مينيكه شيبر تتبع 'التاريخ المسكوت عنه' للأرامل
في كتابها الأحدث صدورا "الأرامل.. التاريخ المسكوت عنه" تغوص الأكاديمية والروائية الهولندية مينيكه شيبر في رحلة شائقة عبر التاريخ والنصوص الأدبية واللوحات الفنية والأديان وكتابات الرحالة والفلاسفة والأمثال الشعبية والصحف والمجلات والدراسات المتخصصة والتقارير الرسمية والحكايات الشخصية والأغانني الشائعة والمجهولة وثقافات الشعوب المختلفة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا كي ترسم صورة متعددة الأبعاد لنموذج الأرملة في المصادر القديمة والمعاصرة.
تقدم شيبر في كتابها الذي ترجمه الشاعر عبدالرحيم يوسف، وصدر عن دار صفصافة، ما نعرفه جيدا وما يمكن أن يبدو لنا ضربا من ضروب الخيال من أشكال الحداد وطقوسه، من معاناة الألم والفراق ومفارقات الممارسات الاجتماعية العجيبة بهذه المعاناة، من القيود المفروضة على الأرامل في الثياب والحركة وممارسة الحياة، من تاريخ التعامل المرتاب والمتشكك الذي يصل أحيانا إلى حد الاتهام بالسحر والقتل، من مظاهر الظلم ومصادرة بل والنفي من المجتمع تماما، وتقدم أيضا نماذج مضيئة لتحدي كل هذه الظروف والبشاعات، حيث أضاءت موضوعات الكتاب مختلف الزوايا التي تحيط بالأرملة، مثل: الفراق، الحِداد، الثياب الجديدة للأرملة، مصاحبة الأرملة لزوجها في الموت، اتهامها بالسحر، الجنس، الملكية والمصادرة، وأخيرا النهوض من الرماد والأسى
تلفت شيبر إلى أن حصولها على فكرة موضوع الكتاب انطلق من جزء ضئيل من كتاب "إياك والزواج من كبيرة القدمين" (2004). وتقول "ضم ذلك الكتاب حوالي عشر صفحات بحد أقصى عنها، لكن الرسالة كانت واضحة إلى حد كبير: لا تثق بامرأة مات زوجها. أكان هذا خوفًا من أنها قتلته؟ أم الفكرة المرعبة بأن شبح الميت المحلق ما زال يحوم في الأجواء؟ خذ حذرك أيها الخاطب عندما تحل محل الرجل الميت في فراش زوجية الأرملة. ارتبطت الأرملة بالموت – بينما أفلت الأرمل من هذا. لا بد أن هناك المزيد فيما يتعلق بالترمُّل، ووعدت نفسي بأن أعود إليه لاحقًا. بعد نشر كتاب "إياك والزواج..." شغلتني موضوعات وكتب أخرى – وهكذا تسير الأمور. وفي بدايات يناير 2020، كان عليّ أن أبحث عن شيء في ذلك الكتاب الذي مضت عليه حوالي عشرين سنة. أثارت الصفحات المتعلقة بالأرامل فضولي مرة أخرى، وأجاب ناشري الهولندي - برومثيوس- بحماس على مقترحي فورًا.
وتقول "من فوق لوح القفز الضيق ذاك الذي لا يزيد على بضع عشرات من الأمثال غصتُ في عالم الترمُّل الخفي. صادفتُ أسماء شهيرة -مثل كونفوشيوس وهيرودوت وبونيفاس وابن رشد- وأسماء أقل شهرة لرحالة أوائل ومؤرخين وفلاسفة بتعليقاتهم على الأرامل، والحداد المطوَّل الإجباري أو غير الإلزامي، والعفة الاختيارية أو المحددة، واختيارهن الشائع للانتحار. هنا قابلت شذرات من مواد في دروب غير متوقعة، وهناك قفزت تفاصيل من تقاليد شفهية ومكتوبة. بالإضافة إلى نصوص الموظفين الاستعماريين والمبشرين والرحالة المتأخرين، أضيفت معلومات بفضل أبناء البلاد المحليين الذين رصدوا وضع الأرامل. تنامى الحصاد ليغدو مجموعة ثرية من الملاحظات والتأملات (الذكورية بالأساس).
وترى شيبر إن الارتياب في الأرامل شائع إلى حد مدهش. وكأنه لا بد من إبقاء الموت محاصرًا عن طريق تحميل النساء بطقوس وممنوعات بعد موت الزوج. ومثلما حدث في التاريخ الغربي منذ بضعة قرون، ما زالت الاتهامات بممارسة السحر تلعب من وقت لآخر نفس الدور المأساوي في أجزاء أخرى من العالم، خاصةً في القرى التي يضنيها الفقر. في عدة مجتمعات، يجري التمسك بعادات قديمة تذل الأرامل. لا توجد فقط اختلافات ثقافية هائلة، لكن هناك اختلافات فردية أيضًا بين الأرامل. كل شخص فريد، والبعض يتمكن من التعامل مع الخسارة الكارثية أفضل من الآخرين. للوهلة الأولى بدت بياناتي وموادي من كل مكان لا تزيد كثيرًا عن مجموعة غير مترابطة – إلى أن ظهرت، ببطء لكن بثبات، ملامح التماسك. أحيانًا يكون الإصرار مجزيًا. مثل زهرة القمر الأفريقية التي لا تتفتح إلا في ضوء القمر. من يصبرون سيرون في النهاية وريقاتها وهي تتفتح.
وتوضح "لطالما فاقت الأرامل من النساء في العدد الأرامل من الرجال، وأغلب هؤلاء الأرامل تزوجوا مرة أخرى، في الأغلب من نساء أصغر سنًا دائمًا. لهذا ولأسباب أخرى - من ضمنها الحرب- يموت أغلب الأزواج قبل زوجاتهم. وفقًا لتقدير أُجري عام 2021، توجد 258.5 مليون أرملة في كافة أنحاء العالم، واحدة من كل عشر أرامل فيهن تعيش في فقر مدقع. ولطالما جرى تجاهل هذا البُعد الديمغرافي، حتى من جانب حركات المرأة. في كتابها "عالم من الأرامل" (1996)، كانت مارغريت أوِينز أول من سلط الضوء على الوضع القانوني والاجتماعي الضعيف للأرامل في المجتمعات الأفقر، مع تركيز خاص على أفريقيا وآسيا. وفي عام 1998 أشارت مجلة (Index on Censorship/مؤشر الرقابة) - التي تركز على حرية التعبير والكتابة في أنحاء العالم- إلى قضية خاصة بالأرامل تحت عنوان "الأرامل، الحياة والموت": "بالرغم من انتشار جماعات حقوق الإنسان والاهتمام المتزايد بحرية التعبير عبر العالم، لا توجد جماعة صامتة وغير مرئية مثل أرامل العالم. تسقط الأرامل من حسابات الجميع. هن ضحايا التقاليد التراثية والممارسات في أجزاء كثيرة من العالم، وهن الإرث غير الموجود في الحسبان من أوروبا إلى أفغانستان. هكذا يعني كونك أرملة أن تعيشي حياة من الإهمال والتمييز والتحرش والوحدة والنبذ والفقر.. دون استثناء تقريبًا". تحافظ المجتمعات المعاصرة على توازن دقيق بين ألفة الماضي الموثوق فيها والحاجة إلى التغيير، هذه النظرة إلى الوراء نحو ما مضى قبل أن يحظى بالرعاية المكثفة خلال الفترات الانتقالية. هناك حالة من التشبث الشديد بالطرائق والعادات القديمة على نحو خاص في المجتمعات الأصغر حجمًا، بينما في المجتمعات الصناعية الحديثة تعاني السلطة والأخلاقيات التقليدية من الأخطار.
وتشيرشيبر إلى أنه في أقدم النصوص المكتوبة، جرى جمع الأرامل مع اليتامى، مع التأكيد على عجز الاثنين. لا بد أن الحاجة لتقديم النساء دون أزواج باعتبارهن تابعات ومفتقرات إلى الكفاءة كانت حاجة هائلة، مع صياغة النكات عن هذه الظاهرة قبل آلاف السنين؛ لا.. لا يمكن لأرملة أن تعيش بدون زوج وفقًا لأي احتمال، لكن في سعيها للبحث عن شريك جديد، ستجعل من نفسها أضحوكة بتوسلها المكشوف لنيل اهتمام الذكور. وفقًا لقول مأثور ساخر على لوح طيني عمره أربعة آلاف عام باللغة المسمارية السومرية: "تقدم الأتان الأرملة استعراضًا بالضراط". تظل النساء الأرامل مصدرًا للسخرية في الرسومات الكاريكاتورية. في مثال منشور، تجلس امرأة هائلة الحجم على دكة إلى جوار رجل ضئيل زري الهيئة بعض الشيء. يقول النص المكتوب بالأسفل "هل يمكنك أن تحفظ سرًا؟ إذن سأخبرك بما كان سببًا لوفاة زوجي". في لوحة أخرى، حيث نرى الموت بمنجله قادمًا ليقبض روح زوجها، تعلق المرأة "مرحى، هذا أقل ما نقلق بشأنه". لقد ارتبط الترمُّل تقليديًا بالخواء. باللغة السنسكريتية، تعني كلمة "ﭬيدهوا": المعدمة، وكلمة ﭬيدواتا اللاتينية (جعله معدمًا، أفرغه) هي جذر كلمة أرملة في لغات أوروبية عديدة، منها witwe (الألمانية) veuve (الفرنسية) weduwe (الهولندية). لكن وضع الأرمل على الجانب الآخر كان في العادي قصير العمر ومؤقتًا للغاية حتى أن بعض اللغات تفتقر إلى كلمة مكافئة له على الإطلاق.
وتؤكد أن فكرة أن المرأة لا يعود بإمكانها أن تعيش حياتها الخاصة بعد موت زوجها فكرة عميقة الجذور. تعني الكلمة اليابانية المقابلة لكلمة أرملة "موبيجين" حرفيًا: "تلك التي لم تمت بعد"؛ أي أن الأرملة تجلس فقط في حجرة انتظار الموت ترقبًا لأن يحين أوانها. بالتأكيد كان هناك الكثير من الأرامل اللاتي عشن حياة مستقلة بطريقة رائعة، لكن ليست هذه هي الصورة المحفورة في الوعي العام. لقد تمتعت أهمية جنس المرء أو طبقته أو عشيرته بمكانة عالية بالنسبة لحراس التقاليد الذين كان بإمكانهم ليّ عنق القواعد لتلائم أذواقهم الخاصة، ويشمل هذا القواعد والعادات المتعلقة بالحداد. بالنسبة للرجال الأرامل كان هناك القليل من العقبات، بينما قابلت الأرامل من النساء وضعًا مختلفًا تمامًا مع كل الوصايا والنواهي والطقوس المصاحبة.
وتبين شيبر "لكل أرملة قصتها. فبالنسبة للأرامل الشابات الجذابات أو هؤلاء اللاتي يملكن المال نُظر إليهن على أنهن يَتُقن إلى زواج جديد، بينما هؤلاء اللاتي تُركن مفلسات كانت لديهن هموم أخرى. في العالم الغربي، اختفى الكثير من الطقوس والعادات الأقدم، لكننا نفهم أصولها. ومن بين هذه العادات ضرورة ارتداء ملابس حداد مميزة وأحيانًا حتى تكون بشعة مصممة لتمييز الأرامل عن بقية المجتمع وإبدائهن بمظهر المنبوذات. مراسم الوداع والحداد موجودة في العالم كله، لكن طقوس العديد والأسى واسعة النطاق الشائعة في بعض الثقافات تبرز في تناقض صارخ مع تلك التي تحدث في ثقافات يكون ضبط النفس فيها فضيلة. لوقت طويل كان اختيار الأرملة بمحض إرادتها أن تصحب زوجها في الموت قرارًا لا يُنظر إليه باعتباره شديد الغرابة أو غير معتاد. لقد كان هذا اختيارًا متكررًا بطريقة ملفتة من جانب الأرامل النساء عبر القرون، بينما كان استثناءً بين الأرامل الرجال. وكثيرًا ما واجهت زوجة ابن اتهامات من جانب أهل زوجها بممارسة السحر، وتحملت اللوم عن موت زوجها، وهو ما أدى بدوره إلى مواقف خطيرة نتج عنها أحيانًا موت الأرملة نفسها. في بعض التقاليد، تحظى عفة الأرامل بالتمجيد على أساس أنها وفاء أبدي للزوج الميت، بينما في تقاليد أخرى يتوجب على الأرملة أن تتزوج مرة أخرى من أحد أفراد عائلة زوجها، حتى لو كان هذا ضد رغبتها.
وتلاحظ أنه في الماضي خضعت حياة الأرملة إلى تحكم ثقيل من جانب الأوامر والمحظورات التي ما زالت موجودة إلى يومنا هذا سواء بشكل مقنَّع أو سافر. وفَّرت القواعد الصارمة إجابات لأسئلة مثل: "لمن تؤول ملكية الأرملة بعد موت زوجها؟" و"من يمتلك جسدها؟" و"من المسؤول عن الأطفال والميراث؟"، وما زالت هذه الأسئلة عن الملكية ومصادرة الملكية التي يمتد عمرها قرونًا من الزمان تلعب دورًا قانونيًا كبيرًا. لا بد أن الحياة كانت تبدو ميؤوسًا منها أحيانًا بالنسبة للنساء اللاتي لم يحملن فقط عبء الخسارة الشخصية، بل كذلك وطأة القواعد والمحظورات. تكلم مع النساء اليوم عن هذا الموضوع وسترى في عيونهن الصدمة لمجرد التفكير في السيناريوهات الكابوسية التي يعرفنها من تقاليدهن العائلية نفسها. حتى اليوم لا تمثل كرامة ومنزلة الأرامل مسألة بديهية؛ فقط الأرملة نفسها من يمكنها تحطيم هذه الصورة المشلولة لهذه الحالة المزدراة والمحتقرَة، وهناك المزيد والمزيد من الأرامل اللاتي ينطلقن متحررات من عزلتهن في مواجهة كافة الأوامر والقيود الموجهة ضدهن. والأرملة التي تتجاسر على أن تكون جريئة بما يكفي لرسم خطط من أجل المستقبل تضرب مثالاً قويًا في الاعتماد على الذات. إذا كان العالم مسرحًا، فأعداد لا حصر لها من الأرامل مستمرات في قضاء حياتهن في الكواليس، ونادرًا ما يقفن في بؤرة الضوء إلا إذا تورطن في فضيحة أو اتُهمن بقتل أزواجهن. ولوقت طويل جرى تجاهل ونبذ الجانب المظلم من تجاربهن. وحقيقة أن الأجزاء ذات التأثير الصادم الأشد في هذا التاريخ الصادم جرى إيداعها أو في طور الإيداع في ذمة التاريخ أشبه بجزيرة من الفرح في بحر من التعاسة. العالم يتغير، وبسرعة تتغير معه التصورات والآراء عن الأرامل.