صرخة مدفونة لجيل من النساء في 'كلمات معلقة بيننا'

رواية الكاتب ياب روبن تسرد قصة بائعة الزهور نشأت في بيئة كاثوليكية محافظة وحملت خارج إطار الزواج، مما أثر على حياتها لعقود.

تأخذنا رواية "كلمات معلقة بيننا" للكاتب الهولندي ياب روبن في رحلة مؤثرة عبر حياة "إلفريدا"، بائعة الزهور الشابة ذات الروح الحرة التي نشأت في كنف بيئة كاثوليكية محافظة في ستينيات القرن الماضي. تبدأ الأحداث بلحظة عابرة على نهر الفال المتجمد، حيث تلتقي "إلفريدا" بـ "أوتو" المتزوج والذي يكبرها بتسع سنوات، لتنطلق شرارة حب عاصف ينتهي بحمل غير متوقع، يصبح فضيحة تهدد عالمها المحافظ.

تبرع الرواية التي ترجمها عن الإنكليزية محمد عثمان خليفة وصدرت عن دار العربي في تصوير القيود الاجتماعية والدينية الصارمة التي واجهتها "إلفريدا" في تلك الحقبة. فالحمل خارج إطار الزواج لم يكن مجرد خطيئة شخصية، بل وصمة عار اجتماعية تجبر "إلفريدا" على التخلي عن طفلها السري، ليظل هذا الفقد جرحًا غائرًا يلازمها لعقود، حتى بعد زواجها وإنجابها لابن آخر.

تنتقل بنا الرواية إلى حياة "إلفريدا" في سن الحادية والثمانين، وبعد الوفاة المفاجئة لزوجها لويس، والتي تتسبب في ترك إلفريدا مشوشة، ليس فقط بسبب الخسارة ولكن أيضًا لأنها كانت تعتقد دائمًا أنها ستموت قبل زوجها. ومع ذلك، فإن وفاته تمنح إلفريدا أيضًا مساحة للتفكير في الماضي؛ ليس في تاريخها مع زوجها المتوفى لويس، بل في تاريخ يعود إلى شتاء عام 1963. حيث التقت في مكان مهجور مغطى بالثلوج بالقرب من نهر الفال المتجمد بـ "أوتو". لتبدأ بينهما علاقة حب، تبدأ بحذر مع بعض اللقاءات، لكن اللقاءات تصبح أكثر تكرارًا وكثافة، وعلى الرغم من أن أوتو متزوج إلا إن إلفريدا تريد أن تكون معه إلى الأبد وتتزوجه، لكن أوتو يريد - على حد قوله - توزيع حبه بين إلفريدا وزوجته. لا يريد أن يخاطر بفقدان حياته التي بناها، ووظيفته، والمجتمع الكنسي. وعلى الرغم من الحب المتزايد، يبتعد أوتو أكثر عن إلفريدا خاصة عندما يتبين أنها حامل منه. يوفر لفريدا مكانًا للإقامة ويتحمل تكاليف معيشتها، إلا أنه لا يعتبر الطفل الذي لم يولد بعد طفله. تفقد إلفريدا بسبب حملها أوتو ووالديها، لكنها لا ترى طفلها أبدًا. هذه القصة، التي بدأت جميلة جدًا، لا تزال خانقة لإلفريدا المصابة بصدمة نفسية بعد عقود.

هنا، تتجاوز الرواية كونها مجرد سيرة ذاتية لـ "إلفريدا"، لتصبح صرخة مدوية تعكس تجارب عدد لا يُحصى من النساء بين فترتي الخمسينيات والثمانينيات، هؤلاء النسوة اللاتي عانين من صدمات مماثلة، دفعتهن إلى الظل قيود المجتمع والدين والأعراف الاجتماعية.

تتناوب الرواية بين ماضي إلفريدا وحياتها في الحاضر. نظرًا لأن لويس، زوجها، كان يعتني بها، لم تعد إلفريدا قادرة على العيش بمفردها في منزلها الحالي. ما يلي ذلك هو انتقال متسرع إلى دار لرعاية المسنين. يقوم ابنها توبياس بترتيب الانتقال بأفضل ما يمكن على الرغم من حزنه على وفاة والده. بسبب هذا الانتقال وردود فعل إلفريدا البعيدة تجاه توبياس وصديقته الحامل، تتصاعد التوترات بين الأم والابن بانتظام.

تتقارب مسارات الرواية تدريجيًا كلما تقدمت ببطء. حيث تجرؤ إلفريدا البالغة من العمر 81 عامًا بشكل متزايد على مواجهة ماضيها والتحدث عنه. تبين أن أحداث الماضي لا تزال ذات أهمية للحاضر. ردود الفعل والعادات التي تبدو غريبة للوهلة الأولى لإلفريدا، تصبح مفهومة للقارئ من خلال تاريخها.

في كل حوار بين إلفريدا وأوتو، يعرف الروائي كيف يجعل الحب والتوترات محسوسة. أيضًا في علاقة إلفريدا بابنها توبياس، والتي يتم تصويرها بقوة خاصة في بداية الرواية، تظهر الجوانب الإيجابية والسلبية لعلاقتهما من خلال أسلوب الكتابة. وهنا يجعل تناوب أسلوب الكتابة قراءة الرواية سهلة. تتناوب الحوارات القصيرة والحادة مع جمل أطول لوصف الأحداث. في كل فصل، توجد جملة جميلة ستبقى في الذاكرة، مثل: "الساعة على الحائط تشير إلى وقت الضحى، ولكنني لم أنظر إليها على أنها لحظة في الزمن، أو يومًا له تاريخ محدد"، و"كان شعورًا غريبًا أن أعتقد أن الزمن لا يزال يتحرك للأمام، وأنه في مكان ما هناك، كان "أوتو" يعيش نفس اليوم، في نفس الساعة، كما كنت أنا".

يُحسب لياب روبن أنه لم يكتفِ بسرد قصة "إلفريدا" المؤثرة، بل نجح في تسليط الضوء على الآثار المدمرة للصدمات النسائية المدفونة. الرواية دعوة للتأمل في الثمن الباهظ الذي دفعته أجيال من النساء في سبيل الامتثال لتوقعات مجتمعية قاسية، وكيف يمكن للسكوت أن يطيل أمد الألم. لذا فإنها ليست مجرد رواية، بل هي شهادة إنسانية مؤثرة تحتفي بقوة المرأة وقدرتها على مواجهة الماضي ومشاركة حكاياتها، حتى وإن طال بها الزمن. إنها قصة عن الحب والفقد والخلاص المتأخر، وصدى لأصوات نسائية ظلت حبيسة لعقود طويلة.

مقتطف من الرواية

كأننا كنا نرقص وتوقفت الموسيقى في منتصف الأغنية. استلقى "أوتو" بجانبي على معطفه، ودس أنفه في رقبتي، ووضع يده على بطني. لدهشتي، كنت أحتضن رجلًا يحتاج إلى المواساة. ربتّ على كتفه وبذلت قصارى جهدي لأرضيه.

حسنًا، قلت لنفسي. هذا هو إذًا.. لقد مارست الحب. سمعت صراخ النوارس، ومن على مسافة آمنة، ضحكات الأطفال وهم يلعبون. كانت الشمس أعلى الآن، تدفئ ساقي. ولحسن الحظ، استمر النسيم يداعبني بأصابعه.

أبحرت السحب بهدوء، وكل أنواع الطنين في الهواء من حولنا. إحدى البقرات التي كانت تقف في الماء قبل دقائق استقرت على الرمل وكانت ترفس الذباب بذيلها. تحركت رقعة من العشب الطويل بجانب البركة بطريقة مختلفة عن الباقي وظهر أرنب، يتشمم، وأذناه تتحركان وهو يستمع إلى أصوات البشر البعيدة. كان يتشمم في اتجاهنا لكننا كنا مستلقين بهدوء لدرجة أنه لم يستطع تمييزنا عن شجيرات الزعرور. سألته:

- أنت نائم؟

- لا.. لا.

مرر إصبعه تحت ثديي وعبث حول سرّتي.

- كيف تشعر إذًا؟

استدرت على جانبي.

- ماذا؟

- عندما تصل إلى تلك الذروة.

هز كتفيه، خجلًا من التفوه بكلمات عن شعوره. جمد الأرنب وأذناه ارتفعتا عند أدنى حركة منا، لكنه سرعان ما عاد إلى قضم العشب.

- هل تشعر بالراحة؟

- أجل.

أومأ. ضحكنا، ولأول مرة منذ ممارستنا الحب، نظر في عينيَّ.

- هل تريدين المزيد؟

بدا كأنه نادل يحمل صينية مقبلات متبقية.

- المزيد من ماذا؟

- المزيد منا.

ضحك. قال:

- أستطيع أن أجعلك.. إذا أردتِ. لست مضطرة لأن...

- ماذا؟

- سأفعلها بأصابعي.

عزف على بيانو وهمي في الهواء. قال:

- لا أعلم إن كان هذا شيئًا تستمتعين به.

قلت:

- تعال إلى هنا بشفتيك هاتين.

ورحنا في قبلة طويلة. انزلاق كفه البطيء من عند سرّتي لأسفل كان أشهى من النسيم وكل أصابعه. ببطء، عبث حوله. اقتربت منه وقدت يده إلى أسفل. لم يكد يصل بين ساقي حتى عاد إليَّ ذلك الوهج. حرارة أشعلتها أطراف أصابعه، ناعمة، بحركات دائرية. يد تستطيع أن تحمل فراشة وتترك أجنحتها سليمة. ضممت فخذيّ معًا حولها، خائفة من أن يتوقف فجأة. لكن هذا خنق حركتها، فباعدت بين ساقيّ قليلًا، وأنفاسي تزداد حدة. دفعت إبهامه قليلًا إلى الأسفل. ارتجافة شديدة هاجمت عمودي الفقري فاصطدم جبيني بفكه. قلت:

- آسفة.. آسفة.. آسفة.

قبضت على يده حتى لا تبتعد، وبدأت أصابعه تعمل، بسرعة أكبر الآن. تيار كهربائي قصير دغدغ حلماتي وعبر شفتي. شعرت وكأنني أنفجر، شعور قوي لدرجة أنني اضطررت لدفع يده بعيدًا عني. انغمست في تنهيدة عميقة. نظرت لأعلى لأرى يرقة تتنقل على غصن. انفجرت ضاحكة، بصوت عالٍ جعل "أوتو" يشعر بعدم ارتياح.

- ما الأمر؟ ما الأمر؟

لكن لم يكن هناك ما يوقفني وسرعان ما انفجرنا نحن الاثنان ضاحكين. استلقينا هناك، نلهث. غطيت نفسي ببلوزتي. سألته بعد فترة:

- أنت بخير؟

هز "أوتو" رأسه بالإيجاب. اتكأت على مرفقي لألقي نظرة أفضل على السكون الذي حلّ به.

- متأكد؟

تبسم "أوتو" ابتسامة مطمئنة، لكن عينيه لم تبتسما.

- جئت إلى هنا مع والدي ذات ليلة.

- هنا عند النهر؟

- أجل. كنت في حوالي الثامنة من عمري.

- لماذا؟

كل ما كنت أعرفه عن أبويه هو أنه يضع أزهار القرنفل على قبرهما. لم يخبرني بأي شيء آخر عنهما.

- كنا نحصي الفراشات معًا.

- هل هذا هو سبب افتتانك بها؟

- أعتقد ذلك.

من يمر بنا لم يكن ليعلم أننا مارسنا الحب للتو. فقد ارتدى "أوتو" ملابسه أسرع مني. سألته:

- لماذا أراد والدك عد الفراشات؟

- في تلك الليلة عند النهر، ظننت أنها مرة واحدة. أو أنه أمر يتعلق بعمله. لكن بعد وفاته، وجدنا صندوقًا من الدفاتر في القبو. اتضح أنه كان يسجل الأعداد منذ عقود. هنا، في هذا المكان بالذات.

- وماذا بعد؟

- وماذا بعد؟

- ماذا فعلتما بعد ذلك؟

تحرك "أوتو" في تردد.

- واصلت العد.

لما عدنا إلى الشاطئ، بدت الرمال أكثر نعومة وتفككًا. تجاوزتنا السفن التي تنفث الدخان، متجهة إلى "روتردام". وددت في أن أحتضن "أوتو" ولكن حرص على أن تبقى هناك مسافة بيننا، تكفي لأن يمر أي شخص منها بسهولة. قلت:

- انظر.

أشرت إلى شيء يرفرف في الهواء، رغبةً مني في أجعله يتحدث مرة أخرى.

- فراشة الكبريت الشائعة.

فقال "أوتو":

- لا نهاية لها في هذه الأنحاء.

أخرجت من جيب معطفي برتقالة كنت قد أحضرتها لنأكلها، وجلست على أحد الكتل البازلتية الدافئة. ولم يلحظ "أوتو" أنه تركني خلفه على الضفة إلا بعد خطوات قليلة. عاد أدراجه وجلس بجانبي، متأملًا النوارس التي كانت تبتعد عن الأمواج القادمة وتعود إلى خط الماء بمجرد انحسار الموج.

- تفضل.

ناولته شريحة من البرتقال. أضاءت الشمس الساطعة بقعة من القطران التي جرفتها الأمواج على البازلت. وعلى الرغم من أنها كانت لينة، إلا أنها لم تلتصق بملابسي. ضغطت عليها وتركت بصمة إصبعي فيها. كانت حواف أظفاري بيضاء من قشر البرتقال. قدمت الشريحة الأخيرة لـ"أوتو". أخذها بين شفتيه لكنه توقف بعد أن ظننت أنه سيلثم أصابعي. سألته:

- هل يمكنني المجيء أيضًا؟

- إلى أين؟

- في رحلتك المقبلة لعد الفراشات.

- نعم، بالطبع يمكنك. هل أنت متأكدة من ذلك؟

أومأت وأخذت يد "أوتو"، وضممت الأصابع عدا سبابته. وبينما كان يمضغ آخر شريحة من البرتقال، شاهدني وأنا أوجه يده وأضغط طرف إصبعه في القطران اللين، تمامًا فوق بصمتي، حتى طبعنا بصمة واحدة. تركت يده. فرك طرف إصبعه وابتسم عندما رأى أن القطران لم يعلق به. لا أعتقد أنه كان يعلم أن بصمتي كانت تحت بصمته.

- كان يومًا مبهجًا.

- أعتقد ذلك.

اكتشفت خضارًا في عمق عينيه البنيتين، يشبه ذيل سمكة الجوبي. اقتربت منه، فتركني أقبله.