
التصنيف الجندري والجرأة في تناول المحرّمات في الرواية النسوية
مازال جدل مصطلح "الرواية النسوية" مُثاراً في الصحافة الثقافية العربية، جدلٌ يتواتر بين التصنيف الجندري لهذه الرواية، والسمات والميزات التي تجعلنا نقول أنّ هذه الرواية نسويّة، لأنّه ربّما يقول قائل.. وهل هناك روايةٌ ذكوريةٌ بالتصنيف الجندري، ومن ثمّ نبحث أسس المقولات التي ترى أنّ الرواية النسوية غدت تتفوّق على الرواية الذكورية في جرأتها وخرقها للتابوهات المجتمعية الثلاثة؛ الدين، السياسة، الجنس.
بين مؤيدٍّ ومعارض
وبحسب عديد المصادر التي تناقش إشكالية التصنيف الجندري، فإنّ الرواية التي تكتبها النساء، لها خصوصيّتها، في سعيٍ حثيثٍ لإنتاج مركزيّةٍ جديدةٍ تكون ندّاً للمركزية الذكورية، وذلك بالثورة على الواقع الاجتماعي المزري للمرأة العربية، والنظر إليها كذاتٍ تابعة، ليس لها أيّ خصوصية، تقول ما يقوله الرجل، وبذلك تكون ذاتاً تابعيةً جسداً وعقلاً وفكراً، فأغلب ثيمات الرواية النسوية تبرز التمرّد الحقيقي للمرأة على كلّ أوضاعها اللاّإنسانية. خصوصيّة الكتابة الروائية للمرأة العربية، هي التي جعلت ما تكتبه النساء العربيات يسمّى روايةً نسوية، وهذا لا يعني أنّ هناك روايةً ذكورية، لقد أصبح مثل العرف السائد أن تُميّز كتابات النساء بما يسمّى روايةً نسوية. وهناك معياريةٌ كبيرة، تميّز الرواية النسوية تتمثل بجرأةٍ ملحوظةٍ لم يعهدها حتى الأدب الذكوري.
في مقابل هذا التفصيل، الذي يميل إلى جندريّة ما تكتبه المرأة العربية، باعتباره أدباً نسويّاً، هناك نساءٌ مشتغلاتٌ في حقل الكتابة الإبداعيّة عامّةً والرواية خاصّة، يرفضن هذا التمييز، ويملن إلى القول "في أن لا علاقة لجودة النص السردي بجنس الكاتب، فالأهم بنظر هؤلاء، قدرة المؤلف على تفكيك الواقع، وإعادة بنائه، وبالتالي إثارة شغف القارئ، والمساهمة في تكوين الرأي العام". كما ورد في استطلاعٍ للرأي في هذه الموضوعة، نشرته صحيفة "البيان" الإماراتية، بتوقيع الكاتب جمال الصائغ، وتذكر فيه الروائية السورية إيمان شرباتي:"لا أعترف بما يُطلق عليه 'الأدب النسوي'، فالذي يحدّد مكانة وجودة السرد، هو البنية الدرامية، والجماليات من خلال القدرة على رسم الشخصيات، بعيداً عن جنس المؤلف". وتذهب شرباتي إلى القول بما معناه، أنّ أصحاب التصنيف الجندري، يرون بأنّ الرواية النسوية، يجب مراعاة التابوهات المجتمعية فيها، ذلك يعني إتاحة المزيد من الحرية في الروايات التي يكتبها الرجال.
طبعاً نحن لا نتّفق مع هذه الطروحات، التي تتيح للرجل تناول كلّ شيء، وانحسار حرية التناول في الرواية التي تكتبها المرأة، وهذا ينبع من النظرة الذكورية الضيقة لمجتمعاتنا إزاء المرأة، التي لم تبال بذلك، فاخترقت روائياتٌ سوريات، على سبيل المثال، غادة السمان وكوليت خوري وإلفة أدلبي الأوساط الثقافية الرجالية، منذ منتصف القرن الماضي، حضرن بنتاجهن الروائي.

ويذكر الاستطلاع المُشار اليه أعلاه أن الروائية السورية أنيسة عبود ترى "أنّ مصطلح الكتابة النسوية جاءنا حديثاً من الغرب، من خلال الكاتبة الفرنسية، هيلين سيكسوس، التي تُعدُّ من أوائل المفكرين في النظرية النسوية، خلال سبعينيات القرن الماضي"، وأنّه "بحسب عبود، استندت إليه العديد من الكاتبات، لجذب القارئ، والوصول إلى الشهرة..
وبالتأكيد أنّ النقد الأدبي أدلى بدلوه في إشكالية مصطلح الرواية النسوية خاصّةً والأدب النسوي عامة. ويذكر الناقد العراقي عباس خلف علي في معرض قراءته، المنشورة هنا، في ثقافة "القدس العربي" اللندنية، لكتاب الباحثة السورية أحلام مامي "السرد النسوي وتحولات الواقع السوري المعاصر/ قراءة في أعمال الروائية سمر يزبك" أنّ "الكاتبة ليزا هولا تقول: الأدب إنساني وليس من المفترض تجزئته وهو ما أكدته يمنى العيد، التي رفضت تصنيف الأدب إلى أدب كمفهومٍ عام، وأدبٍ تكتبه المرأة كمفهومٍ خاص، لذلك ترى أنّ الأدب بصورةٍ عامةٍ لم يكن فئوياً، بل هو عملٌ إنساني يلغي مقولة التمييز بين الأدب النسوي، ووجودها كعنصرٍ فاعلٍ وحاضرٍ في كلّ مقوّمات الحياة والإنتاج الفكري ومنها، مجال الكتابة".
لماذا الفن الروائي بالذات؟
ونعتقد أنّ ما هو لافتٌ أنّ الكتابات النقدية حين تتناول رواياتٍ نسوية، تشير إلى خرق عديد الروائيات العربيات لتابو الجنس بالدرجة الأولى. وهنا نتساءل لماذا الفن الروائي بالذات، بات أكثر وضوحاً من بقية الأجناس في أن يكون وعاءً إبداعياً لخرق تابو الجنس؟، ولماذا نركّز هنا على هذا التابو دوناً عن التابوهات الأخرى؟.
يقال أن الرواية عامةً، تمتلك من الجرأة ما لم يمتلكه الشعر، ربما يعود ذلك إلى طبيعة الشعر، حيث تُعدُّ الآن، أساليب التعبير الواضحة مثلبةً كبيرةً في الشعر الحديث. فهل أشهرت الرواية سلاح الجرأة إزاء التابوهات الثلاثة، لبنيتها السردية القائمة على اللغة النثرية، والقدرة على الاستطراد وكذلك التكثيف، وسعيها إلى إدهاش القارئ وخلخلة ذهنيته الراكدة، التي تجافي أو تبتعد عن التوغّل عميقاّ في تناول تلك المحرّمات.
يُذكر دائماً في الدراسات التي تتناول مبحث كسر التابوهات في الرواية، أنّ الرواية النسوية أكثر جرأةً من الذكورية في خطابها الروائي. ويذكر الناقد التونسي محمد الغزّي في هذا الشأن، في مقالته المنشورة في موقع "اندبندنت عربية": "لم يكن الأمر سهلاً أو ميسوراً، فالمجتمعات العربية، ظلّت، في الأغلب الأعم، مجتمعاتٍ محافظةً وأحياناً متشدّدة، يرقى هتك أستار الثالوث المحرم فيها إلى مستوى الجريمة. لهذا كان الانفجار الروائي النسائي في البلاد العربية لافتاً، وربّما صادماً" ويضيف بألاّ شيء يبرّر هذا الانفجار "سوى الرغبة في البوح، سوى التوق إلى تبديد كلّ الأساطير والأوهام التي تحاصر الجسد والروح في آنٍ واحد".

كانت للجنس في الرواية العربية حصّة الأسد بالنسبة للتابوهات الأخرى، مع التسليم بأنّ كلّ تابو له حساسيّته الخاصّة، فالنسبة للدين، يُعدُّ أكثرها خطورةً، فالخوض فيه بالنسبة للتقليل من شأن الإيمان والتوحيد، يثير غضب الجميع من المراجع الدينية إلى عامة الناس المؤمنين بالإله الواحد الأحد. لكنّ الخطر الداهم على صاحبات الكتابات الجريئة، لا يتأتّى من المؤسسات الدينية الرسمية، التي قد تكتفي بمنع الكتاب الجريء، بل من الجماعات التكفيرية المتطرّفة، التي تهدّد حيوات الكاتبات أنفسهن. وبحسب اطّلاعنا واهتمامنا بهذه الموضوعة، فإنّ هناك تحدّياً من قبل المرأة الكاتبة، بأنّه "كلما علا صوت التكفيريين علا صوت المرأة المندّدة بسلب حرياتها"، ومن ضمن الكاتبات اللاتي أكّدن ذلك الكاتبة التونسية آمنة الرميلي. أما تابو السياسة، فيخضع الخوض فيه إلى مستوى الحريات العامة، ومنها حرية التعبير عن الرأي، ولكنّ هذا لا يعني عدم خوض الروائية العربية هذا المجال، خاصّة في مناصرة أخيها في قضايا التحرر الوطني من الاستعمار بجميع أشكاله.
تركيزنا هنا على التابو الجنسي، لكي لا تتشعب مقالتنا كثيراً في الحيّز المُتاح لها، فضلاً عن أنّ الجنس له مقترباتٌ كثيرة، بوسع الكاتبة العربية الخوض فيها، منها مقتربات الحب والإخصاب والأمومة.
نماذجُ روائيةٌ صادمة
بعض الكاتبات اللاتي توغّلن في كسر التابو الجنسي، ينشرن إبداعاتهن بأحدث الأساليب الفنية.
والبعض الآخر من الكاتبات يستسهلن الأساليب الفنية، لأجل الاهتمام بالأفكار الجريئة، أو الثيمات التي يسعين بها إلى جذب القراء بقوة وزيادة مبيعاتهن ومن ثمّ شهرتهن، حتى أصبحت العبارات المقتبسة من رواياتهن تُتداول في موقع التواصل الاجتماعي. ومن هذه الروايات "مرافئ الوهم" لليلى الأطرش و"أصل الهوى" لحزامة حبايب، و"خارج الجسد" للقاصة والروائية الأردنية عفاف البطاينة. وفي تشريحٍ ميسّرٍ لرواية البطاينة؛ نعرف أنّ بطلة الرواية تعاني أشدّ المعاناة من أسرتها، لا لشيءٍ سوى أنّها التقت صديقها في كافتريا، فيغضب أبوها أشد الغضب، تمخّض عن ذلك إجبارها بالزواج من رجلٍ لا تحبّه، لم تستمرّ معه، حيث تقرّر البطلة إكمال دراستها في الجامعة رغماً عن أبيها، الذي كان يعاملها بكلّ قسوة.
لكنّ عنادها عناد مقاتلةٍ جريئة، إذ تتزوّج من رجلٍ ثريِّ كبير في العمر، يسافر بها إلى بريطانيا، ويستقرّان هناك، ولكنّه كان يعاملها معاملة الجارية، كوعاءٍ لإشباع رغباته، حتى أنّها عندما حملت منه، يريد إجبارها على التخلص من الجنين، ولكنها تصرّ على الإنجاب، يتطلّقان في آخر المشوار، فتتعرف على شابٍ بريطاني، وتتخذ قرارها الجريء بالزواج منه، وتصبح حاملاً منه، لحقها ذووها إلى بريطانيا لتصفيتها جسديّاً، فتختفي وتغيّر شكلها عبر عمليات تجميل، وتحوّل اسمها العربي إلى اسمٍ أجنبي، وتبدأ انطلاقتها الحقيقية كناشطةٍ في المؤتمرات النسوية.
ومن نماذج الرواية النسوية الخليجية تحديداً، يذكر الناقد والروائي سليمان في مقالته الموسومة بـ" حمّى الأفانين الجنسية في الرواية العربية" المنشورة في موقع "ضفة ثالثة" عن رواية "سلالم النهار" للروائية الكويتية فوزية شويش السالم، ففيها جرأةٌ صادمة، حيث بطلتها "فهدة" من فئة "البدون"، تمارس الرقص الشرقي مع مثيلاتها أمام الطبقة الثرية في المجتمع، فيهيهم بها أحد الأثرياء ويتزوّجها سرّاً، ويجوبان العالم مع ممارسة شتّى فنون الحب، إلى أن يقضي الثري نحبه، وهو معها في السرير، فتصدم بذلك، فتعلن توبتها.
ويشير سليمان، إلى روائياتٍ عربيات، طغت في رواياتهن الجرأة الجنسية، مثل ليلى بلعبكي، وجورجيت حنوش، ونوال السعداوي. سليمان يعزو ذلك إلى هبوب رياح الحداثة في الأدب العربي، مشخّصاً ذلك بالقول" سرعان ما بدا كأنّ الرواية العربية تعوّض ما فاتها من حضور الجسد الأنثوي بخاصّة، بما يعني ذلك من الشهويّة في الوصف، والعلاقات، واللغة، والتفاعل مع التراث الإيروتيكي العربي، وتصاعد التذويت، والسيريّة الروائية والرواية السيريّة، وتحدّي التابو الاجتماعي والديني، كلّما تعلّق الأمر بالجسد وبالجنس والجنسانية".