قراءة نقدية في قصيدة 'ثكلى تحت جذع الصبر' للجزائرية وردة أيوب عزيزي
في قصيدة تنبض بالعاطفة والرمزية العميقة، وتجمع بين الحسية والتجربة الروحية في مشهد شعري كثيف المعاني والدلالات، تبدأ الشاعرة الجزائرية وردة أيوب عزيزي، قصيدتها "ثكلى تحت جذع الصبر"، بالتصريح بأن التعبير عن المشاعر هنا يأتي عبر الدموع والألم. "التسبيح" هنا ليس التسبيح التقليدي، بل هو نوع من التعبد الروحي الذي يتجسد في العاطفة الجياشة.
"سبّحتُ فيكَ بأدْمُعي و مَواجعي
وشَممّتُ ريحَكَ (يُوسُفًا) بمَضاجِعي"
وتأتي استعارة الشاعرة لقصة يوسف - التي تلمّح إلى ألم الفقد والاشتياق - لتُعمّق من دلالات المعاناة والرغبة في اللقاء مع المحبوب أو الحقيقة الروحية.
"ونَسَجتُ مِنْ رمشِ السُؤالِ مَتاهةً
هلْ يا تُرى أشقى برمشٍ قاطعِ"
في هذا البيت، تسائل الشاعرة عن المصير. استخدام "رمش السؤال" يعكس حالة الحيرة والتساؤل الدائم، حيث تضع الشاعرة نفسها في متاهة نفسية لا نهاية لها. والتساؤل عن "الرموش القاطعة" يوحي بأنها تتألم من هذا التردد والانقسام الداخلي الذي يرافق كل محاولة للإجابة على أسئلتها الوجودية.
"ما كان حبُّك وردةً وشممتُها
فعلامَ فاض بفيّ شَهْدَ أصابعي"
الحب هنا لا يوصف بالوردة العادية، بل هو شيء أكبر وأعمق. إنما التعبير عن الحب يأتي من خلال "شهد الأصابع" وهو استعارة تشير إلى الإبداع أو العطاء المفرط. هناك تناقض جميل بين فكرة الورد الذي نشمه والشهد الذي يأتي من الأصابع، مما يعكس طبيعة الحب الروحية والحسية في آن واحد.
"للسهد أجفانٌ وعينك لا ترى
غَـلَّـقْـتُها ، أقبِل كأول قارعِ"
تستخدم الشاعرة هنا فكرة "السهد" المرتبطة بالأرق والقلق، لكنها تشير أيضًا إلى غياب الإدراك من قبل المحبوب ("عينك لا ترى"). وهنا تناشد المحبوب أن يأتي كقارئ أول، كمكتشف أو كمن يدق الباب لأول مرة. هذا الطلب يحمل في طياته رغبة في اللقاء والاتحاد بعد طول الفراق والانتظار.
"وضّأتُ روحي كنْ لطهري قبلة ً
فاضت على كفَّ الدعاءِ مطامعي"
في هذا البيت، ترسم الشاعرة صورة تأملية وروحانية، حيث "وضأت" روحها كما توضأ المؤمن للصلاة. وهي تنشد قبلة طهر من المحبوب، وتكشف عن طموحاتها الروحية التي فاضت بدعائها. هذه الطموحات ليست مادية، بل ترتبط بالتواصل الروحي والتسامي.
"فهلِ ارتضى محرابُ سِرِّكَ مَريمًا
مثلي بقلبٍ للتبتّل واسع ؟"
هذا البيت يحمل بعدًا دينيًا واضحًا، حيث تستدعي الشاعرة "مريم" رمز الطهارة والتبتل. تسأل هل يرضى المحبوب بتلك الروح المتبتلة المتعطشة للتواصل معه، مما يعكس التوق العميق للاتحاد الروحي والخلاص.
"أسّاقطتْ بنخيلِ روحي شمعة ٌ
أوقـدتُــهـا والعمرُ يصرخُ سارعي"
في هذا البيت، تعود الشاعرة إلى رمزية النخيل والشموع. الشمعة التي تسقط من "نخيل الروح" هي إشارة إلى الطاقة الحياتية التي تبدأ في الذبول، وكأن الشاعرة تستعجل الزمن وتدرك أن العمر يصرخ لها لتسارع في تحقيق ما تصبو إليه.
"أنثى بصفو الماءِ كنتُ حبيسة ً
حتى تآختْ صورتي و مَدامعـي"
الشاعرة هنا تصف حالتها كأنثى تعيش في حالة صفاء الماء، لكنها حبيسة هذا الصفاء. دموعها أصبحت جزءًا من صورتها، مما يعكس التماهي التام بين الحزن والذات. هذا البيت يشير إلى تلاشي الحدود بين الداخل والخارج، وبين الذات والعالم.
"أنا دهشةُ العُشَّاقِ ؛ مرآةُ الهوى
ورحيقُ أنثى فائضٌ بأضالعـي"
الشاعرة تصف نفسها هنا بأنها دهشة العشاق ومرآة للهوى. إنها تجسيد للدهشة والعاطفة، ورحيقها يفيض داخلها. هذه الصورة تعكس القوة الأنثوية العاطفية والروحية، حيث تمثل نفسها كمصدر للإلهام والشغف.
"يا صبرَ مَنْ صبروا وما بيَ حيلة ٌ
فالحرفُ منْ جَمرٍ بصدرٍ لاسعِ"
الصبر هنا يأخذ بعدًا أعمق، إذ تشير الشاعرة إلى أنها فقدت القدرة على الاحتمال، وأن كلماتها أصبحت جمرًا في صدرها. هناك إحساس بالمعاناة الشديدة التي لا تستطيع التعبير عنها سوى عبر الحروف التي تنبض بحرارة الألم.
"سبّحتَ في لججِ الغيومِ به وما
دثرتُ حُزنَــكَ فاحتوتكَ مجامعي"
في النهاية، تعود الشاعرة إلى فكرة التسبيح، لكنها هذه المرة تسير في لجج الغيوم، وهي صورة تعكس الغموض وعدم الوضوح. ومع ذلك، فهي دثرت حزن المحبوب واحتوته، مما يعكس احتضانها التام لألمه، وأنها تحيط به بكل مشاعرها وأوجاعها.
قصيدة "ثكلى تحت جذع الصبر" تتسم بأسلوبها الصوفي المليء بالرمزية والتأملات الروحية والعاطفية. تجمع الشاعرة بين الصور الدينية والتجارب الحسية بطريقة عميقة ومعقدة. تحكي عن الحب من منظور روحاني يتجاوز الجسد والمادة، وتسعى إلى الاتحاد الروحي والعاطفي مع المحبوب أو مع الله. هذه القصيدة تعد نموذجًا للشعر العميق الذي يجمع بين الألم والصفاء الروحي.
وفيما يلي نص القصيدة:
سبّحتُ فيكَ بأدْمُعي و مَواجعي
وشَممّتُ ريحَكَ (يُوسُفًا ) بمَضاجِعي
ونَسَجتُ مِنْ رمشِ السُؤالِ مَتاهةً
هلْ يا تُرى أشقى برمشٍ قاطعِ
ما كان حبُّك وردةً وشممتُها
فعلامَ فاض بفيّ شَهْدَ أصابعي
للسهد أجفانٌ وعينك لا ترى
غَـلَّـقْـتُها ، أقبِل كأول قارعِ
وضّأتُ روحي كنْ لطهري قبلة ً
فاضت على كفَّ الدعاءِ مطامعي
فهلِ ارتضى محرابُ سِرِّكَ مَريمًا
مثلي بقلبٍ للتبتّل واسع ؟
أسّاقطتْ بنخيلِ روحي شمعة ٌ
أوقـدتُــهـا والعمرُ يصرخُ سارعي
أنثى بصفو الماءِ كنتُ حبيسة ً
حتى تآختْ صورتي و مَدامعـي
أنا دهشةُ العُشَّاقِ ؛ مرآةُ الهوى
ورحيقُ أنثى فائضٌ بأضالعـي
يا صبرَ مَنْ صبروا وما بيَ حيلة ٌ
فالحرفُ منْ جَمرٍ بصدرٍ لاسعِ
سبّحتَ في لججِ الغيومِ به وما
دثرتُ حُزنَــكَ فاحتوتكَ مجامعي