كمال الرياحي يتساءل 'الرواية تموت ام تترنح'
الإعلان الأول
هنا كتاب للناقد والروائي الكبير كمال الرياحي، هو في الحقيقة رحلة - من رحلات السندباد البحري - إذ يمخر في عالم يتكون داخله هو أيضًا من عوالم مختلفة لكنها من جوهر الواحد. أعترف أن من الصعب الكتابة أو الإحاطة بكلية الكتاب، في مقال أو قراءة واحدة، لذا فإني ارتأيت أن أسمي ما أكتبه إعلانات، مناقشة كل فصل يحيلك بالضرورة إلى تداعيات مكثفة ويتطلب أن تخصص لكل كتاب منفصل.
في المقدمة يتحدث الرياحي عن ثيمة الموت ليس وفقًا للتصورات الدينية أو الماورائية إنما عن شيء آخر أسماه "موت المؤلف وموت الناقد وموت القارئ"، ثم ينتقل بعد ذلك إلى عملية الاستبدال أو اختفاء الأنواع الأدبية.
الرياحي في هذه المقدمة المكثفة انطلق إلى حوار عميق - عبر كتاب من 333 صفحة من القطع الكبير وفي طبعتين متزامنتين، الأولى من بيروت والأخرى من تونس - في مناقشة فكرة الرواية وفي تشريح بيئتها. بيئة الرواية هي ليست فقط الجمهور ولا النظام الاقتصادي أو الكاتب نفسه. من بعيد تبدو الأمور لمن لم يقرأ الكتاب بعد، أن هناك انفصالًا بين كل هذه التعبيرات، لكن الرياحي وعبر الحوارات الكثيرة التي يجريها وسيره في مدارك البحث يعطينا تشريحًا وافيًا عن النظام الكلي والموحد.
عمليًا، هو يعالج العلاقة بين كل الأجزاء المعرفية لنية العمل الأدبي، آخذًا منذ البدء أو منذ الفصل الأول في مناقشة تداعيات الجوهر الكلي للكتاب وهو: هل عضت الرواية لسانها؟ وقاصدًا طبعًا موت الرواية.
في الفصل الأول هناك العديد من الأفكار التي يناقشها المؤلف، أقدم بعضها بشكل سريع وهو:
1- الرواية استنفدت كل طاقتها - حسب المنظرين - ولم يعد أمامها إلا الانتحار أو حتى الجنون.
2- مفارقة كبيرة هي هيمنة الرواية على بقية الأجناس الأدبية.
3- المد الروائي - الآن على الأقل - تحول إلى كائن باهت.
4- بعد هذه المحاور ينتقل المؤلف إلى مناقشة جانب من الشخصية الروائية أو الكاتب نفسه، بعد ظهور عالم التواصل الاجتماعي، إذ ينبه إلى خطورة هذا الأمر وكأنه يقول إن العالم الافتراضي الأولي للكاتب كان يختفي خلف الشخصيات الأدبية أو شخصيات العمل الروائي. لكن الوقت قد تغير وصار الروائي صوتًا واحدًا، هو صوته الخاص. وشخصيًا أشعر أن وسائل التواصل الاجتماعي بقدر ما كانت مهمة - بالتأكيد - للكاتب إلا أنها أفقدته عالمه الخاص.
الرياحي يحدثنا عن معضلة - الظهور الملائكي إذا صح لي استخدام هذا التعبير أو حتى الشيطاني - إذ يقول إن الكاتب صار "يعاني حشرجة في صوته، حروفه متعثرة، لسانه يلحن وعيناه زائغتان"، ويكمل ليصل إلى أن "خرج الروائي يكلم الناس بصوت شخصية واحدة".
الشيء الآخر والمهم بطبيعة الحال أن الكاتب صار وجهًا لوجه مع الجمهور. وهذا في تقديري صعب جدًا ويتطلب من الروائي إعادة تشكيل نفسه حسب الوضع.
الرياحي يشرح قائلًا: "إن الجماهير تريد أن تسمع حكاء جائعًا والجماهير تصنع الحكائين"، وهو يشير إلى أن هناك علاقة جديدة نشأت بين الكاتب والجماهير، العلاقة المكشوفة والمباشرة. إن هذا يذكرني بشخصية الكاتب أو الروائي سابقًا والذي لا تجده بل يكون مختفيًا، إذا أردت البحث عنه ستجده في مقابلة صحافية وفي أضعف الحالات وحسب قناعة السلطة السياسية في مقابلة تلفزيونية. وفي اللقاءات الصحافية يختفي هذا الكاتب خلف حجب بعيدة عن الجمهور. الآن كما يقول الرياحي قد اختلف الأمر.
يناقش المؤلف معضلة التواجد المستمر بين الناس وفي تفكيك علاقة الكاتب مع جمهور وهي علاقة ليست سهلة طبعًا على الأقل في المزاج العام أو حتى في الانفجارات الذهنية للكاتب أو في لحظات الانطفاء أو التوهج.
صار الجمهور الآن أقرب إلى قراءة ما لم يجده في الشخصيات المحورية أو شخصيات العمل الروائي. في المجمل، سيتوجب على الكاتب أن يضع أو يستنبط قواعد جديدة لهذه العلاقة. ما لم تجده في الكاتب سابقًا، وبعد البحث عنه لتجده في مقهى شعبي في طرقات وأرقة جانبية، تجده اليوم أمامك في مواقع التواصل الاجتماعي وتستطيع حتى دراسة شخصياته.
بعد هذا ينتقل الرياحي إلى موضوع آخر، ضمن عالم الكاتب وهو الرواية والاستسهال. يقول: "صار التهافت على فن الرواية ظاهرة عالمية في ظل انحسار الشعر وإعراض دور النشر عنه، ويزداد بؤس هذه الظاهرة في العالم العربي). في النهاية يصل إلى ادعاء الجميع (قدرته على كتابة الرواية دون معرفة بها ودون امتلاكه لأي قدرة إبداعية... مما حول هذا الجنس الأدبي الصعب إلى أكثر الأجناس الأدبية انتهاكًا في العصر الحاضر".
عن مشكلات الكتابة في الوطن العربي يشير الرياحي إلى مسألة مهمة هي الأخرى ربما لم يتم التطرق لها سابقًا على اعتبار أنها، أو ربما يحسبها البعض من الكماليات، هي "غياب المحرر الأدبي". إن عدم وجود المحرر بالشكل الرسمي والاحترافي يفقد النص الكثير. واحدة من مشكلات الكاتب والتي أشار لها الرياحي هي أن النص لا يراه إلا الكاتب، وهو مهما كان جيدًا فإنه يمثل قصورًا ذاتيًا.
من القضايا التي يناقشها هذا الكتاب هي قضية التضليل النقدي. يقول الرياحي هنا: "ومن الأمور التي تضلل كتاب الرواية ما يكتبه النقاد، الأكاديميون منهم على وجه التحديد، إنهم يلجؤون إليهم لتقديم أعمالهم ويتباهون بحرف (الدال) أمام اسم المقدم). التضليل خطر قاتل للكاتب نفسه أولًا وللجمهور ثانيًا. شخصيًا أعتبر هذا الأمر يمثل خطرًا وفخًا، ليس للكاتب فقط إنما للجمهور الذي يتصور أن هذا تقييمًا علميًا أو أكاديميًا".
في المجمل يناقش الكتاب الكثير، بل الكثير جدًا، في عالم الرواية والكتابة وهو يسلط الضوء على مشكلات معاصرة تتواجد في بيئة الكتابة بشكل عام والرواية بشكل خاص، وفي العالم العربي تحديدًا. الكتاب أيضًا يسلط الضوء النقدي والتحليلي لنصوص أدبية مختلفة، ويناقش الرياحي فيها بتوسع ما فات عن كثيرين وسط فيضان اللامعنى.
وفي الفصل الأخير يكتب الرياحي عن الرواية العربية في كندا، مناقشًا تجارب روائيين معاصرين بين الوطن والمنفى أو حتى المستنقع.
ختامًا، وفي نهاية هذا الإعلان السريع أو الأول - وأنا أود إكمال بقية الإعلانات - أشكر كمال الرياحي، لكل هذا الجهد الكبير والأصيل، ولكل الشروحات على متن حياتنا الثقافية والأدبية سواء في الوطن أو الغربة أو المنفى، وإن كان كل شيء صار هو منفى.