
التجربة الإبداعية للكاتبة منى العساسي بمنتدى السرد باتحاد كتاب مصر
حول التجربة الإبداعية للكاتبة الدكتورة منى العساسي، تحلق أدباء منتدى السرد لمناقشة تجربتها السردية ومحاولة الوقوف على معالم هذه التجربة.
واستهل اللقاء بكلمة للشاعر السيد داود، سكرتير الاتحاد، رحب فيها بالكاتبة وبالسادة الحضور وبمنتدى السرد الذي يحتفي بالأدباء الحقيقيين. منى العساسي كاتبة موهوبة وحققت حضورها الأدبي الكبير على الساحة منذ صدور روايتها الأولى "نقش على خاصرة الياسمين"، التي لاقت حفاوة طيبة من القراء والنقاد على السواء.
أدار اللقاء والحوار الذي امتد لعدة ساعات الشاعر والكاتب والناقد الكبير الدكتور كارم عزيز، أستاذ الأدب العبري بجامعة حلوان، وعرّف بالكاتبة:
منى العساسي، الحاصلة على ليسانس الآداب – علم النفس – جامعة الزقازيق، وولدت بإحدى قرى مركز أبوحماد بمحافظة الشرقية. نشرت أعمالها بالصحف والدوريات المصرية والعربية، وصدر لها من الروايات: "نقش على خاصرة الياسمين"، "جبل التيه"، "ليالي الهدنة"، "طيف أروى".
وصدر لها المجموعة القصصية: "وز عراقي".
دراسة حول رواية "جبل التيه" للأديب والناقد عبدالوهاب
تحت عنوان "فانتازيا الرؤى وتبدلات الواقع في رواية جبل التيه لمنى العساسي"، كتب الأديب والناقد العربي عبد الوهاب دراسة معمقة جاء فيها:
تقدم الرواية قراءة أسطورية للواقع والتاريخ معاً، في ثيمة فنية روائية لا شك أنها مبهرة للقارئ، وداعمة لمخيلته الوثابة التي تبحث عن ملامحها في واقع يسحقها. تخرج الكاتبة من مواضعات واقع خانق لبراح أسطوري يجسد من جبل التيه وأهله حكاية رمزية تعكس ظلالها على واقع يتذبذب بين التاريخي وبين المعاصر من أحداث.
للكتابة دورها الرئيس في الغوص فيما هو تحت العادي، ويجري مستتراً تحت سطحه.
الكتابة عندئذ تصبح بديلاً عن الانهيار، وحافزاً للقارئ كي يركب حصان خياله ويلحق بالغوص في تيه الجبل وأهله المسحورين.
يقول الدكتور كارم عزيز:
"ترتبط الأسطورة في أذهان الكثيرين – ارتباطاً خاطئاً – بالخرافة، حيث يتعامل هؤلاء مع كلتيهما باعتبارهما شيئاً واحداً. والحقيقة أن الأسطورة تختلف تماماً عن الخرافة. فلئن كانت الخرافة نتاجاً للخيال الصرف الذي لا يتكئ على أية مرجعية واقعية، فإن الأسطورة تفقد مصداقيتها ومجالها إذا هي لم تتكئ في الأصل على ذلك الواقع الموجود بالفعل". (1)
ورواية "جبل التيه" (2) تلعب في منطقة إنتاج صورة سردية روائية أسطورية لواقع تاريخي ومعاصر يتنفس الآن.
ولكن كيف تم ذلك؟
قامت الكاتبة ببناء حبكة روايتها على الصراع بين زمنين:
الزمن الأول: هو الزمن المعاصر متمثلاً في "خالد" الذي يعيش أوقاته وملابسات وتفاصيل حياته المُنْهِكة لقواه ولعائلته، عندما يكون دخله المادي لا يوفر حياة كريمة، بل لا يلبي الأساسيات الضرورية. ولكن ما الحكمة في أخذ خالد لهذه الرحلة عبر الزمن كي يرتد لأزمنة تاريخية، بدأت مع تاريخ قرية "الغريق"؟ والغرق يغطي معظم سكانها، ولأن الكاتبة تصنع من أسطورتها الخاصة عالماً موازياً للدمار الحادث، فإن استدعاء أسطورة "ليليث" شيطانة العواصف، ورمز الدمار الذي يتولد في جبل التيه، كي تكتمل بها الحكاية/حكاية جبل التيه وناسه.
الزمن الثاني: هو الزمن التاريخي لسكان القرية ويحضر عنهم لساحة السرد الشخصية الأيقونية "أمينة"، تلك الشخصية الأم / الوطن / ويمكننا أن نجعل منها معادلاً رمزياً لمعانٍ أخرى موازية.
وعندما تلجأ "أمينة" بسبب خشيتها على ولدها اسماعيل من السقوط في بئر الموت الذي يقضي على معظم أطفال قرية الغريق، في إشارة رمزية، لمصادرة مستقبل أهل الغريق. ومن ثم فاحتمالية سقوطهم مسألة وقت.
ولأن الرواية تلعب على خلق حالة من الجدل والصراع الدرامي والفني بين زمنين، فقد لجأت إلى جمعهما في البداية في حكاية – لا تعد أبداً – خرافية، وإن بدت في البداية هكذا.
ورواية "جبل التيه" تعتمد على الزمن الأسطوري الذي ينضم تحت لوائه الزمنان السابقان: المعاصر (خالد) والتاريخي (السيد/اسماعيل وشقيقه ربيع، وأمه أمينة، والأب).
وخالد، رمز الزمن المعاصر، يقول لحبيبته: "إن الحب من خلف الهاتف صعب للغاية يا مريم، فدبيب الرغبة الذي يصنعه بي صوتك قاس جداً، والامتناع عنه أشد قسوة، فماذا أفعل؟ كيف لشاب بعمري وفتاة جميلة بعمرك أن ينحرا داخلهما الشوق واللهفة لأن الظروف القاتلة بهذا البلد تحملهما من سيئ إلى أسوأ" (ص 89).
الحرمان هو العلامة البارزة في علاقات تمت تحت خط الفقر، والتكنولوجيا لن تتمكن من تعويض هذا الحرمان.
الكاتبة تؤكد باستعراضها لتفاصيل واقع وزمن خالد ومريم حبيبته، حياة معاصرة تشكل الصورة المعاصرة لوقائع من شأنها بلورة العديد من الرؤى، للأسف غالبيتها رؤى سلبية، منغصة، تدعو للهروب إما بالسفر، أو الهروب من الزمن، بإنشاء زمن آخر متخيل قد يتشكل عبر التكنولوجيا، وقد يتشكل عبر الأسطورة.
ثمة رحلة كبيرة لمقاومة سحر "ليليث". إن استدعاء الكاتبة لسحر هاروت وماروت، وللقدرات الخارقة لها والتي يتضاءل بجوارها أي سحر، والرواية تطرح عدة متكآت تستمدها من المعتقدات الشعبية، مثل المسحور نفسه لمن سحره، وتوقيع عقد اتباع الشيطان ومن ثم عصيان الله، وخروجه عن الملة، يتبع ذلك طقوس أخرى لفك السحر – ويبقى الغموض مكتنفاً كل ما يحيط بالأمر.
فخالد كأنه المهدي المنتظر، هو المسافر عبر الزمن، وعبوره من الزمن المعاصر، لقرية عمها الخراب والدمار بفعل السحر.
انعكاسات الزمن
تستخدم الكاتبة الزمن بحرفية داعمة للبناء، ومبينة لطرائقها في خلق تنويعات سردية، مرجعيتها اللعب بالأزمنة عبر المزواجة بين زمن متواتر وزمن أسطوري؛ زمن محدد وآخر مفتوح، زمن مادي متجسد في التفاصيل، وآخر أسطوري تخييلي يؤثر ويتأثر بمعطيات الحدث (الحدوتة) الأسطورية التي تعمل بشكل رمزي يعكس قراءات متعددة لحدث دلالي واحد يمكن يؤكده جيرار جينيت في أنه تتبين هيئته بسرد متكرر لوقائع متكررة. ويستخدم الروائي هذا الضرب إذا رأى أن الحدث ضروري الذكر حتى يقوم بترابط الأحداث.
والزمن الواقعي يتمثل في حكاية الشاب خالد، وأسرته وضنك العيش في الواقع المعاصر، واستحالة إتمام علاقته بحبيبته مريم بالزواج، لأن الحرمان يتولد من تفاوت الدخل المحلي أمام المعروض السلعي بالسعر العالمي، في سخرية لاذعة وبتفاصيل دقيقة واقعية. ولأنه ثمة لا معقول يطرحه هذا التفاوت، فإن هذا اللامعقول يتناسب تماماً مع تعويض هذا الحرمان بوسائل أخرى كالتكنولوجيا. وطالما أن الواقع يحرم خالد من حبيبته، فمن الطبيعي أن يتم تعويضه بوسائل أخرى، وهو استعاضته بهاتفه المحمول في تعويض حرمانه، ومن ثم فتكشف الكاتبة تدخل التكنولوجيا في انحسار المساحة الإنسانية، لصالح علاقات أغلبها زائف، حيث يرتدي الأغلبية الأقنعة في بناءات افتراضية لا حصر لها.
"أجابها خالد مهزوماً: إلى متى يا مريم؟! هل سنوقف العمر افتراضياً لنبقى عند عمر الواحد والعشرين منذ بدأنا؟ هل سأنجب منك افتراضياً؟ هل سأشعر بدفئك افتراضياً؟! إلى متى سأبقى أشاهدك عبر الهاتف؟! إن العمر يضيع سدى، وأنا جالس هنا وحيداً وأنت هناك وحيدة... إلى متى؟!" (ص 95-96).
ثمة جدل خفي بين زمن التكنولوجيا، وأزمنة أخرى تنعم بالإنسانيات. أيضاً هذه التصورات تعمل كمبرر فني في لقائه بالست أمينة القادمة من زمن آخر، زمن أسطوري يتم الربط بين الزمنين بحادث اصطدام وحريق القطار عام 2019، والغريب في الأمر أنه تقريباً يمثل زمن كتابة الرواية الصادرة عام 2020 م.
هذا الحادث هو بمثابة الفجوة التي يلج من خلالها خالد برفقة أمينة إلى العالم الأسطوري في جبل التيه، وكأنه قنطرة العبور بين زمنين يعكسان دماراً واقعياً: الأول هو احتراق ركاب القطار، والثاني ما تحدثه "ليليث" الأسطورية من دمار للبشر في جبل التيه. تشابه الدمار بين زمنين، يهشم زمناً واقعياً تراتبياً، لصالح زمن أسطوري دائري مفتوح.
ومن خلال البنيتين الواقعية والأسطورية يتولد جدل يتصاعد مع تصاعد أحداث كل عالم على حدة، والرابط بينهما دائماً هو التذكر / الرؤى التي يراها خالد وتنقل الأحداث من الثبات للحركة مثل اعتماد اسماعيل / السيد في جبل التيه على استخدام خليط عشبي، ليمرق ليقرأ ما يجول في ذاكرة "علم"، ومن ثم تجري عمليات تخاطر يتمكن بها السيد، في إشارة رمزية، لسيطرة السيد على بعض الشخصيات وبالتالي يتمكن من المتابعة والرصد والاستباق في اتخاذ القرار.
الحبكة الفنية
ظننتُ في البدء وهيأ لي غلاف الرواية، أنه – ربما – تنتمي لنمط الروايات الشبابية المنتشرة في دور نشر متعددة، وهي روايات "الرعب" التي تعتمد على بث حكايات ومعالجات لحكايات عن عوالم الجن والعفاريت، دون مبرر سوى استهداف فئات من الشباب، وكأن هؤلاء بغيتهم تلك الكتابات التي تعتد على التجسيد البصري، وتستخدم تقنيات التشويق، وغايتها التسلية، وترويج تلك الكتابات "المسلية". والملاحظ عن قرب في الآونة الأخيرة أن هذا النمط سيطر بشكل لافت على الدراما المصرية، وكأنها كتابات "الموضة / الرعب / التشويق". وإذا كانت الدراما تجد لنفسها مسوغاً لذلك، وهي عوامل أخرى خاصة بالإنتاج والتسويق وخلافه.
بينما في الرواية التي يتحكم فيها الفكر في الإنتاج، فماذا يعني انتشار هذا النمط من الكتابات غير شغل مساحات من الوعي السطحي بدلاً من طرح الوعي العميق الذي من شأنه إنتاج كتابة ذات دلالات عميقة تحفر في فلسفة وجود الإنسان ورؤيته للعالم.
ووجدتني مع "جبل التيه" أنزلق إلى تيه يرمي بأجنحته على عالم واقعي، يتجادل مع عوالم أسطورية، ومن ثم تتجلى البنية الكلية للرواية التي وجدتها عالجت العديد من القضايا، بمهارة وحرفية عالية على توظيف الأسطورة، وبث الدلالات الرمزية المتعالقة مع تفاصيل ومعطيات تاريخية.
"فقد تصور المصري القديم أنه كان في البدء محيط أزلي أطلق عليه – نون – وأن تلاً أزلياً كان أول ما ظهر على سطح ذلك المحيط، وهو التل الذي صار في التصور الأسطوري المصري أول موقع لأول أشكال الحياة، تلك الأشكال التي تمثلت في كائنات معينة (الثعابين والضفادع)، والتي رمزت أسماؤها إلى الظلام والاختفاء والذبذبة" (3).
بالطبع معالجة الزمن في رواية "التيه"، كان أحد، بل أهم العناصر التي ساعدت على إنتاج حبكة فنية تستعين بمخيلة القارئ في السعي بين عالمين يتجادلان، ويشتركان في إنتاج الدلالة الكلية. ويساعد في تشكيل الحبكة أيضاً الأحداث والشخصيات وطريقة سردها عبر عمليات التقديم والتأخير، بل والاستباق، عن طريق الرؤى والكوابيس التي تحاصر "خالد" الشخصية المركزية في الرواية وحبيبته مريم. وعبر تحولات الأسطورة تقوم الكاتبة بإنشاء لعبة تبادل الأقنعة، فـ مريم تأتي بملامح "سيدة المفتاح"، وخالد في نهاية الرواية هو هو الدكتور خالد، وحبيبته مريم وقد صارت دكتورة أيضاً.
أما أمينة الممرضة، وهي الشخصية المحورية الثانية، وهي الأم التي فقدت أسرتها بالقرب من قرية الغريق، أمينة نتيجة فقدانها لزوجها وولديها، ولأن وعيها لا يستوعب ما جرى فإنها تلجأ لمسحوق الموت الأسود المعبر عن ثقافة الغرب في وقائع الطاعون الذي اجتاح الغرب في القرن الرابع عشر.
أمينة تعيش على هيئتين يتم تبديل الأقنعة بينهما في المستويين: الواقعي / هي الممرضة، وفي البناء الأسطوري / هي أمينة الأم والرمز.
"فقد ضبطت أمينة التي كانت تعمل ممرضة في أحد المستشفيات الكبرى إثر قيامها بعدد كبير من الجرائم المتسلسلة، مستعملة تركيبة كيميائية شديدة الندرة، تحتوي نسبة عالية جداً من عنصر الرادون وعناصر أخرى مجهولة المصدر" (ص 2010).
نلاحظ في الصفحات الأولى من الرواية، أمينة عند تسوقها لاحظت عند العطار كيساً معلقاً يحمل اسم "مسحوق الموت الأسود". وبين انشغالها بالمدلول التاريخي لهذا المسحوق وبين تحولها في النهاية لقاتلة بسبب استخدامها له، تتشكل دائرة منتجة للحبكة بينهما فجوة – كما أسلفت – زمنية أسطورية في حكاية "جبل التيه" حيث التيه والضياع متجسداً في الشخصية الأسطورية "ليليث". فمن هي ليليث؟
"شيطانة العواصف من بلاد الرافدين ترافق الريح، ويعتقد أنها تحمل المرض والموت، وقد ظهرت شخصية ليليث للمرة الأولى كشيطان أو روح مرتبطة بالرياح والعواصف، عُرفت باسم ليليتو في سومر، حوالي 3000 قبل الميلاد، وهي أيضاً شخصية معروفة في كتب التراث اليهودي حيث تقول الأسطورة أنها كانت الزوجة الأولى لآدم قبل حواء وتختلف..." (4).

الهدم والبناء
تنهض "جبل التيه" على هدم ثوابت ومعطيات واقع يضن على شخصياته بحياة كريمة، لبناء عالم فانتازي بديل، غايته خلخلة صلابة وجهامة واقع، يسحق بكل صلف أحلام وطموحات شخصياته.
والهدم هنا بمعنى تجاوز معطيات واقع الشخصيات وخاصة "خالد" و"مريم" ومن قبلهم "أمينة"، بغية جذب القارئ لإعادة بناء تصورات ورؤى تخييلية جديدة، تزيح الثابت لصالح المتحول.
لم يحقق خالد غايته بالاجتماع بحبيبته، بيد أنه يسعى داخل جبل التيه لإنقاذ "سيدة المفتاح" التي تحمل روح مريم. وكأن انتخاب أمينة له لم يكن مجانياً، فمواصفاته والخريطة التي على ظهره، وجرحه العميق يدفعونه لهدم الصورة في حكاية أهل جبل التيه، بعدما سحقتهم "ليليث" الأسطورية الشريرة واحتجزت واختطفت وعذبت "ربيع" شقيق "السيد"، وربيع الذي لم يحظ بقدر مناسب من السحر الذي يمكنه من الدفاع عن نفسه، يسقط في بئر ليليث.
كما سقط من قبل خالد تحت وطأة ظروفه الاجتماعية، ولم يكن له من منقذ غير الانتقال رغماً عنه للقيام بدور البطولة / دور المنقذ في عالم "التيه".
وبين العالمين الفانتازي والواقعي تتولد مسارات جديدة، لأحداث تستمد وجودها من دماء ولحم الحدوتة الأسطورية لأهل جبل التيه، ومسألة الانتصار من عدمه متعلقة باكتمال الصورة الرمزية لجبل التيه ولرصد عذابات ربيع وسربونة.
وفي الواقع يسقط خالد، لأنه لا يمتلك مؤهلات القفز في الواقع، لكنه ينهض وينتصر في الحكاية الفانتازية، لماذا؟
باختصار لأنه يمتلك وشماً / خريطة على ظهره، مثل آخرين في الرواية.
نجده ينتصر في الفصل الأخير من الرواية وقد أصبح طبيباً، وبرفقته مريم. لاحظ أن قوى الخير تنتصر في النهاية على قوى الشر المتجمعة والمتجسدة بقوة في شخصيات مثل: "ليليث"، و"تيامات"، و"الشيطان ذو الرؤوس الثلاثة".
وأعني هنا أن سقوط خالد وتجربته في جبل التيه كان محتملاً، بينما الانتصار في العالم الأسطوري كان حتمياً. وعند العودة لعالم الواقع، يستمر منتصراً، ويشتغل مع مريم التي صارت طبيبة أيضاً.
لكن بالنسبة لأمينة فالأمر مختلف... فإنها تبدأ في وضع جيد وسعيد برفقة زوجها وولديها، بالإضافة إلى حملها في مولودها الثالث، لتزداد رحلة سقوطها بموتهم في حادث تصادم. هذا الهدم المستمر في شخصية "أمينة" هو المبرر الرئيس لوصولها في نهاية الرواية كمحكومة بالسجن، بسبب تحولها إلى قاتل متسلسل، تقتل المرضى أصحاب الحالات المستعصية.
هل لتقديمهم قرباناً للساحرة ليليث؟ كي تستبدلهم بأولادها المفقودين؟ فأمينة من سقوط إلى فقدان، إلى انتظار مرير، حتى يتحقق لها لم الشمل مع ولديها على مستوى الحكاية الفانتازيا بينما في الواقع أصبحت قاتلة. أمينة شخصية مركبة وأيضاً خالد.
معظم شخصيات رواية "جبل التيه" يتأرجحون بين السقوط والنهوض، ويعيشون بين الواقعي والفانتازي والمرور السلس بينهما، يؤكد هذه البنية الجدلية المرموقة.
رواية "جبل التيه" غنية بشخصياتها، وبأحداثها، وبعلاقتها وظلالها العميقة مع أحداث تاريخية سابقة. تنتخب قارئها العادي والمثقف معاً.
انطباعات حول رواية "جبل التيه" للكاتب والناقد أحمد عثمان
وحول نفس الرواية "جبل التيه"، كتب أيضاً الكاتب والناقد أحمد عثمان دراسة ماتعة ومدهشة تحت عنوان "انطباعات قارئ حول رواية جبل التيه للكاتبة الأستاذة منى العساسي"، وجاء فيها:
قبل الولوج:
اشتملت البداية على المفتتحين التاليين:
مفتتح مبدئي: يشمل فقرتي الإهداء الموجهتين ليس فقط لصغيري الكاتبة؛ بل لكل من يبدأ خطواته الأولى في الحياة، ليقول للقارئ المقبل على تناول الرواية: إنك مقبل على صراعات ومحاولات تتناوب بين الفشل والنجاح، بين السقوط والتحليق، ولا سبيل إلى الفوز والانطلاق إلا بالمعرفة والدُربة والمثابرة والإصرار على التغلب على المُعيقات... ولا أدري هل سأجد هذا في متن العمل الروائي – الذي بين أيدينا – أم لا، فأنا لم ألج إليه بعد، وإنما هذا الإهداء هو ما أوحى لي بذلك.
المفتتح الأساسي: أو التأسيسي – على وجه الدقة – والذي تبدأ من عنده، أو به الرواية؛ فأتوقعه تمهيداً يُرسي الأساس لما سيقام عليه من قواعد هذا العمل الروائي، فهو يحمل تعريفاً مبدئياً بشخصيات أساسية ناقلة ومشاركة في الأحداث:
كشخصية "أمينة" الممرضة الحسناء، مدمنة قراءة التاريخ والأساطير (وفق توصيف الكاتبة).
الشخصية الثانية: الزوج "حسن" الذي لم نعثر على أي معلومات عنه في هذا المفتتح سوى أنه الزوج... ثم الولدان (غير محدد عمريهما)، وإن كنت أعتقد أنهما طفلان (وفق ما انطبع في مخيلتي).
ثم مرَّرت الكاتبة إشارة في هذا المفتتح – تشي بسيطرتها على أدواتها في حذق – حين ألمحت إلى أسطورة "ليليث سيدة الغواية" والدور الذي لعبته في غواية الملكين هاروت وماروت عبر ما تحترفه من وسائل الغواية والسحر الأسود التي تنفرد بها وتجيدها، ولتكون هذه الإشارة تكأة لما سيأتي من صراع تلعب فيه الغواية والسحر دورهما بين الشخصيات.
ثم إشارة ثانوية – وأكيد لها أهميتها ودورها الذي لم نعلمه بعد – لما وقعت عين "أمينة" عليه عند العطار مِن عبوة مدون عليها اسم "مسحوق الموت الأسود"، وما توارد على ذهنها من أن "الموت الأسود" كان تعبيراً يطلق على "الطاعون"... فهل سنجد لتلك الإشارات صدى في المتن السردي عبر أحداث الرواية؟ لا أدري، فكل ما سبق كان قبل الولوج إلى المتن.
أما عن المكان؛ فقد أُشير إلى أنه قرية تسمى "الغريق" وهي مسقط رأس أمينة وزوجها.
وأما عن المدى الزمني فقد حددته "بقضاء عطلتهم"، وإن لم تحدد مدة هذه العُطلة، هل هي يوم، أسبوع، أكثر، أقل... لا ندري حتى نخوض في الرواية وأحداثها التي ستفسر كل ما سبق.
وقبل الإبحار في خضم الرواية؛ أجد لزاماً الوقوف عند الغلاف – وأحيي مصممه عليه – فقد هيأني لما أنا مقبل عليه في المتن من أجواء تتسم بالسحر والغموض يتبدى في هذا الأسود الذي يعم الغلاف، وتلك العيون الحمراء التي توحي بالسحر والشيطنة، وما يؤازرها من تيمات أخرى تتميز بعدم الوضوح، لك أن تحسبها كهوف، أو أماكن ضبابية تحصر بينها هذه العيون التي تنفث إشعاعاً كالجمر من رأس كائن غير محدد إمعاناً في التخفي، وفي نفس المسار تتبدى أربعة رؤوس مخاتلة، فقد تراها كأظافر طائر (وهي من موحيات تتعلق بالسحر والأعمال في المعتقد)، ولك أن تراها كرؤوس أفاعي تبرق عيونها بإشعاع مخيف. فإذا ما أضفنا عنوان الرواية الذي يبدو وكأنه كتب بالدم الساخن الذي مازال يقطر منه؛ لتأكد لنا أننا مقبلون على عمل غرائبي يتسم بأجواء يتآزر فيها الموت مع السحر الأسود، والغموض مع الخرافة، والأسطورية مع العبثية.
تحمل الرواية عنوان "جبل التيه"، فماذا عن جبل التيه؟
جبل التيه هو هضبة تتوسط شبه جزيرة سيناء، وسميت أيضاً أرض التيه، وبرية التيه. وجبال التيه (نقلاً عن كتاب "تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها" للكاتب والمؤرخ اللبناني نعوم شقير) هي سلسلة جبلية ممتدة تفصل بين بلاد التيه وبلاد الطور، ومن أشهر جبال التيه جبل الحلال، وهو جبل عظيم يمتد لنحو 40 ميلاً إلى الشمال الشرقي من مدينة "نِخِل". هذا عن الجبل (وبالأحرى الهضبة) فماذا عن التيه؟ التيه أو الخروج هو ما وقع على بني إسرائيل ورحيلهم عن مصر وعقابهم بالتيه 40 سنة في وسط سيناء جزاء نكوصهم ومخالفتهم أمر الله لهم بالجهاد ودخول الأرض المقدسة.
فإذا انتقلنا إلى المتن السردي، ومن خلال الفصل المعنون "عام الموت الأول" نجد أن الراوي العليم يقدم لنا ذلك الكائن الموسوم بالأسطورية والمتعارف عليه بين أهل القرية باسم "الغريق" والذي سميت القرية به، ومن أين جاءت هذه التسمية؟ فهو مقتول إثر ثأر، أُلقيت جثته بمصرف القرية، وتركها أهلها للكلاب لتنهشها، ليصبح فيما بعد كائناً أسطورياً مخيفاً، كلما مات طفل بالقرية نسب أهلها موته لهذا الغريق – القابع بالمصرف – الذي لا يشبع. يقول الراوي عنه: "كلما جاع أرسل عزرائيل ليأتيه بطعام". ويتساءل بعد سطور: "وسؤال يطرح ذاته: لماذا يختار الأطفال بالذات؟! هل هو شاذ منحرف؟! أم يفتقر لمشاعر الأبوة؟". ولم يكن هذا وليد اليوم، ولكن الغريق وخرافته يسكن مصرف القرية من زمن بعيد.
إننا أمام قرية يتمدد بين جنباتها التخلف، فهي لا تحظى بأي من مظاهر الحياة بشيء، فلا طبيب، ولا صيدلية، ولا بقالة، ولا مدرسة، ولا كهرباء، ولا وسيلة مواصلات سوى الحمير. اختصاراً معيشة بائسة. وأمام هذه الأجواء من التخلف والتردي المعيشي؛ كان لابد للخرافة أن تتمدد بين أهل القرية، وتستقر في نفوسهم كمعتقد راسخ لا يتزحزح. فالخروج من القرية ممنوع بعد الغروب، والمرور بطريق المصرف – بعد هذا التوقيت – ممنوع؛ حتى لو كان إلى القرية المجاورة التي لا تبعد عنهم سوى عشر دقائق سيراً على الأقدام. إنه وقته الذي لا ينازعه فيه أحد؛ وإلا لقي حتفه. يتشكل في أي صورة شاء، وقتما شاء. يقول الراوي:
"فساكن المصرف لا يسمح لأحد بالمرور بعد هذا التوقيت، إنه وقته وحده، يخرج من المصرف متجسداً في أي شيء كان: سيدة عجوز، أو ربما اختار الليلة أن يكون رجلاً بوجه مخيف، أو ربما يكون كلباً أسود بعيون حمراء، أو قطة سوداء، أو امرأة جميلة، أو حية ضخمة، أو أي شيء يختار...".
وتصاحبنا الغرائبية، والأجواء الأسطورية ممتدة في الفصل التالي المعنون بـ**"الوشم"** وذلك باستحضار نموذج الساحرة المسماة "تيه" وبرفقتها كل الاكسسوارات الموحية بأجواء السحر والسحرة، من غربان غرابيب، وبوم، وأفاعي لا تكف عن الفحيح، وعقارب، وروائح كريهة كرائحة الريش المحترق، وأصوات غريبة تبث الرعب في النفوس. تلجأ لها نساء القرية الأميات بأولادهن، ومعهم "أمينة" بولديها يلتمسن منها تحصين أولادهم من الموت، وإنقاذهم من سطوة غضب الغريق عليهم، وقتل الأطفال. لتظهر ليليث للمرة الأولى داخل بيت "تيه" تنادي "أمينة" بصوت كالفحيح:
"إني أنا ليليث، وإني اصطفيت ولديك لي، وإني أشمهما بوشمي، سيشبان قويان، فتيان، فلا يصيبهما مرض، ولا وهن، ولا موت".
وتلت بصوت مفزع:
"باسم سحر هاروت وماروت، وسحرة موسى، والذي طُرد من الملكوت، أهبكما قوتي وسر الخلود لتعيشا في الأرض جسدان لا يفنيان ولا يموتان".
لتحيلنا الأستاذة الكاتبة للإشارة التي ذكرت في المفتتح التأسيسي حول ليليث وأسطورتها.
فمن هي "ليليث" التي يمتد الحديث عن شرورها على مدار الرواية؟
وعبر محرك البحث غوغل بصفته الأيسر والمتاح، وموسوعة الويكيبيديا على وجه الخصوص؛ كان الآتي:
"ليليث" هي شيطانة عواصف من بلاد الرافدين، ترافق الريح، أُعْتُقِد أنها تحمل المرض والموت. عُرفت باسم "ليليتو" في سومر حوالي 3000 قبل الميلاد، ظهرت للمرة الأولى كشيطان أو روح مرتبطة بالرياح والعواصف، وأما التسمية بـ"ليليث" فيرجع إلى عام 700 ق.م، وتظهر في المعارف اليهودية باعتبارها شيطان الليل، وكبومة نائحة.
وللاستزادة يمكن الرجوع إلى الويكيبيديا حول نشأة الأسطورة، لنرى أن هناك وسوماً وردت على مدار الرواية تتعلق بليليث، كارتباطها بشجرة الصفصاف مثلاً، حيث جاء بالأسطورة أن إله السماء أمر بإنبات شجرة الصفصاف على ضفاف دجلة، فلما كبرت الشجرة اتخذ التنين من جذورها بيتاً، واتخذ طائر مخيف (ربما هو البومة) من أغصانها عُشاً له، بينما في جذع الشجرة كانت تعيش المرأة الشيطانة ليليث، فلما اقتلع جلجاميش الشجرة الملعونة وقتل التنين؛ هربت ليليث لتعيث فساداً في الأرض. من الوسوم أيضاً: ارتباطها بالثعبان الأكبر، أو التنين، أو القوة الكونية للخلود الأنثوي ويدعى "تيامات" وله دوره أيضاً في الأحداث على مدار الرواية. وقيل أن اسم ليليث جاء من الاسم السومري "لِيل" الممثل في اسم إله الهواء "أنليل" الذي يعني الريح والهواء والعاصفة، وهو أيضاً الريح الحارة التي تقتل النساء ومواليدهن أثناء الولادة، وهذا ما كان من شرور ليليث في عامها الذي أسماه أهل القرية – من كثرة موتاهم – بعام الموت حين توعدتهم بصوتها الآتي من فم الريح بقولها: "إني أنا ليليث، وهذا عامي فيكم". تقول "أمينة" عنه:
"كان الموت يأكل كل حي، يحصد الأرواح بلا رحمة، لم ينج من رحاه سوى القليلين، لقد أُبتُلع اسماعيل بكريَّ معهم".
ليرد عليها ولدها ربيع:
"ألا تذكرين أنه لم يولد في الغريق كلها في هذا العام سوى اسماعيل أخي، لا إنسي ولا دابة نُفخت فيها الروح سواه".
والمقصود هنا هو اسماعيل الوليد الذي ولد عقب موت اسماعيل الابن الأكبر وتسمى باسمه. وشرور ليليث لم تنقطع ولم تهدأ حتى لجأ من تبقى بالقرية إلى جبل التيه بالناحية الشرقية (ولها دلالتها) بعدما صبت غضبها على القرية وأهلها:
"فما من زرع ينبت فيها، ولا ماء يروي، ولا هواء، لم يعد يوجد هنا سوى الموت منذ رمتها ليليث بلعنتها".
وقد تناولت كثير من الأعمال الأدبية ليليث وأسطورتها نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
"ليليث زوجة آدم الثانية": وهي دراسة تحليلية للكاتب عز الدين راشو تتناول الزعم بأن ليليث كانت الزوجة الأولى لآدم – حسب الأساطير المأخوذة عن العبرية والنصوص المسمارية – حيث خلقها الله من تراب مثل آدم ولم ترض بسيطرته، فتمردت وهربت منه إلى الأرض واقترنت بالشيطان.
"ليليث": رواية فانتازية للكاتب جورج ماكدونالد.
"ابنة ليليث": رواية للكاتب أحمد السماري (سعودي).
"ليليث القمر الأسود": رواية للكاتب هشام شفيق.
"عودة القمر الأسود (ليليث)": رواية أخرى لنفس الكاتب.
وكما كان المفتتح واقعياً، تفاجئنا الكاتبة بنهاية واقعية، وما بينهما يمكن حصره بين قوسين كبيرين على امتداد ما يقرب من 200 صفحة من الفانتازيا والغرائبية، حيث نكتشف قرب النهاية أن كل ما دار بين هذين القوسين من أحداث إنما كان يدور في أغوار عقل "أمينة" في مستودعها بمستشفى الأمراض النفسية والعقلية، بعدما أصابتها لوثة عقلية بسبب فقد ولديها وزوجها في حادث سيارة غرقت بهم في مصرف قريتهم "الغريق" ونجاتها، كونها تعاني من نوع شديد الخطورة من الوسواس القهري جعلها تقتل المرضى التي ترى أنه لا أمل في شفائهم عن طريق حقنهم بتركيبة كيميائية شديدة الندرة تميتهم في الحال لتقدمهم طعاماً لشياطين العالم السفلي كي لا يأخذوا منها ولديها اسماعيل وربيع اللذين لم يكن لهما وجود أصلاً بعد غرقهما. بقي لدي بعض الإشارات التي صادفتني فيما قرأت، وأقول بعض وليس الكل، منها:
نقل واقعة حقيقية مأساوية حدثت بالفعل ونسبتها إلى ليليث على لسان "أمينة" في تحذيرها لخالد ومطالبته بالهروب من المحطة، لِما تراه من شر ليليث القادم مع الشروق. أعني بها واقعة جرار القطار المندفع الذي اقتحم رصيف 6 بمحطة مصر فقتل من قتل، واشتعلت النيران جراء هذا الاقتحام للرصيف وكل ما عليه من منشآت وبشر كان يفر والنار ممسكة به. هذا الحادث المأساوي الأليم وقع في 27 من فبراير/شباط سنة 2019 والرواية صدرت طبعتها الأولى سنة 2020 (يمكن الرجوع إلى المسرود عنها من ص 41 حتى ص 47). ونجد إشارة لسنة الواقعة يأتي على لسان الشاب خالد (ص 54) رداً على سؤال اسماعيل وهو يهمس في أذن أمه: من هذا؟ كيف تبعك إلى هنا؟ فنظر "خالد" له وقال: أنا قادم من العام 2019 وقد شاهد بعينيه واقعة القطار مع أمينة أم اسماعيل وهما بالمحطة.
نُثرت شذرات فسيفسائية في مواضع متعددة من الرواية أوحت إلى قناعاتي أنما رمزت الأستاذة الكاتبة بـ"ليليث" إلى الكيان الصهيوني حديثاً ويهود بني إسرائيل قديماً، أذكر منها:
أ. ما جاء على لسان أمينة في حديثها لخالد حين سألها عن ليليث، فقالت:
(إنها ليليث، قد دنست أرض مقدساتكم من قبلكم بحولين إلا ثلاثة أقمار، دخلت من بين الجمع، والقوم كما المغشي عليهم، وأخذت ما استطاعت، وخرجت والقوم سكارى مفتونين) (ص 41).
ب. حين أخبرت الحية "سربونة" ابنة "تيامات" والتي تحرس اسماعيل ولد أمينة لما سألتها عن ابنها؛ فأفهمتها أن ابنها هناك بالناحية الشرقية (وسبق الإشارة لدلالتها) بعد أن خرج عن طاعة ليليث، التي صبَّت غضبها على الأرض وما عليها من حياة بلعنتها، قالت سربونة:
"قادنا القدر إلى التيه، حيث الناحية الشرقية، وما من سبيل للوصول إليه من الطريق الوحيد حيث ليليث، وعليهم البحث عن سبيل آخر للوصول إلى جبل التيه بالناحية الشرقية".
ورغم هذه السيميائية، ما يعنيني هنا هذه الفقرة التالية بدلالتها ورمزيتها والتي تقول:
"قالت الحية: سأبتلعك أنت وصاحبك، وسأسري بكم في نفق شُقَّ تحت الرمل بعيداً عن أنف ليليث" (ص 49).
ج. بعدما وصلت أمينة وخالد إلى جبل التيه حيث ولدها اسماعيل وقومها، وتم اصطحابهما إلى قاعة العرش، رأيا على جانبي العرش اصطف اثنا عشر كرسياً في قمة كل منها رأس حية، يسمى مجلس الاثني عشر، ومعروف دلالة الاثني عشر أسباط بني إسرائيل.
د. ذكرت النجمة السداسية في أكثر من موضع بالرواية منها: القول بأن ختم نجمة سداسية غير مكتمل، ولن يكتمل إلا بحرق نسل آدم، فإذا اكتمل الختم؛ وجدوا روح المفتاح وفُتِح الجسر، وملكوا الأرض. وفي موضع آخر يقول خالد وهو يقص الرؤيا التي رآها، ومنها:
"... ورأيت غرفة الخلاص، ورمحاً مغروساً في جثة متحجرة محاطة بنجمة سداسية، فانظروا ماذا ترون" (ص 169).
هـ. بقيت إشارة محيرة، في صفحة 76 أنه عندما سأل خالد الصبي عبد الله: هل تحب السيد؟ فقال:
"نعم، فمنذ أتى بنا القدر إلى جبل التيه ونحن ضائعون هنا، ولولا السيد لكنا هلكنا. فقد أبلغني أبي بأن السيد في سالف العهد بالغريق (قريتهم) لم يكن من أثريائنا، ولا من عبيدنا، ولا من قارئينا، ولا مؤدبينا، لكن القدر اختاره لأن يكون السيد، فمُنِح العلم والسحر والبصيرة، فسادنا وساوى بيننا، فلا عبيد الغريق ظلوا عبيداً، ولا سادتها سادوا، كلنا نعمل، وكلنا له قدره واحترامه".
هذه الإجابة بلا شك تشير إلى نبي، فهذه صفات نبي، ترى من يكون المقصود؟ خاصة بعد إشارة أخرى تفيد أن أثرياء القرية قبل الخروج كانوا يتخذون من المسيحيين عبيداً ومع النزوح إلى جبل التيه صاروا أحراراً فلا عبيد ولا سادة، الكل يعمل وله قدره، أي أن السيد صاحب هذه الصفات جاء بعد المسيحية...!
في النهاية أرى أن الرواية تحتشد بالكثير الكثير الذي لا يمكن حصره أو تناوله في هذه الانطباعات المتعجلة، التي لم تحط إلا بالقليل منها وفق ما تيسر لي وأفاء الله به علي.
مقاربة نقدية في رواية "نقوش على خاصرة الياسمين" للكاتب والناقد مجدي جعفر
وتحت عنوان "مقاربة نقدية في رواية نقوش على خاصرة الياسمين لمنى العساسي"، كتب الأديب والناقد مجدي جعفر:

ستظل شخصية "الياسمين" التي قدمتها منى العساسي في روايتها الأولى، عالقة بالأذهان، يستعيدها القارئ، ويعاود تأملها، ويستعيد ما مرت به من أحداث، فهي من الشخصيات التي لا تُنسى. الفتاة المأزومة في زمن العولمة، ومعاناتها من الغربة والاغتراب، الغربة المكانية والغربة الزمانية. فبعد ظهور النفط في دول الخليج العربي، برح المصريون الديار بحثاً عن لقمة العيش والعمل في تلك الدول، وطاب للكثيرين الإقامة والاستقرار على أراضيها. و"محمد" والد "الياسمين" واحد من هؤلاء، وولدت "الياسمين" لأب مصري وأم شامية على أرض المملكة العربية السعودية، وأخذت "الياسمين" جمال أمها، الابنة الوحيدة للتاجر السوري الثري، فعاشت مرفهة ومدللة، فوالدها جعلها تعيش في مستوى اجتماعي واقتصادي لا يقل عن المستوى الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه صفوة المجتمع السعودي إن لم يفقه. وأحبها محمد المصري، وبعد زواجه منها، واصل ما كان يفعله والدها معها، فلا يرفض لها طلباً أبداً، ولا يضن عليها بشيء مهما ارتفع ثمنه.
وجاءت "الياسمين" بارعة الحُسن، حلوة الملامح، عذبة التقاطيع، يأسر جمالها كل من يراه.
وكما في الحواديت، يسقط من قرص الشمس، فتى جريء، مغوار، فتمتد يده ليقبض بها على ذراعها، ويمطرها بعبارات الغزل والهيام، ويقبلها، لترتبك، وبسرعة البرق يدون لها رقم جواله، ويقول لها: أنت لي...
إنه "علاوي" الشاب الإماراتي، البدوي، صاحب الشركات التي تعمل في السعودية والإمارات ومصر وإسطنبول والعديد من دول العالم. وهذه من ملامح العصر الجديد، الشركات الاقتصادية العملاقة ذات رؤوس الأموال الضخمة، التي تجاوز تحكمها في الأفراد إلى الدول ذاتها. وهذا "العلاوي" دارت بينه وبين "الياسمين" قصة حب عنيفة، وصار دنياها كما صارت دنياه.
و"الياسمين" مولعة بقراءة الروايات، وخاصة الروايات العالمية، وتكتب الخاطرة والقصة القصيرة، وحبيبها البدوي مولع بالشعر النبطي، قراءة وكتابة، ويتطارحان الغرام ويتبادلان الرسائل على أحد المنتديات. وما نشرته الياسمين على المنتدى تحت مسمى "خواطر" هي قصائد نثر بامتياز، ولم تأت هذه القصائد عبئاً على السرد، بل وظفته الكاتبة توظيفاً رائعاً، جعل السرد أكثر تدفقاً وحيوية، لغة وجدانية محلقة. كما وظفت الوسائط الحديثة من الموبايل إلى وسائل التواصل والمنتديات توظيفاً جيداً، وكان لهذه الوسائط دورها المهم، وبرهافة شديدة آنسنتها الكاتبة. والكاتبة على وعي وإلمام كبيرين بالمفاهيم الفلسفية والنفسية الجديدة، ودراستها في علم النفس ساعدها على فهم شخصياتها، وتحليل نوازعها النفسية، وساعدتها هذه المعرفة أيضاً على أن تكون رؤيتها للعالم أكثر نضجاً واكتمالاً. فالياسمين تعرضت لسلسلة من الحوادث، أودت بها إلى الاكتئاب، والعزلة. فالقشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل العربي، هو زواج علاوي من غيرها، فانتصر لتقاليد البادية وتزوج من ابنة العم! والسؤال الذي يلح على ذهن القارئ وهو يقرأ الرواية، هل هذا الحب الكبير يمكن أن ينتهي بهما إلى الزواج؟ لقد كانت الصدمة الحضارية للياسمين عندما تحلقت مع علاوي في أحد المطاعم الفاخرة حول الطعام، فنحى الشوك والملاعق والسكاكين جانباً، وراح يلتهم الطعام بيده، فاستاءت الياسمين، ووجلت وجزعت، فحزن وأسرها في نفسه. هل يمكن أن تلتقي حضارة وثقافة الوادي بحضارة وثقافة الصحراء؟ فالياسمين فيها جينات الحضارة المصرية والشامية وهو فيه جينات البادية، فغلبت عليه رغم قشرة الثقافة. هل هي إشارة رمزية من الكاتبة، وكأنها أرادت أن تقول يصعب التلاقي بين الثقافتين؟
إن ردة فعل زواج علاوي على الياسمين، كان قاسياً وعنيفاً، فاستلت من المطبخ سكيناً وراحت تغرسها بعنف في خاصرتها وفي مكامن الشهوة التي تذكرها بعلاوي، فأرادت أن تربط ذكراه بالألم فتنساه، فأحاطت خصرها بعشرات الطعنات، ولزمت مصحة نفسية لأيام وأسابيع حتى برأت، ورغم عمليات التجميل، ظلت آثارها تشكل نقوشاً حول خاصرتها!
والياسمين تعرضت في طفولتها، فيما قبل مرحلة البلوغ بقليل، لاعتداء جنسي بشع من شاب عشريني، كان له هو الآخر أثره البالغ على نفسها. وكانت الكاتبة بارعة وهي تضع دائماً بطلة نصها في مواقف جديدة لتفجر الوعي لديها، ولدى القارئ أيضاً. فالحوادث التي مرت بها الياسمين وربط الأحداث ببعضها البعض والمسارات التي تتحرك عبرها شخصيات الرواية كلها، كل هذا يحتاج إلى وقفة، لنؤكد فيها على وعي الكاتبة بالأصول الفنية والموضوعية التي يقف عليها العمل الروائي دون عثرات. وهذا ما نرجو أن ننجزه لاحقاً، في دراسة تليق بالكاتبة والرواية لا قراءة على عجل محكومة بزمن ومساحة محدودتين. الكاتبة تجعلنا نعيد اكتشاف شخصياتها من خلال بعض المؤثرات الخارجية، مثل إعادة اكتشاف اللوحات من خلال تسليط الأضواء أو الظلال عليها. وشخصية "فاطمة" أم الياسمين، وعلاقتها المتوترة بالياسمين، وشخصية الأب ونزوته بالزواج بامرأة عراقية، وتسميته لابنته بالياسمين على اسمها، فكانت المرارة والغصة من الاسم الذي يذكرها بها، وعودته إلى القرية حزيناً مكتئباً بعد موت زوجته المباغت. وزوجة علاوي وابنتها التي اختارت "الياسمين" اسمها في أحلامها مع علاوي، والغيرة التي تنهش قلبها، ولجوئها إلى أقذر الطرق وأخسها، للانتقام من الياسمين، فلم يزل علاوي يحبها، وتريده نسيانها، و... و... وكل شخصيات الرواية اهتمت بها الكاتبة، ورسمتها من الخارج، كما اهتمت بأبعادها النفسانية (الجوانية) وبمستوى تفكيرها، وحركتها في محيطها الاجتماعي.
جاءت اللغة متوترة توتر شخصية الياسمين، والحوار في أكثر مشاهد الرواية جاء هو الآخر متوتراً. واللغة عموماً تجنح إلى الشعرية، وتصل أحياناً إلى الشعر إن لم تكنه. وأخذ الوصف الماتع مساحة لا بأس بها، فتصف الشوارع والبيوت والغرف والأشخاص، وقد يمتد الوصف لقاعة ليحتل ثلاث صفحات، تصف لنا أو تكشف لنا عن حال ووضع المرأة السعودية، وحياة الترف والبذخ التي تعيش فيه، وتقارن بينها وبين معاناة المرأة المصرية!
وأرجو أن أكون قد نثرت ولو القليل من قطرات الضوء حول الرواية، على أمل أن أعود إليها لاحقاً في قراءة أكثر عمقاً وأكشف فيها عن كل ما تطرحه الرواية من قضايا وأفكار، والحيل الفنية التي استخدمتها ولجأت إليها، وجماليات السرد في روايتها الأولى التي تشي بكاتبة موهوبة، أنجزت بعدها روايتين أخريين هما "الهدنة" و "جبل التيه". فالكاتبة قادمة بقوة، وقادرة على التجديد والإضافة وإثراء حقل السرد العربي.
دراسة في رواية "ليالي الهدنة" للكاتب والناقد بهاء الصالحي
وقدم الكاتب والناقد والمفكر بهاء الصالحي دراسة في رواية "ليالي الهدنة"، جاء فيها:
"ليالي الهدنة ومطارحات الألم: قراءة في رواية ليالي الهدنة لمنى العساسي."
حيث يتم تصنيف الرواية أنها ذات بعد نفسي ولكن من أي زاوية؟ هي من زاوية التحليل النفسي لموقف إنساني وليس من باب المرض النفسي، ولذلك تحديداً لأن النفس الإنسانية هي مناط الفعل الدرامي، وبالتالي لا فعل درامي سوى مع البشر لأنهم الوحيدون القادرون على امتلاك البدائل ويتحملون مسؤولية أفعالهم. وبالتالي تكون الرواية ذات مدلول نفسي خاصة أن التحليل النفسي هنا مؤشر معرفي يخدم الأدب من خلال إثراء اللغة الفنية وليس شرحاً فنياً لحالة نفسية. هنا تصبح اللغة لغة فنية وليس لغة علم بعينه.
حيث تبدأ الرواية بتصدير شديد الروعة: في جوفي طائر محلق يضرب بجناحيه يبغي الحرية يرجو الخلاص.
الزمن المخادع في رواية "ليالي الهدنة" حيث تضيع الأزمنة داخل تلك الذات المزمنة بالفراق ولكنها تقع في حالة مهادنة مع أحزان الفراق تلك. ولكن لماذا المهادنة هي الباب الملكي لقراءة ذلك النص؟ العساسي كصوت قادم من بيئة ريفية مع امتلاكها للرؤية والقدرة على تحليل واقعها يكسب أعمالها نوعاً من النكهة من خلال تلك العبارة الحاكمة "إن الموت هو الخلاص الشهي" وهي آخر عبارة في الليلة الرابعة عشر بعد الهدنة.
كيف نقرأ رواية "ليالي الهدنة"؟ يمكن قراءتها على أنها رواية الشخصية بكل ثقلها النفسي وروايتها المركبة للعالم ليصبح العمل الروائي مرتباً بطريقة الاختزال لعنصر من عناصر العمل الروائي ليصبح هو المنظار والباب الملكي لرؤية الواقع على أن يتم تضمين العناصر الأخرى في السياق السردي. بمعنى أن يكون الآخر حاضراً عبر عذابات الماضي وبالتالي يستوعب الأمر رؤية أخرى للحدث من وجهة نظر الآخر. ولكن المقولة الوجودية بالأصل أن الآخر هو الجحيم، وذلك على مستوى آلام الذات ليصبح تاريخ الحزن كملهم رئيسي لفكرة الإبداع. ومن هنا يتمحور المكان داخل ذات المبدع ولكننا هنا بصدد مكان افتراضي يعكس درجة قهر الآخر وكذلك يعكس جدلية العلاقة وليست ثنائيتها، لأن الثنائية تفترض التأثير المتبادل عبر العلاقة الظاهرية ليصبح الجدل درجة من درجات الوعي المتنامي كقراءة للواقع. وبالتالي يصبح الصراع والعقدة الدرامية كأحد أبعاد الفعل الدرامي داخل مساحة الوعي الذاتي. هنا تصبح الفردية ذات البعد الانعزالي القادر على استجلاء أبعاد الرؤية من خلال اللغة. وبالتالي يصبح التحدي في قراءة ذلك العمل تحديد المصطلح السائد عبر الرواية ومدى تعبيره عن فلسفة العنوان حيث "ليالي الهدنة". ولما كانت الهدنة هي استراحة المحارب وعدم قدرة الطرفين المتحاربين على استكمال جولات القتال من ثقل الجراح الناجمة عن حركة المواجهة، ليستبين آثار المواجهة على الذات وخسائرها والرؤية تجاه الواقع لإعادة والقدرة على بناء المواقف من جديد. وإذا سلمنا جدلاً بمفهوم العتبات لقراءة النص وكذلك فكرة العنوان كبنية جنينية تتفرع من خلالها النصوص الإبداعية وهي رؤية استباقية لدى القارئ الأول للنص وكذلك شارحة. وبذلك يصبح العنوان إما دليلاً على جودة البعد المعرفي للمؤلف وقدرته على توظيف مفردات اللغة الفنية للعمل السردي لإبراز ذلك البعد المعرفي من عدمه، وهنا المهارة الإبداعية للكاتب دون غيره.
لتصبح قراءة النص من خلال عدة أسئلة:
ليلة الهدنة الأخيرة وليلة الهدنة الأولى، ما هي ملامح قراءة الذات للواقع الذي فرضه الآخر وقدرته على التحرر منه؟ وبالتالي تحليل الليلة الأخيرة والأولى وفقاً لطبيعة البداية في الليلة الأولى ومشاهدات ذلك عبر الليلات البينية.
العلاقة بين الذات والموضوع، فبأي قدر تحولت البطلة من ذات قابلة للتأثر من خلال تعديل الموضوعات القابلة للاعتبار كمؤشر وطريقة رؤية العالم؟ ليكون السؤال: من يحدد أولويات الذات؟ وبالتالي قدرة الذات على التحرر من الرؤى الموضوعية الواردة من الآخر. هنا فكرة الحرية حيث القدرة والكفاءة ما بين الذات الفاعلة والذات التابعة.
في الليلة الرابعة والثلاثين تبدأ بفعل يفيد التطهر والرؤية والقدرة على الفعل: سأهجرك. ليصبح هنا ذلك الاستعراض لمساحة الآلام المتواترة عبر الليالي الثلاث والثلاثين (33) وهي عدد مرات التسبيح عقب الصلوات، وكأن لذلك الرقم جزءاً هاماً في الوعي الجمعي.
اللغة ذات أفعال متعدية: تتأمل – جمح – مبتسمة. هنا تصبح الهدنة قراراً ولكن بغرض الرحيل واستعادة الذات لأنها استطاعت أن تجمع عبيرها المتناثر عبر زمان المحبة ولكن مع درجة من درجات الرقي الإنساني والقدرة على الغفران. ومن هنا كانت اللغة المغرقة في الآلام مع كثافتها مبررة فنياً ليخلق حالة الصفح.
وإلى تلك الليلة من المفترض أن تكون نهاية الرواية ولكنها اتبعت تقنية رواية "في بيتنا رجل" لإحسان عبد القدوس حيث جمعت قصتين في قصة واحدة: الأولى قصة إبراهيم حمدي والتي انتهت بتفجير المعسكر الإنجليزي واستشهاد إبراهيم والإفراج عن المحتجزين وذلك ليلة عيد الفطر، ثم الفصل الختامي الذي رصد التغيرات المجتمعية على تلك الأسرة الممثلة للطبقة الوسطى ليكون إبراهيم حمدي هو المثير لما كان من تغيرات نوعية لتلك الأسرة كنوع من الاستجابة للفعل الوطني المجتمعي وقتذاك. ولكن ذلك المعنى لا يكتمل إلا بتحليل الليلة الأولى حيث بداية الانهيار لأن محددات الذات مشتقة من الآخر حيث اعتبرت نفسها من خلال تلك العبارة: كيف تصل إلى بهذا العمق.. وتهجرني بكل تلك القسوة؟ أنا الجميلة لحد الإبهار ألست أنت من قال هذا؟
هنا المرأة / الموضوع / الجسد، بدلاً من المرأة / العقل / الرؤية. وتلك أزمة الرجل الشرقي الذي يعاني من بقايا الإقطاع الفكري القائم على فكرة تسويق المرأة كرؤية الدين الشعبي أنها مرتع محايد من خلال ترسيخ الجمال الجسدي لا فكرة العقل المشارك. وتلك الفكرة المحورية متعلقة بنمط الإنتاج الزراعي المتغلغل عبر الريف المصري وقد انتقل بفعل سلفنة الواقع المصري بعد حالة التحقير التي مارستها الاستراتيجية المصرية بعد 74 وزرع فكرة التابع المميز بدلاً من الرائد المتحقق. فانتشرت تلك الفكرة في المدينة خاصة مع غزو الريف للمدينة وهو أمر تفسره طبيعة النظرة للنساء في مدينة الإسكندرية ما قبل 56 وبعد 56 حيث سيطرت فكرة النمط الواحد في التفكير بدلاً من التعددية وهو ما يفسر لنا سيطرة الحركة السلفية بالإسكندرية والإسماعيلية والشرقية وذلك لأن رواد تلك الحركة اصطدموا بالتيارات الفكرية التي تبناها هؤلاء الأجانب فكان طرحهم الاجتماعي ردة فعل مدعومة بالتفسير الموافق للنص الديني والذي يحتمل عدة أوجه. ولعل الدليل الأبرز على ذلك أن البيان الأول لجماعة الإسلام السياسي الرئيسية في العالم العربي أنها تقاوم التغريب ثانياً تطالب بإعادة الخلافة.
إذاً هنا بصدد الليلة الأولى التي فقدت الذات ما يراها حيث الانسحاق في منظار الآخر لتكون النهاية في ذلك القرار الرشيد بالهجران.
لتكون الليلة الهاربة من التصنيف مقدمة لسفر الخروج وبالتالي يسهل تصنيف الرواية في موجة تيار الوعي حيث القدرة على التعايش مع المؤثرات الخارجية ولكن الطرح من خلال الإغراق في الذاتية يتم تسويقه فنياً لأن قضية المرأة من الأمور المسكوت عنها عبر تاريخ المجتمعات الإنسانية وإلا لما حدث ما حدث لجان دارك وهي المرأة التي تمردت على دورها لتمارس فكرة العقل / النبوءة، لتنافس الفرسان في تقسيم العمل المتعارف عليه. ومن هنا نتفق على أن القاموس اللغوي عبر الرواية ينحصر في الأنا والذات والآخرون مع استدعاء التصنيفات المرتبطة بفعل تلك المراكز المتحكمة في مسيرة الوعي عبر الرواية. ولعل كثافة الضمائر الثلاثة تبدو في المقطع الأول من الليلة الثانية بعد الهدنة فقد جاء ضمير المتحدث 4 مرات مقابل هو مرة واحدة ونحن مرة واحدة. وكذلك في الليلة الرابعة والثلاثين حيث وردت بمعنى هي مع أفعال متعدية في 8 مرات في 6 أسطر مع بداية الليلة بالضمير أنا وينتهي به. دلالة الضمائر هنا تدرجها من أنا والانتهاء به ولكن عبر هي لتتسع المساحة وتتنامى قدرة الذات على تجاوز أزمتها والقدرة على تحليلها. فعل الابتسامة الذي يحمل نوعاً من السخرية حيث تلك السعادة بعد اكتشاف حمق الألم.
تقنية الفانتازيا كتطور طبيعي لعمق الألم الذاتي حيث تتلاشى نقطة الضوء في مجالات العتمة ليكون الحلم كتقنية تعبير يمكن من خلالها طرح عدد من المكاسب التي تحققت بالهجران حيث تحولت لذات جديدة قابلة للتجسد حيث القدرة على مهادنة الألم ذاته بعيداً عن مسببه حيث احترام الألم الخالق للمتعة حيث تعبير الصلابة المجروحة كما ورد في صفحة 144 السطر الخامس من أسفل الصفحة.
من خلال تقنية المسرح كمشهد ونوع من الإعلان عن التعالي على الألم تمهيداً لفكرة الخروج من معبد الرجل حيث قدرتها على تجسيد الألم وقدرة الروح على الصعود فوق فكرة الجسد لتصبح هنا الجسدنة نوعاً من إدانة الواقع القائم على تقسيم العمل الظالم للمرأة وذلك التناقض القيمي حيث فكرة المتعة، والتمرد عليها غير إعادة النظر للمرأة وفق المنظور الحضاري للنص المقدس من خلال مفهوم المودة والرحمة والرقي بالجسد. الصياغة هنا في أدب منى العساسي يقوم على الرقي خاصة أن منى العساسي قد استفادت من دراستها النفسية في صياغة لغة راقية لتطابق التحليل العلمي لمفهوم اللاشعور وقدرته على صياغة المردود النفسي للتوافقات الجمعية فلم تسقط لغتها في فكرة ردة الفعل المبالغ فيه لتصبح مفردات الحالة النفسية المتعارف عليها مترجمة لغوياً من أجل خلق حالة من التعافي وفق قانون الصحة النفسية. وهنا يحضرنا تعريف جارودي للأدب على أنه نوع من ردة الفعل والإجابة عن أسئلة الوجود لدى المبدع وهي مرتبطة بوعيه ومهنته ومعرفته ولغته.
شكراً لمنى العساسي جهدها في صياغة معجم لغوي ومعاركة اللغة حتى إنها لم تشعرنا بوطأة تكرار الأطراف الدرامية لتخلق مساحة من الزمن الداخلي وقدرتها على امتلاك ناصية اللغة ونمذجة راقية للفعل الإنساني.
وتوالت الدراسات والرؤى والمداخلات من الأدباء والشعراء: محمد عبدالله الهادي، محمد الديب، السيد النماس، السيد داود، محمود رمضان، هالة فوزي وغيرهم، ونرجو أن يتاح لنا نشر دراساتهم المعمقة في متابعة أخرى. وكل الشكر لاتحاد كتاب مصر – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء وعلى رأسهم الشاعر الكبير إبراهيم حامد رئيس مجلس الإدارة وللسادة أعضاء المجلس الموقر.