'الرحيمة' دعوة لتوحيد لغة الإنسانية في العالم
قدم لنا الناقد والشاعر والروائي أحمد فضل شبلول في "الرحيمة" وهي الرواية الأخيرة من ثلاثية كان أولها "الماء العاشق" وثانيها "ثعلب ثعلب" والتي اعتبرها النقّاد كليلة ودمنة العصر الحديث، كولاجًا روائيًّا عن الفتوحات الإسكندرية العظيمة التي أهداها للمتصوف والفيلسوف الكبير محيّ الدين ابن عربي.
ولا بد لنا من أن نضيء بعض الوقفات في تاريخ شبلول الحافل بالإنجازات والزخم في الإبداع، فمع أنه درس التجارة لكن احترف تجارة الأدب فكانت مكاسبه كثيرة ومعروضاته متنوعة، إذ تعددت مواهب شبلول فأبدع في كل سبل الأدب ومناحيه. فله أكثر من سبعين كتابا مطبوعا بين رواية ومجموعات شعرية وأدب أطفال وأدب رحلات ودراسات نقدية وله بعض المعاجم العربية. وقد ترجمت أعماله الشعرية ومقالاته للعديد من اللغات فروايته "الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد"، ترجمت إلى اللغة الفرنسية ثم إلى الإنكليزية مع رواية "الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ". نال شهادة تقدير جائزة العالم العربي للرواية من باريس، وحصل على جائزة إحسان عبدالقدوس في القصة القصيرة ودكتوراه فخرية في الأدب من مور أكاديمي بالإسكندرية وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 2007 وجائزة الدولة للتفوق في الآداب عام 2019. عضو في كثير من الهيئات والمحافل الثقافية وتنقَّل في المهام بين المؤسسات الإعلامية عربيا ومحليا، فهو البحار الإسكندري الذي خطَّ قلمه في كل نوع أدبي فأبدع وجدَّد وكان آخر دواوينه "دفتر العقل" الذي عبّر فيه عن الاحتباس المادي لوجود الإنسان الذي تلخص في عيون وآذان تحاكي الآلة.
وفي الرواية لا ننكر تأثره بالشكل الأدبي لثلاثية نجيب محفوظ مع الاختلاف بين سيطرة الواقعية وأزقة القاهرة وحواريها عند محفوظ، وبين سيطرة الشخوص المتخيلة وشوارع الإسكندرية وعالمها المائي عند شبلول، والتي بدت من لحم ودم في شخص عمر ياسين وزوجته هدى في جزئها الأول "الماء العاشق" ودمجها بالمتخيل فألبس الماء حلة بشرية، وفي نهايتها تظهر دولة غير مستحبة تريد أن تستولي على العطر المكتشف والذي قوبل برفض عمر وهو شخص الراوي والبطل الأساسي في الثلاثية الذي يتعمق نبله وفهمه لكل المؤامرات الخارجية ويرفضها، وقد أتى المونولوغ الداخلي لعمر كصورة لما يعتمل داخل الروائي من إعلاء للقيم الوطنية والحفاظ على مصالح الوطن وتنتهي الرواية.
وفي "ثعلب ثعلب" الجزء الثاني يظهر كائن غريب وهو الثعلب الأحمر ويحاول من جديد أن يدخل في تصنيع عطر كليوباترا ويتم إسقاط قناعه في آخر الرواية لنكتشف أن هذا الكائن هو نفسه الدولة التي حاولت الاستيلاء على العطر وهو كناية عن خيرات البلاد.
وفي الجزء الثالث تظهر "الرحيمة" (أم الماء) التي تحاول أن تحمي الكائنات البحرية وتدافع عن الإسكندرية، وأن تخلق نظامًا عالميًّا جديدًا ينطلق من الإسكندرية ومصر تحديدا يدعو للخير والسلام وإنهاء الحروب وهي التيمة الأساسية للأجزاء الثلاثة، التي عاش فيها الروائي تطور فانتازيا سياسية تؤطرها أحلام السلام بينما العالم تؤججه الحروب وتحكمه الأطماع وخاصة في البلاد العربية، وذلك دلالة على أن شبلول صنع في روايته عالمه الصوفي المتخيل الذي تحكمه أم الماء "الرحيمة" وهي عدوة أباليس الأرض، وأرضه المتخيلة لا نزاعات فيها ولا شرّ والسلام يحكمها.
ارتبط الروائي الإسكندري بشوارع الإسكندرية ورموزها وهذا ما ميَّز إنتاجه فأوجد لنفسه لونا في كتابة ثنائيات الرواية وثلاثياتها، "اللون العاشق" وجزءها الثاني "الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد". وفي "الرحيمة" نسج متون الشعر بين جنبات الرواية، الأمر الذي حول الحوار إلى مشهد والشعر إلى موسيقى تصويرية، وقد أثراها بنصوص من الحب الإلهي لابن عربي وأبيات له ولشعراء آخرين فكان يوظفها في الدلالة على الغاية وإتمام الحوار. وتارةً تشتبك وجوه مفردات الروائي مع الشاعر، وأخرى يفرد للشعر صفحات تنتهي بمشاهد على شاطئ الإسكندرية.
إذا يمكن القول إننا أمام رواية نسيجها شعري وقد يكون هذا التمازج ملمحًا جيدًا يصب في خانة التميز عند شبلول، ولا أدعي أنها الأولى في أسلوبها إنما ظهر فيها التمكن واضحا بين الشاعر والروائي.
تحاول "الرحيمة" استنساخ صفات عمر النبيلة عبر تخصيب شعب سمكي جديد ومعظم الأحداث والحوارات تدور في عوالم وقصور تحت الماء، وعلى السطح تظهر فئة المشايخ الذين يحاولون الالتحاف بالدين والتكسب من الوضع باسمه وهداية الناس واعتراض طريق عمر ومطالبته أن يكون لهم دور في النظام العالمي الجديد "أثناء حديثهم معي لمحت أطماعًا في عيونهم الثعلبية، وحياءً منقوصًا يتجوَّل على شعيرة أذقانهم اللولبية". وقد حولوا بئر مسعود إلى مزار تتلاقى فيه مصالح تجار الثراء غير المشروع التي يمثلها المعلم عباس النورس وقد أبرم عقد الشراكة مع الثعلب الأحمر بعد خروجه من السجن، عاتيد بن يامين وهو اليهودي وزوجته شرميون التي باعت نفسها وقُتلت من أجل صندوق المجوهرات ببلدوزرات الشركات الأجنبية، لكنها أنجبتْ سمكمك الذي جعلته "الرحيمة" ولي العهد لمملكتها "الواثق بالله". وإذ طرح "عاتيد" على عمر مناصرة دعوة الملكة الرحيمه.."العودة لا بد منها سأستعيد توازني هناك ثم أعود إليكم"، "كثيرا ماضايقوني منذ شبابي لكن لم يقدروا عليّ وأن الربّ صديق القوى العالمية"، التي قررت ردم بئر مسعود ظنا منها أن أم الماء ستختفي وتزول دعوتها للسلام فلا يعوق دموية النظام العالمي الجديد شيء.
يتعالى إيقاع الحبكة في الرواية، فالمخلوقات الجديدة حاصرت البلدوزرات ووقفت صفًّا واحدًا ثم مئات الصفوف على طول كورنيش الإسكندرية وعمقه من أبو قير حتى رأس التين، والرحيمة طلبت من الواثق بالله قيادة شعب سمكمك إلى المحيط لنشر السلام وصفات الإنسانية، وكأنها رحلة خروج ابن عربي للدعوة. وتتوالى المشاهد التي ترسم خارطة الطريق لإحلال السلام العالمي ونزع فتيل الحروب، وتكشف أن الشرّ واحد مهما تغيرت أقنعته، فغبريس الذي تمرَّد وخان الواثق بالله هو نفسه عاتيد وهو الثعلب الأحمر.
أما كليوباترا فقد عادت وقررت عدم الخلود لتنقذ مصر، وحين ماتت دفنت في مقبرة الإسكندر الأكبر تحت الماء، وفي حوارهما تحدثا عن تاريخه وموته على لسان كليوباترا، وغلب على الجزء الأخير من الرواية السردية والتقريرية التاريخية المباشرة، "جئت إليك يا قائدي بعد موتك المفاجئ عام 323 في بابل أثناء غزواتك..، قررنا نحن البطالمة أن نجعل الإسكندرية درّة العالم وقبلته، فأنشأنا مكتبة الإسكندرية ومنارة الإسكندرية ومدرسة الإسكندرية، كي يهتدي العالم بنورنا وفلسفتنا في الحياة" (ص 342) من الجزء 52.
ويخلص الحوار بين الملكة الرحيمة والإسكندر الأكبر، إلى أن على العالم أن يوحد لغته وأن يتكلم بلغة واحدة هي لغة الإنسانية والسلام، وأن تكون هي لغة التواصل بين شعوب الأرض لأن لغة الحرب ستكون نكالاً على البشر وأشد من الأوبئة والفيروسات. وعلى المصريين حمل المسؤولية قبل كل شعوب الأرض.
"الرحيمة" هي عجينة أدبية متعددة الأجناس أتت كخلاصة لما اعترك الأستاذ شبلول من تجاذبات وأحلام اقتربت من الفانتازيا والأساطير والأعاجيب والتضرع لله، فكان الروائي والشاعر والقاص والمؤرخ والمتصوف، وهو ما أسماه إدوار الخراط "الكتابة عبر النوعية".
توجد في معظم أجزاء هذه الروايات فنون السينما والرقص والشعر والفن التشكيلي والموسيقى وعالم الغناء والسياسة والصحافة. ونلاحظ أن الشاعرية ألقت هالتها على جمل بحالها في الرواية ولم يستطع أن ينأى بأبطاله عن الشعر فمعظمهم يمارس كتابة الشعر، وبدا عمر ياسين في "الماء العاشق" شاعرا، ولم يستطع أن يخفي عشقه التشكيلي ولوحات "محمود سعيد" التي تعلق برؤية تفاصيل إحداها وشرحها حتى بدت الخطوط أسطرا في الرواية.
اتبع شبلول أسلوب الإبهار للقارئ فنقل رؤيته لعوالم الإسكندرية ومكنونات أعماقها، حتى أصبحت عالمًا موازيا كل شيء فيه حيّ، فالماء العاشق وبئر مسعود كائن وأم الماء تود لو تراها وتنتمي إلى شعب الرحيمة الجديد.
وكما كانت ملحمة جلجامش تمثل الصراع الأزلي بين الموت ورغبة الإنسان في الخلود، فالرحيمة هي صراع بين الخير والشر بين الحرب والسلم وبين أطماع الاستعمار وانتهازيته، فهي الأم التي تحلم بأن تجعل العالم خاليًا من الصراعات والغل والأحقاد، وكان لتصوفها تأثير مذهل لما تحتويه من أفكار عالمية تنشر الحب والسلام، وتضرعها بالسجع الصوفي ينساب بين أسطر الرواية. فهل وصل الكاتب بذلك إلى آخر مطاف الصراعات، ربما التوق إلى سلامة العالم عبر العودة إلى نور الله فلا يحل صراعات البشر غير خالقهم، فعندما تجعلهم ينظرون للأعلى في السماوات سينصرفون عن قوى الشرّ وسيصبح الإنسان إنسانا، وإن عبر الإنسان عن هذا فإن العجز عن درك الإدراك إدراك.