زيارة وفد نيابي فرنسي إلى الجزائر: فرصة غير كافية لطيّ صفحة التوتر
الجزائر – رغم ما تحمله من رمزية تاريخية، لا تبدو الزيارة المرتقبة لوفد من نواب البرلمان الفرنسي ومجلس الشيوخ إلى الجزائر قادرة على نزع فتيل التوتر العميق بين البلدين، أو إحداث اختراق فعلي في العلاقات الثنائية التي تعيش واحدة من أكثر مراحلها تأزماً في السنوات الأخيرة.
ويؤكد محللون أن تجاوز الأزمة الراهنة يتطلب أكثر من مؤشرات رمزية، معتبرين أن مفتاح التهدئة بيد الجزائر، التي باتت تنتهج سياسة تقوم على "إدامة التوتر" بدل الانفتاح، فيما تُحاول باريس إيجاد مداخل بديلة لإعادة تطبيع العلاقات دون أن تغيّر الجزائر من خطابها أو سلوكها السياسي والدبلوماسي.
ووصل وفد فرنسي يضم 30 نائباً من البرلمان ومجلس الشيوخ إلى الجزائر، للمشاركة في إحياء الذكرى الثمانين لمجازر 8 مايو 1945، التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في مدن الشرق الجزائري. وبالرغم من أهمية المناسبة، فإن دلالات الزيارة السياسية تظل محدودة، لا سيما في ظل غياب النواب المنتمين إلى اليمين واليمين المتطرف، ما يعكس انتقائية في التعامل مع الطيف السياسي الفرنسي.
وأكد برلماني جزائري، فضل عدم ذكر اسمه، وفق ما نقله عنه موقع " اخبار شمال افريقيا" أن الجزائر رفضت منح تأشيرات للنواب اليمينيين، معتبرة أنهم أسهموا في تأجيج الخلافات بين البلدين، وهو ما يعكس استمرار منطق "التمييز السياسي" في إدارة العلاقة مع فرنسا، بدل تبني سياسة شاملة تخاطب كل الأطراف.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن الزيارة لم تُنسّق على مستوى البرلمان الجزائري، وإنما تمت برعاية مباشرة من جهات عليا في الدولة، في ما يبدو أنها محاولة لإبقاء العلاقات مع باريس مفتوحة عند مستويات معينة دون تقديم تنازلات أو مراجعة مواقف معلنة.
وتدهورت العلاقات بين الجزائر وفرنسا بشكل ملحوظ منذ صيف 2023، عقب ما اعتبرته الجزائر "انحيازاً فرنسياً" لموقف المغرب بشأن الصحراء الغربية، الأمر الذي ردت عليه بسحب سفيرها وإلغاء زيارة كانت مرتقبة للرئيس عبدالمجيد تبون إلى باريس. وتعمق التوتر لاحقاً بسبب ملفات أخرى، منها الهجرة غير النظامية، وقضية الذاكرة، بالإضافة إلى سلسلة من الحوادث القضائية والدبلوماسية.
وأدت تلك التوترات إلى تبادل الطرد الدبلوماسي، وقطع قنوات الاتصال بين العديد من المؤسسات، بينما تمسكت الجزائر بشروط مشددة لتطبيع العلاقات، من بينها اعتراف فرنسي رسمي بالطابع الإجرامي للاستعمار، وإطلاق سراح دبلوماسييها المعتقلين في فرنسا.
وتحاول بعض الأوساط الجزائرية تحميل أطراف من اليمين الفرنسي – خاصة اليمين المتطرف – مسؤولية التوتر القائم، لكن هذه المقاربة تُعد غير كافية، بل وتفتقر للمصداقية، بالنظر إلى أن المبادرات الجزائرية الرسمية، بما فيها تلك الصادرة عن مؤسسة الرئاسة، اتخذت طابعاً تصعيدياً حتى في التعامل مع أطراف سياسية معتدلة داخل فرنسا.
ويرى متابعون أن المواقف الجزائرية الحادة تعكس إرادة سياسية في الإبقاء على مناخ التوتر، سواء لأسباب تتعلق بالحسابات الإقليمية أو لإعادة توجيه الرأي العام الداخلي نحو "عدو خارجي"، في وقت تواجه فيه الجزائر عزلة إقليمية متزايدة بسبب توتر علاقاتها مع المغرب، وتراجع نفوذها في منطقة الساحل، إضافة إلى القطيعة مع إسبانيا.
في هذا السياق، اعتبر الصحفي الجزائري المستقل، علي بوخلاف، أن استقبال الوفد الفرنسي يُظهر استعداد الجزائر لفتح نافذة تهدئة، لكنه شدد على أن "المشكلة ليست في الزيارات أو في مستوى التمثيل، بل في سلوك الدولة الجزائرية وتصريحات مسؤوليها".
وأشار بوخلاف إلى أن "الدبلوماسية البرلمانية لا يمكن أن تعوّض العلاقات الرسمية بين الدول، لا سيما في ظل ملفات قضائية مفتوحة"، مضيفاً أن باريس تربط تطبيع العلاقات بإطلاق سراح الكاتب الفرنسي – الجزائري بوعلام صنصال، المحكوم عليه بالسجن خمس سنوات، إلى جانب ملف موظفي القنصلية الجزائرية المعتقلين في فرنسا.
الدبلوماسية البرلمانية لا يمكن أن تعوّض العلاقات الرسمية بين الدول
من جانبه، وصف باحث فرنسي مختص في شؤون شمال أفريقيا الزيارة بأنها "فرصة ثانية للعلاقات الجزائرية – الفرنسية، لكنها مرهونة بإعادة ضبط السلوك السياسي والإعلامي من الجانب الجزائري"، موضحاً أن باريس "تحاول الإبقاء على خيط رفيع من الحوار مع الجزائر، لكنها لن تستمر طويلاً في سياسة الصبر إذا لم تُقابل بخطوات مقابلة".
وفي ضوء تصاعد العزلة الإقليمية التي تعيشها الجزائر، يرى مراقبون أن التصعيد المستمر مع باريس لا يخدم مصالحها الاستراتيجية. فالجزائر اليوم على خلاف واضح مع المغرب، وتواجه تراجعاً في نفوذها ضمن دول الساحل الإفريقي بعد سلسلة من الانقلابات المتلاحقة، كما أن علاقاتها مع مدريد ما زالت شبه مجمدة منذ إعلانها دعم خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء.
وفي هذا السياق، تبدو فرنسا – رغم التوترات – من الشركاء القلائل الذين يمكن للجزائر أن تبني معهم توازناً استراتيجياً، سواء اقتصادياً أو أمنياً، في ظل إعادة تشكيل التحالفات في البحر المتوسط ومنطقة الساحل.
في المحصلة، لا تمثل زيارة وفد مجلس الشيوخ الفرنسي أكثر من محاولة لترطيب الأجواء، وهي لا ترتقي إلى مستوى المبادرة السياسية الحقيقية ما لم تواكبها مراجعة من الجانب الجزائري لنهجه المتصلب تجاه باريس.
الكرة اليوم في ملعب الجزائر، وإذا لم تتخذ القيادة السياسية قرارات مسؤولة لإعادة العلاقات إلى مسارها الطبيعي، فإن الجفاء سيستمر، وربما يتعمق أكثر في ظل تصاعد التوترات الدولية والإقليمية التي تفرض على الجميع إعادة ترتيب أولوياتهم.