جمانة الطراونة تحلل 'تمثّلات الحداثة وما بعدها في المسرح العماني'
انطلاقا من اطلاعها على المشهد المسرحي العُماني ومن خلال متابعة المهرجانات المسرحية المحلية والمهرجانات المسرحية العربية التي شاركت بها الفرق المسرحية العُمانية بتقديم عروضها، جاءت فكرة كتاب " تمثلات الحداثة وما بعدها في المسرح العُماني"، للشاعرة والباحثة جمانة الطراونة، الصادر عن الهيئة العربية للمسرح في الشارقة، والذي يندرج ضمن الإصدارات التي سيتم تدشينها في مهرجان المسرح العربي بدورته الـ15 التي ستحتضنها مسقط خلال الفترة 9-15 يناير/كانون الثاني المقبل.
جاء الكتاب في قسمين قدّمت في الأوّل تمهيدا نظريّا لمفهوم الحداثة، ونشأتها، والحداثة العربيّة وآفاقها وتّطلعاتها وتطوّر المدارس المسرحيّة من الكلاسيكية إلى ما بعد الحداثة وفلسفة ما بعد الحداثة، وخصّصت القسم الثّاني للمسرح العُمانيّ والمدارس الفنيّة وقدّمت تطبيقات على عدد من العروض.
تقول الطراونة تكونت لدي فكرة عن المشهد المسرحي العماني من حيث التنوع في الاشتغالات، وطرح المواضيع، ومواكبة التطورات لكل ما هو جديد، ولمست في أغلب النصوص التي قرأتها والعروض المسرحية التي شاهدتها محاولات جدّية للانطلاق من أرضية الأصالة والتراث بغية الوصول إلى نماذج حداثية وما بعد حداثية، فتأسس كتاب تمثلات الحداثة على تحليل أربعة نماذج لعروض مسرحية عُمانية قمت بتحليلها وبيان وجه من أوجه القراءات المتعددة التي تفضي لها هذه النصوص.
تسلط الطراونة الضوء على مفهوم الحداثة حيث توصلت بأنه لا يوجد مفهوم محدّد للحداثة، لكنها بشكل عام إعادة بناء تصور الوجود بكل تفاصيله وفقًا لمحورية العقل، ويمكن التعبير عنه بأنه التوجهات الفكرية والسلوكية التي سعت للقطيعة مع كل القيم التي سبقتها، وقد ارتبط مفهوم الحداثة بعدة مفاهيم منها العقلانية، والذاتية اذ أصبح الإنسان يدرك نفسه كذات مستقلة، واتباع المنهج التجريبي والحسي، وجعل العلم هو الموجّه الذي يقود الفلسفة، والتحرر والتنوير، وبذلك تكون الحداثة نهضة بأسباب العقل، والتقدم العلمي، والتحرر من الماضي، أو ثورة شاملة ضد الرؤى التقليدية وإعادة تصور الوجود وفقا لمفهوم العقل والعلم.
ثم تحدثت عن فلسفة مابعد الحداثة :التي وجدت المناخ المناسب لها من خلال أعمال رولان بارت. وفوكو وجيل دولوز وجاك دريدا وجاك لكان واصبح هذا التلاقي هو البداية الحقيقية لما عرف بحركة ما بعد الحداثة الفلسفية.
في تطرقها للحديث عن الحداثة العربية تشير إلى أنه "مع خفوت بريق الحداثة الغربية سطع بريقها في الفكر والثقافة العربية، وبشكل خاص الابداع المتمثل بالفن والأدب والمسرح، وبالعودة للمرجعية المعرفية والفلسفية للحداثة، بوصفها مفهومًا تشكل في سياقات تاريخية مرتبطة بالمجتمعات الغربية، فإن الحداثة العربية على الرغم من أن بذورها قد نمت مع سقوط الدولة العثمانية ودخول الاستعمار الا انها بقيت سطحية، وإن العقل العربي لم يصل إلى فهم معرفي للحداثة الغربية ومنجزاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، ولم يقدّم مساءلة نقدية للحداثة الغربية، وبقي سؤال الحداثة يشغل مساحات واسعة في المدوّنة الفكرية العربية.
وتضيف "انطلق المسرح في عمان من النشاطات المدرسية التي كانت تقام في المدارس السعيدية على شكل اسكتشات مسرحية قصيرة، وهذا ما أكده كثير من المدرسين في المقابلات التي أجراها معهم د.محمد بن سيف الحبسي، حيث لم يتوفر لديه ما يوثق أي نشاط مسرحي خارج إطار المدرسة قبل عام 1970 وإن وجد، وكان موضوع هذه المسرحيات مستوحى من الموروث الشعبي، والقصص التاريخية، وقصص المعارك، والغزوات، والشخصيات الإسلامية وبعد ظهور المسرح المدرسي نشطت الحركة المسرحية في الأندية حيث انتقل الطلاب الذي كانوا يشاركون في المسرحيات المدرسية للمشاركة في الأندية مثل نادي عُمان والنادي الأهلي ولم تثبت المشاركة النسائية في تلك المرحلة إلا بعد عام 1970، إذ أن الأدوار النسائية كان يقوم بها الممثلون من الرجال.
وتشير الطراونة إلى أن عام 1974 يمثّل المرحلة الأولى لتأسيس فرقة "مسرح الشباب" وقد ظهرت هذه الفرقة في فترة الازدهار المسرحي "للنادي الأهلي" و"نادي عمان" وضمت الفرقة في بداية تأسيسها مجموعة من الهواة، وقد كان العنصر النسائي حاضرا فيها، وبدأت بتقديم عروضها على شكل مسرحيات قصيرة يتم تقديمها كل ثلاثة أشهر. وكان أول عمل مسرحي تقدمه فرقة" مسرح الشباب" هو "تاجر البندقية" لـ"شكسبير" وهذا بحد ذاته يشكل أكبر تحدٍ بسبب التباين الثقافي بين بيئة العمل المسرحي والتذوق الفني لأفراد المجتمع آنذاك. أما في التجربة الثانية للفرقة، فقد جرى الاستعانة بالمسرح العربي ووقع الاختيار على مسرحية " عيلة الدوغري " لـ "نعمان عاشور" لأنها تطرح قضايا قريبة إلى حد ما من قضايا المجتمع العماني، وبعد ذلك تم استقدام المؤلف المصري "منصور مكاوي" ليعيش في سلطنة عُمان ويدْرس عادات، وتقاليد، وتراث المجتمع العُماني، ليكتب فيما بعد أعمالا مسرحية مستلهمة من الواقع،فكتب في عام 1982 مسرحية (الوطن) التي تعد أول ملحمة وطنية تتحدث عن كفاح الشعب العماني ضد الاستعمار البرتغالي، تبعها مسرحية( الطير المهاجر) عام 1983م.
وتلفت إلى أن أول مشاركة خارجية رسمية "لمسرح الشباب"، كانت في المسابقة المسرحية الثانية لشباب دول الخليج العربي في عام 1987، التي عُقدت في الشارقة بمسرحية" السفينة ماتزال واقفة " للدكتور عبد الكريم جواد، وهي مسرحية غنائية تعتمد على الرمز، والأسطورة في تقديم رؤية سياسية ناقدة. وبعد أن نضجت التجربة والخبرة المسرحية، توجّه أعضاء مسارح الشباب الى تأسيس الفرق المسرحية الأهلية، تحت إشراف وزارة التراث والثقافة، فكانت فرقة "الصحوة "هي أول فرقة مسرحية أهلية تشهر رسميا في سلطنة عمان عام 1987.
تخصص الطراونة المساحة الأكبر من الكتاب لتطبيقات على أربعة نصوص وعروض عُمانية هي: "كأسك يا سقراط" للشاعر عبد الرزّاق الربيعي، و"ساعة رملية للغضب والظلام والحب " للكاتب بدر الحمداني، و"الحلم " للدكتورة آمنة الربيع، و"سدرة الشيخ " للكاتب عماد الشنفري. حيث رأت أن تجليات الحداثة في نص "كأسك يا سقراط" تتضح في استعمال اللفظ وتوظيف الموقف وإدارة الأحداث في غير مكانها المألوف والمعتاد عليه لتحقيق التغريب بجعل المتعارف عليه والمتفق على ماهيته غريبًا، ليمنح المتلقي فرصة التفكير والتأمل في أحداث المسرحية، ومن ث م اتخاذ القرار بالتغيير،وقد ركز الكاتب على رفض معايشة الممثل واندماجه في المشهد عن طريق التقطعات السياقية والزمنية والمكانية والحركية والصوتية والضوئية التي تحدثت عنها سابقًا، حتى لا تنتقل العدوى للمتلقي ويبقى يقظًا محتفظًا بعقله يراقب يفكر، ويحلل، ويصدر حكمه الذي سيساهم حتما في التغيير فيما بعد.
وتقول أن مسرحية "ساعة رملية من الغضب والظلام والحب" تنتمي بكل تمثلاتها لمسرح العبث الذي ظهر في ثلاثينات القرن العشرين حيث تدور في فلك اللامعقول دون الاكتراث بعامل الزمن،فكان الحوار غامضا ومبهما يفتقد الموضوعية اما شخوص المسرحية "الرجل والمرأة" فكانا يتحدثان بعبارات غير مترابطة أو متجانسة إذ ضرب الكاتب الأسس التي قام عليها المسرح الكلاسيكي بعرض الحائط، كان غياب الفكرة في النص هو الفكرة بحد ذاتها، اما المساحة التي تحرك بها الكاتب داخل النص فقد كانت بلا حدود وبسقف حرية مطلق، لتحقيق الدهشة التي تولد الصدمة.
وترى الطراونة أن روح الحداثة في نص الكاتبة د. آمنة الربيع تتجلى في التجديد في الأفكار المطروحة والتعاطي معها ومعالجتها والانطلاق من التجارب الذاتية حيث أصبح الإنسان يدرك نفسه كذات مستقلة وهذا ما قامت عليه الحداثة، فأتبعت الكاتبة المنهج التجريبي للوصول للحقيقة من خلال الولوج الى العوالم الخفية والبحث والتنقيب في خفاياها، وفي رحلة الكاتبة في البحث عن الحقيقة اختارت أن تتحرك داخل عوالم منطقة اللاوعي من خلال ثيمة الحلم وانطلقت منها للتعبير عن المكنون النفسي الداخلي كمستودع للمعرفة الضمنية وكل ما هو منسي ومكبوت لتصل بالنتيجة الى الحقيقة التي تنبع من الذات الإنسانية.
أما عن نص الكاتب المسرحي عماد الشنفري، فتوضح أنه تتمثل الحداثة فيه بما جاء في "مبدأ الذاتية" المنبثق من فلسفة ديكارت التي تعتبر أن الإنسان مركز الكون وأساس الحقيقة واليقين وأن الذات هي المصدر الأول للمعرفة والحقيقة وبتركيزه على الإنسان بوصفه مصدرًا لكل قيمة في حال تمتع بالاستقلالية المطلقة والحرية الذاتية، ليكشف عن كل ما كان يقدم فوق التاريخ، وهذا هو جوهر الحداثة فلا حداثة بدون تفكير وتدقيق وتمحيص وتعرية. أيضا تتجلى الحداثة في النص الذي قام بدوره بتفكيك الموروث ومن ثم إعادة بنائه لإسقاطه على الواقع الذي نعيشه حتى لا تتكرر أخطاء الماضي، ويرتبط العمل بنموذج التحديث الاجتماعي الذي قامت الحداثة بإحلاله بديلا عن النموذج الاجتماعي التقليدي.
وتخلص الطراونة في كتابها إلى مجموعة من التوصيات تأمل أن يضعها القائمون على شؤون المسرح العماني موضع التنفيذ والتطبيق دعما للحراك المسرحي العماني، وهذه التوصيّات هي:
أوّلا: ضرورة الانفتاح على التجارب المسرحية الحداثية العربية والدولية، وكسر الأطر التقليدية التي تحدّ من جموح المشتغلين بالمسرح، للانطلاق في فضاءات التجريب الواسعة. ثانيا: ألّا يستغني هذا الانفتاح عن الأصالة والتراث والمزاوجة بين الحداثة التراث، أي تقديم التراث بأطر حداثية. ثالثا: إقامة المهرجانات الدولية المتنوعة من قبل المؤسسات الحكومية والمؤسسات الأهلية وتظافر الجهود بهذا الخصوص من أجل تحقيق المثاقفة والاستفادة من تبادل الخبرات. رابعا : المشاركة في المهرجانات الدولية لتأكيد الحضور العماني والتعريف به. خامسا: تشجيع الباحثين والمهتمين في المسرح على دراسة التجارب المسرحيّة العمانية. سادسا: الإكثار من ورش العمل التي تقام على أيدي المتخصصين من ذوي الخبرات، التي من شأنها تسليح العاملين بالمسرح بكل ماهو جديد. سابعا: ضرورة فتح أقسام للمسرح في كليات الآداب بالجامعات العمانية.