كيف 'يفكر' الذكاء الاصطناعي؟ لا أحد يعرف!

رغم قدرات روبوتات الدردشة المذهلة، لا يزال العلماء يجهلون الكثير عن كيفية عملها الداخلي إذ تنتج مخرجاتها من خلال عمليات رياضية معقدة يصعب تتبعها لكن أدوات بحثية حديثة مثل "الميكروسكوب الآلي" بدأت تكشف عن أنماط تفكير واستدلال قد تساعد في فهم هذه النماذج وتوجيهها بشكل آمن.

واشنطن - لماذا تُعد روبوتات الدردشة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي ذكية جدًا وقادرة على فهم أفكار معقدة، وتأليف قصص قصيرة مدهشة، والتقاط ما يقصده المستخدمون بشكل حدسي؟ الحقيقة أنّنا لا نعرف تمامًا.

اذ ان نماذج اللغة الكبيرة "تفكر" بطرق لا تشبه التفكير البشري عبر مليارات الإشارات الرياضية التي تمرّ عبر طبقات من الشبكات العصبية، تعمل بواسطة كمبيوترات فائقة السرعة والقدرة، ومعظم هذا النشاط يبقى خفيًا أو غامضًا حتى على باحثي الذكاء الاصطناعي.

هذا الغموض يشكّل تحديًا واضحًا، لأن أفضل وسيلة للسيطرة على شيء ما هي أن نفهم كيف يعمل. فالعلماء كانوا على دراية تامة بفيزياء النووية قبل بناء أول قنبلة أو محطة طاقة. ولا يمكن قول الشيء نفسه عن نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولا يزال الباحثون في مجال "قابلية التفسير الآلي"، وهو فرع من السلامة في الذكاء الاصطناعي، يحاولون اللحاق بالركب في فهم التسلسلات المعقدة من الوظائف الرياضية التي تؤدي إلى إنتاج الكلمة أو البكسل التالي. لكنّ الخبر السار أنهم يحرزون تقدمًا حقيقيًا. ومن الأمثلة على ذلك إصدار ورقتين بحثيتين جديدتين من شركة Anthropic تتضمنان رؤى جديدة حول "تفكير" النماذج اللغوية الكبيرة داخليًا.

رغم أن الذكاء الاصطناعي القائم على النماذج اللغوية الكبيرة يبدو وكأنه "يفهم" اللغة ويفكر بشكل مشابه للبشر، إلا أن الواقع مختلف تمامًا من الناحية التقنية. فهذه النماذج لا تملك وعيًا أو إدراكًا، بل تعمل من خلال شبكة عصبية ضخمة مكونة من مليارات من المعاملات الرياضية (المعروفة بـ "المعلمات")، تنشط عبر طبقات متعددة تشبه ما يحدث في الدماغ البشري، لكن بصورة حسابية بحتة. عندما يُدخل المستخدم سؤالًا أو أمرًا، يقوم النموذج بتحليل الكلمات وتحويلها إلى رموز رقمية (تُعرف بـ "التوكينات")، ثم يمررها عبر هذه الطبقات لاختيار الكلمة التالية الأكثر احتمالًا من الناحية الإحصائية بناءً على كل ما تدرب عليه مسبقًا من نصوص

تمامًا كما أن البارامترات داخل الشبكات العصبية مستوحاة من "العصبونات" في الدماغ، لجأ باحثو شركة Anthropic إلى علم الأعصاب كوسيلة لدراسة الذكاء الاصطناعي.

ويقول جوشوا باتسون، الباحث في الشركة، لمجلة Fast Company إن فريقه طوّر أداة بحثية — نوع من "الميكروسكوب الآلي" — يمكنها تتبع أنماط البيانات وتدفقات المعلومات داخل النموذج، ومراقبة كيفية ربطه للكلمات والمفاهيم أثناء توليد الإجابة. قبل عام، لم يكن الباحثون قادرين سوى على رؤية سمات معينة من هذه الأنماط، لكنهم بدأوا الآن بمراقبة كيف تؤدي فكرة إلى أخرى عبر سلسلة من الاستنتاجات.

نحن نحاول أن نربط كل ذلك معًا ونسير خطوة بخطوة

يقول باتسون: "نحن نحاول أن نربط كل ذلك معًا ونسير خطوة بخطوة: عندما تضع أمرًا في النموذج، لماذا يقول الكلمة التالية؟ وبما أن إجابات النموذج تُنتج كلمة بكلمة، إذا أمكنك تفكيكها وسؤال 'لماذا قال هذه الكلمة بدلًا من تلك؟'، يمكنك حينها تحليل العملية بأكملها."

الذكاء الاصطناعي يفكر بشكل مختلف حتى في الرياضيات البسيطة

تُعزّز الدراسة الفكرة القائلة إن أنظمة الذكاء الاصطناعي تتعامل مع المشكلات بطريقة مختلفة تمامًا عن البشر. فالنماذج اللغوية الكبيرة لا تُعلَّم صراحةً مهامًا مثل الحساب. بل تُعرض عليها الإجابات الصحيحة وتُترك لتطور مسارًا احتماليًا خاصًا بها للوصول إلى النتيجة.

درس باتسون وفريقه مثالًا بسيطًا على هذا النوع من الرياضيات — طلبوا من نموذج تجريبي مكوّن من 18 طبقة جمع العددين 36 و59 — ووجدوا أن "العملية" التي اتبعها الذكاء الاصطناعي كانت مختلفة جدًا عن الطريقة البشرية.

بدلًا من إجراء الخطوات الحسابية المعروفة، استخدم النموذج نوعين من المنطق: تقريبي (هل الجواب في التسعينات؟) وتقديري لآخر رقم. من خلال الجمع بين احتمالات الإجابات المختلفة، تمكن النموذج من التوصل إلى المجموع الصحيح. يقول باتسون: "من الواضح أنه تعلّم إستراتيجية مختلفة تمامًا عن التي تعلمناها في المدرسة."

التفكير في مفاهيم كونية

كما بحث الباحثون فيما إذا كانت النماذج تفكر باللغة التي تُعطى بها الأوامر أم لا. يتساءل باتسون: "هل تستخدم النموذج الإنكليزي عندما تعالج محتوى إنكايزي، والفرنسي في حالة الفرنسية، والصيني مع الصينية؟ أم أن هناك أجزاء من النموذج تفكر من حيث المفاهيم الكونية بغضّ النظر عن اللغة؟"

ووجد الفريق أن النماذج تفعل الأمرين. طلبوا من نموذج "كلود" ترجمة جُمل بسيطة إلى عدة لغات، وتابعوا التوكنات (الوحدات) المشتركة أثناء المعالجة. هذه التوكنات المشتركة تمثل أفكارًا أساسية مجردة عن اللغة مثل "الصِغَر" أو "التضاد". واستخدام تلك التوكنات معًا أدى إلى تكوين مفهوم كوني آخر هو "الكِبَر" (كون العكس هو الكبير). ويستخدم النموذج هذه المفاهيم قبل أن يُترجمها إلى لغة معينة للمستخدم.

وهذا يعني، بحسب باتسون، أن "كلود" يمكن أن يتعلم مفهوم "الصِغَر" في لغة واحدة ثم يطبّقه في أخرى دون تدريب إضافي. دراسة كيفية مشاركة النموذج لما يعرفه بين السياقات المختلفة أمر مهم لفهم طريقة استدلاله في مجالات متعددة.

النماذج اللغوية تخطط وترتجل

نموذج "كلود" لا يفكر فقط بالكلمة المنطقية التالية، بل بإمكانه "التخطيط للأمام". عندما طُلب منه تأليف شعر، أدرج أنماط القافية في أنماط معالجته. مثلًا، بعد أن أنهى سطرًا بكلمة "grab it"، اختار كلمات في السطر التالي تُمهّد لاستخدام كلمة "rabbit" في الخاتمة.

يقول باتسون: "أحد زملائي لاحظ أنه عند نهاية السطر بـ 'grab it'، وقبل حتى أن يبدأ السطر التالي، كان يفكر في 'rabbit'." ثم قام الفريق بالتدخل في تلك اللحظة تحديدًا، وأدخلوا إما نمط قافية جديد أو كلمة نهاية جديدة، فقام النموذج بتعديل خطته وفقًا لذلك واختار مسارًا لغويًا جديدًا يؤدي إلى قافية مناسبة.

هذه الملاحظة تُعد من المفضّلة لدى باتسون، لأنها تُظهر بوضوح كيف يقوم جزء من النموذج بالاستدلال، كما أنها تثبت فعالية أدوات المراقبة التي طوروها — أي "الميكروسكوب الآلي".

لكن هذا المثال الشعري يُبيّن أيضًا مدى ضخامة العمل المتبقي. فالعنصر الذي تم تفعيله في حالة تأليف الشعر يُمثل جزءًا صغيرًا جدًا من القدرات الشاملة للنموذج. الباحثون الصناعيون يلتقطون لقطات، كما يفعل علماء الأعصاب حين يدرسون منطقة معينة في الحُصَين (hippocampus) مسؤولة عن تحويل الذاكرة قصيرة الأمد إلى طويلة.

يقول باتسون: "استكشاف هذا الفضاء الغريب يشبه المغامرة في كل مرة، لذا احتجنا أدوات لنرى كيف ترتبط الأشياء ببعضها ونجرب أفكارًا ونتنقل بينها."

لكن إن واصلت شركات الذكاء الاصطناعي تمويل أبحاث التفسير الآلي ودعمها، فستصبح هذه "اللقطات" أوسع وأكثر ترابطًا، مما يمنحنا فهمًا أعمق لأسباب تصرف النماذج كما تفعل. وفهم تلك الأنماط بشكل أفضل قد يمنح الصناعة وعيًا أدق بالمخاطر الفعلية التي قد تشكلها هذه النماذج، وكذلك بوسائل أكثر فاعلية لتوجيهها نحو سلوك آمن ونافع.

ويُضيف باتسون أن الثقة في أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تنمو مع الوقت كلما زادت خبرتنا بنتائجها، لكنه يستدرك قائلاً: "لكنني سأشعر براحة أكبر بكثير لو كنا نعلم أيضًا ما الذي يحدث في الداخل".