى مادة طيعة تتحرك مع نبضه الخلاّق، بل ولقد تمكّن الفنان من أن يبعث الحياة من جديد في عنفُوان الحجارة الصّلبة والباردة، إذ الخامة، مهما تكن طبيعتها، هي الواجهة التي تتلقّى انفعالات الفنان قبل تحولها إلى أفكار من رخام وحديد ثمّ إلى أشكال فنيّة... فالنّحت هُنا "ليس سوى الشكل وقد أصبح انفعالا" على نحو ما قاله الشاعر الفرنسي بول فالري (P. Valéry) بل هو الانفعال الأصيل نفسه عندما يتحوّل إلى تشكّلات مختلفة لذاتيّة إنسانيّة تباحث ماهيّتها وممكناتها الإبداعيّة بين الأشياء والمواد... ولا يمكن لهذا الانفعال الحيّ أن يصير شكلاً إلاّ إذا انخرط مصير المادّة، بتحوّلاتها المختلفة، في صيرورة الحياة الانفعاليّة والوجدانيّة التي تعتمل داخل ذات النّحات فكرا وجسدا. وأن تنخرط المادة النحتية في سياق الجسد وحياته المتوثبة وتصبح بمثابة امتدادٍ له، مهما تكن صلابتها ومهما يكن عِنادها، هو أن تتجلّى مغامرة الفنّ من أجل أنسَنَة الطّبيعة وتثقيـفها وصقل المادّة وترويضها أو توجيهها...
لقد مارس الطيب العديد من المواد النبيلة مثل الرخام والمرمر، كما مارس العديد من المواد الفقيرة مثل "الخردة" ونفايات المصانع وبقايا الحرب العالمية الثانية، كما في مثال القبّعات العسكريّة التي رحل أصحابها من الجنود فأصبحت بين أنامل الفنان سَلاحف وديعة تدبّ على الأرض، تبشّر بالسّلام وتسهم في إعمار الحياة وتبث الحركة وتنشر حثيث الكائن على أديم الأرض (شاطئ بوجعفر، 2001). والمهمّ بالنسبة له ليست طبيعة الخامة أو قيمتها الاستعماليّة الأولى، بل التحوّلات التي يمكن أن تحتملها وما يمكن أن تصبح عليه من قيم جماليّة وما قد تتلبّسه من حالات انفعاليّة تعكس تطلعاته الخاصة ورؤيته إلى مستطاع الأشياء. وفي مثل هذه التجربة، يقاوم النحات من خلال الحديد صلابة المحيط ومفارقاته ومن خلال الخشب تخشّبَ الحياة في الشكل... وكأن شرايين الفنان تتصل بألياف الخشب وتمرر إليها نسغ الحياة من جديد وتغذيها من روح الإنسان، عندما يتحرك على الأرض بحثا عن إشراقة لحظة كونيّة خاطفة تختزل شموليّة العالم.
لكن الخامة متغلغلة هي الأخرى في نسيج المعيش اليومي، لذلك احتاج الطيب بالحاج أحمد إلى مراجعة علاقة فنّ النّحت بالبيئة والاستفادة من العناصر المكوّنة للمحيط، سواء كان هذا المحيط طبيعيّا أو عمرانيّا، إذ العمل الفنّي في مثل هذه الرؤية لا يُؤخذ بمعزل عن محيطه البصري والملمسي العام الذي وُجد فيه. ولعلّ ذلك هو عين ما أدّى بالنحات إلى إثراء تجربته وتوسيع قاموس خاماته المستعملة بالتعامل مع الخامات الصناعيّة التي ازدهرت في النّحت المعاصر سواء في أساليب الاستعادة (Récupération) أو التّجميع (َAssemblage) أو في التّعامل مع تقنية الإسمنت المسلّح... ففي اعتماده على نفايات الخردة، غيّر الطيب بالحاج أحمد بنية الشّكل المألوف من أجل التّعبير عن دلالات مبتكرة. وقد بدا ذلك، مثلا، في منحوتة "البقر المجنون" (قاعة يحي، تونس، 1996)، حيث وظّف بعض الأجهزة والمقاطع الميكانيكيّة والمكمّلات المهملة لسيّارة قديمة وقد أبرز بعض التّناقضات الصّارخة التي يكابدها الإنسان في عصر الاستهلاك والتّلف. وباسترجاع النّحات لأغراض قديمة في شكل جديد، إنّما يضيء الفنّ بُعدا تراجيديّا في عمق المنظومة الاستهلاكيّة حيث بدا الإنسان متماهيا مع هذه المواد المستعملة، في حضارة الحديد والآلة، فيما جاءت أعماله الإسمنتيّة بمثابة أجزاء من العالم الطبيعي والمعماري، منسجمة مع النّبات والرّمل والحجارة، وتسهم في إعمار الفضاء المعماري... كما تقوم على انتفاضة الجسد الأنثوي في عزّ توتّراته العاطفيّة التي تؤكدها حركة المفاصل والأطراف.
أما المادة المطاطيّة فقد مكّنت الفنان من تأمين المرونة التشكيليّة، أكثر فأكثر، في تعامله مع الشكل وأبعدته عن الضغوطات التقنيّة التي يفترضها النحت الكلاسيكي. ويبدو ذلك في أعماله المعلقة، تحت أَسقف الورشة وأجنحة العرض، في شكل عفاريت وكائنات أسطوريّة تبدو خارقة، ولكنّها تعيش بيننا!...
إنّ فنّ الطيب بالحاج أحمد توق فيّاض، يستمر من خلال النظر والتأمّل، باتجاه مواصلة المعركة، معركة تحرير الشكل من وضعه الجاهز ومرجعيّاته المعطاة. وهو مسار يخوضه الفنان اليوم، خارج إنشائية الفعل، داخل إنشائيّة النظر، من أجل تفعيل الأشياء واستدراجها واستنطاقها إبداعيّا والذهاب بها إلى أقاصي ممكناتها والآفاق الإدراكيّة التي تحتملها. كل ذلك من داخل حوار حيّ بدأه الفنان، ذات حياة، ويستمرّ اليوم من خلالنا، حوار بين الإنسان ومادّة العالم، بين الإنسان والمكان... وأن يستمر هذا الحوار في شكل مُراكمات ومواقف هو أن يستمرّ حضور الفنان بيننا. ذلك هو عين التكريم، والنظر مستمر.
ويضم البرنامج الخاص باليوم الدراسي كلمة الافتتاح لكل من والي سوسة ومندوبة الشؤون الثقافيّة بسوسة ومدير معهد الفنون الجميلة بسوسة والمنسّق العام للتّظاهرة، وفي محاور الجلسات نجد المرجعيّات الجماليّة للفنان الطيب بالحاج أحمد وتنوع التقنيات النحتية لدى الفنان الطيب بالحاج أحمد، بين الكلاسيكي والحديث والمعاصر وحوار الخامات الطبيعية والصناعية في منجز الفنان الطيب بالحاج أحمد وأعمال الطيب بالحاج أحمد في المكان العمومي وتجربة الفضاء المفتوح ومشاركات الفنان الطيب بالحاج أحمد في الحياة الثقافيّة بتونس وبالخارج وأيّ حضور لتقنيات النحت الكلاسيكي والحديث في التجارب الفنية التونسية؟ وأية منزلة للخامات الطبيعية في تجارب النحاتين التونسيين الراهنة: سؤال البيئة وفنّ الاستعادة؟ وفن النحت بتونس والرهانات الجمالية والرمزية في الساحات العمومية ومداخل المدن: مقاربات نقديّة والنحاتون المعاصرون ورهانات الحياة على الأرض في الفن المعاصر: مفهوم الاستدامة والإحياء الإيكولوجي من خلال تجارب "فنّ الأرض" و"فنّ الموقع"...
هذا وتشفع الجلسات الأربع لهذا اليوم الدراسي بتوصيات كما يتم تنظيم زيارة للضيوف والمشاركين في هذا البرنامج إلى متحف الفنّ المعاصر الطيب بالحاج أحمد وتقديم وسام تكريم مُهدى إلى روح الفنان الطيب بالحاج أحمد بحضور وزيرة الشؤون الثقافية.
تجربة وفنان في الذاكرة الثقافية ومنها المجال الفني التشكيلي حيث يمكن لمضامين هذا اليوم الدراسي أن يحويها كتاب فني استذكارا لتجربة مخصوصة وإغناء للمكتبة الفنية الثقافية الوطنية ما يوفر مادة عن المحتفى به للباحثين والطلبة والمهتمين بالفنون التشكيلية.