فاس للموسيقى العالمية يحتفي بأفريقيا بكل روحانيتها

الدورة الثامنة والعشرون من المهرجان تجمع أكثر من 200 فنان من 15 بلدا.

فاس (المغرب) - تحتفي الدورة الثامنة والعشرون من مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، التي ترأست الأميرة للا حسناء حفل افتتاحها الجمعة، بأفريقيا بكل جماليتها وتنوعها وحيويتها وروحانيتها.

فانطلاقا من العرض الإبداعي الافتتاحي الذي تم تقديمه على المنصة الكبرى لباب الماكينة، تجسد هذا البعد الأفريقي حاملا دلالات كبيرة في إطار موضوع "انبعاثات".

ويسلط العرض الضوء على أفريقيا كأرض خصبة تشكل الطبيعة والإنسان فيها جزءا من بيئة ألفية تقدم نموذجها الحضاري للعالم، مع إبراز دور فاس كمصدر روحي ومحور لحركات التجديد الثقافي والديني على الصعيد القاري، وما أفادت مؤسسة "روح فاس" في بلاغ.

ونقل البلاغ عن رئيس مؤسسة "روح فاس" عبدالرفيع زويتن قوله "أردنا الاحتفاء بأفريقيا القارة التي يحرص شبابها على الحفاظ على تقاليدها العريقة والاحتفاء بها، ونقل تراثها إلى الأجيال القادمة، مساهما بذلك في نهضتها الثقافية".

وأضاف أن "هذا التكريم يعزز ارتباط المهرجان والمغرب بجذوره الأفريقية، ويتماشى تماما مع التزام المغرب لفائدة التعاون جنوب-جنوب وفقا للرؤية الملكية".

وسينقل البرنامج الغني لهذا الحدث رواد المهرجان خلال الأيام المقبلة من النشوة إلى التأمل، وفق المصدر ذاته، مشيرا إلى أن المهرجان سيعرف حضور فنانين من جميع أنحاء القارة، من المنطقة المغاربية (المغرب) إلى غرب أفريقيا (السنغال ومالي وغانا) وشرق القارة (بوروندي) وما وراءها، من المحيط الهندي (مايوت) والبحر الكاريبي (هايتي) وعالم الجالية.

وقدّم المهرجان، السبت، تجربة موسيقية لا تُنسى من خلال حفل موسيقي مبهر جمع بين الأوبرا المقدسة الأوروبية والتقليد الأندلسي، تحت إشراف المايسترو الإيطالي أنطونيو غريكو، وقائد الأوركسترا العربية الأندلسية بفاس محمد بريول.

وكان الجمهور الغفير الذي غصت به جنبات باب المكينة على موعد مع لحظة استثنائية، حيث اندمجت الأصوات القوية والنغمات الدقيقة في انسجام آسر، بين إبداع "صلاة الغروب للسيدة العذراء"، لكلاوديو مونتيفيردي، والمقامات الرفيعة للأوركسترا العربية الأندلسية بفاس. لقاء فني نادر تخطى الأساليب لنسج حوار وجداني بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط.

ومنذ النغمات الأولى، حل السحر، حيث تحولت خشبة العرض، التي ازدانت بالأضواء التي أكسبت باب المكينة الشهيرة حلة بهية، إلى فسحة روحانية نابضة، وتوالت صور الكنائس المخصصة لمريم العذراء، وصور مونتيفيردي، والرسوم البصرية التي تمزج بين الماء والأزهار، في أجواء روحانية غامرة.

وبات المكان، الحامل لذاكرة تاريخية عريقة، مسرحا للتلاقي المكثف بين قدسية الموسيقى الأوروبية ونفس الموسيقى الأندلسية.

وبفضل الصرامة الباروكية للمايسترو الإيطالي والرقي الشعري للمايسترو المغربي، شكّل اندماج التشكيلتين الموسيقيتين نشيدا حيا للتراث المتوسطي. وقد خلقت تراتيل مونتيفيردي، المدعومة بزخارف المقامات الأندلسية، جسرا ثقافيا نابضا، حيث لم تعد للمقدس أية حدود.

وفي قاعة مكتظة، تفاعل الجمهور مع العازفين والمغنين بحماس، متنقلا بين التأمل والدهشة، منجذبا إلى غنى الطبوع ودقة الأداء، وفرادة التوظيف البصري.

ويعد هذا الحفل أقوى لحظات الدورة الحالية للمهرجان. ويندرج في إطار التقارب بين مهرجان فاس ومهرجان مونتيفيردي بكريمونا الذي يعتبر أحد المواعيد العالمية المرموقة المخصصة للموسيقى الباروكية.

وتفتح هذه الشراكة المجال لتعاون فني مستدام بين الحدثين اللذين يوحدان إرث العالم العربي والأوروبي حول الموسيقى المقدسة.

وبجمعه بين اثنين من أعمدة الموسيقى حول مشروع فني جريء ورائع، يواصل مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة تألقه والوفاء لنهجه القائم على الحوار والتلاقح الكوني.

كما سافرت الطقوس الصوفية للمحيط الهندي "الديبا" لنساء مايوت من جزر القمر، و"فرقة الأريج الصوفية" من سلطنة عمان، بجمهور حديقة جنان السبيل بفاس، السبت، في سفر روحاني فريد.

وافتتحت فرقة الأريج من سلطنة عمان بقيادة السيد عمر البريكي، هذه الأمسية حيث قدت المجموعة ريبيرتوارا بعنوان "صوت الأجداد"، أُعد خصيصا لهذه النسخة من المهرجان المنظمة تحت شعار "انبعاثات".

واستمتع الجمهور الحاضر بألحان من التراث العماني الأصيل، ابتدأت بمقام "الصبا"، ثم تنقلت عبر مقام "البياتي"، لتنتهي بمقام "سيكا".

وساهم هذا الحفل في إبراز فن "المالد"، وهو تقليد صوفي متجذر في الحياة اليومية العمانية، حيث يدخل "الهُويم" (المؤدي) في حالة من الوجد عبر حركات جسدية وتعابير الوجد (الهُيام)، ترمز إلى استخراج الكنوز من الأرض لنشرها في شكل نور وتواصل روحي.

بعد ذلك، اهتزت الساحة على إيقاعات ورقصات "الديبا" من مايوت، التي أدتها فرقة "مدرستي توياريا" من متسانغادوا. ويعد هذا الفن، المستمد من الذكر، احتفالاً تقليدياً بمولد النبي المصطفى عليه الصلاة السلام، من خلال الأناشيد والرقصات.

وتعود أصول فن "الديبا"، الذي يُعادل "القصيدة الصوفية المغناة" في أرخبيل جزر القمر، إلى كتابات عبدالرحمن بن علي الديبعي عالم من القرن الخامس عشر.

وقامت بأداء هذا الإبداع مجموعة من النساء الشابات، يرتدين أقمشة ملونة وزينة ذهبية، حيث عبرن من خلال اهتزاز رؤوسهن وإيماءات موحدة، وحركات انسيابية بالأيدي، عن الحركة الدائرية المهدئة لأمواج المحيط، من خلال تمايل الأجساد بإيقاع الآلات الإيقاعية، وارتفاع الأيدي نحو السماء.

وكانت إحدى أقوى لحظات الأمسية العرض الذي جمع الفرقتين الفنيتين الذي أتاح للجمهور تجسيدا بليغا لموضوع "انبعاثات"، مبرزا قدرة التقاليد المقدسة على الحوار، والتلاقح في تعبير فني مشترك ومنسجم مع روح مهرجان فاس.

وأفاد عمر البريكي، قائد فرقة الأريج من سلطنة عمان، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء بأن العرض المقدم خصيصا بمهرجان فاس متجذر في التراث العماني.

وأوضح أن "الحركات المستخدمة في العرض هي تعبير عن الإنسان العماني الذي يعمل في الزراعة، في الحفر، ويضرب الأرض لاستخراج كنوزها المخبأة ويقدمها للناس على شكل ثمار نستهلكها".

وستتواصل مساء كل يوم بجنان السبيل، الليالي الصوفية لمجموعات من المغرب وأفريقيا جنوب الصحراء: ويتعلق الأمر بـ"فنانين ماستر من جاجوكا" (الأحد)، وأغاني الكاسايد المريدية من السنغال (الإثنين)، والتقليد التيجاني (الثلاثاء)، والطريقة العيساوية، (الأربعاء) والملحون (الخميس)، والحمدوشية بمكناس (الجمعة)، من أجل إبراز تنوع وثراء الطقوس الصوفية الإفريقية وتنوع تعبيراتها.

وأكد المصدر ذاته أن عددا من الفنانين سيقومون بإحياء تراثهم الموسيقي من أجل نقله إلى الأجيال الجديدة، كما هو الحال بالنسبة إلى أداما سيديبي من مالي، آخر عازف محترف لآلة "السوكو"، وهي آلة كمان ذات وتر واحد يعزف عليها الرعاة، الذي سيلتقي بعازف الكمان كليمان جانينيه تلميذ عازف الجاز الشهير ديدييه لوكوود.

وتسلط مجموعات أخرى الضوء على إبداعات أفريقية معاصرة مثيرة مثل  "الشفاء الروحي"، لعازف الساكسفون اللامع وعازف آلات متعددة جوي أوميسيل (الثلاثاء). يقدّم هذا الموسيقي الهايتي والكندي، الغارق في موسيقى الجاز الأفروبي النيجيري والجاز الروحي، طقسا روحيا يدمج قوة الثورة الهايتية لعام 1804 مع الروح العميقة لموسيقى الجاز الحرة السوداء  لستينيات القرن الماضي بنيويورك.

ويعتبر جون كوامي أوسي كورانكي (الثلاثاء) شخصية رائدة في العزف على قيثارة السبيريوا، وهي قيثارة غانا التقليدية التي بدأ تعلمها مع جده. من خلال "فن قيثارة السيريباوا" وموسيقاه الساحرة، يقدم نفسه كحارس لتقاليد منفتحة على الحداثة واللقاءات الفنية.

وستكون اللحظة القوية لهذا البرنامج الأفريقي هي الحفل الموسيقي الختامي للمهرجان في الرابع والعشرين من مايو/أيار الجاري مع "الليلة الكبرى للجريوتات من مملكة أشانتي القديمة إلى إمبراطورية المالينكي"، بقيادة بالاكي سيسوكو أوركسترا مالي، برفقة أوسي كورانكي.

ويتغنى الغريوتس، الحاملون لمعارف تقليدية ورواة القصص والشعراء وعلماء الأنساب والمستشارون والموسيقيون، بالحب وروعة نهر النيجر والزمن والموت. وأيا كان الموضوع، فإن ألحانهم وكلماتهم متناغمة، لأن الأمر يتعلق دائما بالمعنى.

وستنظم بشوارع فاس المجاورة لباب بوجلود عروض ترفيهية مجانية يقدمها فنانون من فرقة "روح أفريقيا"، مع عرض "زاولي دي منافلا"، وهي رقصة الأقنعة التقليدية من ساحل العاج، إضافة إلى عرض لـ"الرقص على العصي"، وذلك لجعل الحفل أكثر جمالية وفي متناول الجميع.

وتجمع نسخة 2025 من هذا الحدث العالمي الاستثنائي، والذي يشكل جسرا حقيقيا بين الثقافات والديانات، أكثر من 200 فنان من 15 بلدا، استمرارا لروح مدينة فاس باعتبارها حاضرة تاريخية كانت على مر الدوام ملتقى للمعرفة والروحانية.