عمال وموظفو كردستان يتعرضون لعقاب جماعي
لسنا بصدد الحديث في هذا المقال عن سكان غزة، ولا عن سياسة التطهير القومي التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهي سياسة تقوم على أشكال متعددة من العقاب الجماعي. ما نتحدث عنه هنا هو سياسة النظام الطائفي – القومي في بغداد تجاه عمال وموظفي كردستان.
بطبيعة الحال، لا نقارن بين ما يحدث في الأرض الفلسطينية المحتلة وما يحدث في كردستان، لكننا نسلط الضوء على المنهجية السياسية ذاتها التي ينتهجها النظام السياسي في بغداد تجاه جماهير كردستان. وخاصة قراره الأخير بقطع الرواتب ومعاشات عمال وموظفي كردستان.
في اجتماع ضمن برنامج “مواجهة وباء كورونا” لجبهة ضمت اتحادات عمالية ومنظمات مجتمع مدني وأحزابا سياسية في عام 2020، ناقشنا إصدار موقف للدفاع عن معاشات ورواتب عمال وموظفي كردستان. حينها قال أحد الزملاء إن بغداد لا تتحمل المسؤولية، وإن حكومة إقليم كردستان هي من تستولي على النفط وتبيعه لمصلحتها دون إرسال الأموال إلى بغداد.
فكان ردنا عليه: إن واردات نفط العراق بكامله تذهب إلى الحكومة في بغداد، فماذا جنينا منها نحن؟ انظر إلى حجم البطالة، إلى الخدمات الصحية والاجتماعية المتدهورة، إلى الكهرباء المنقطعة، إلى أطفالنا الذين يبحثون عن الطعام بين النفايات، أو في أحسن الأحوال، تحولوا إلى باعة ومتسولين في الشوارع بدلا من أن يكونوا على مقاعد الدراسة. إنهم يريدون منا أن نتنفس زفير السموم القومية، ويغرسون أسافين الفرقة بيننا، لتضليلنا عن جوهر صراعهم الحقيقي.
ما نود قوله، هو أنه بغض النظر عمّن ينتهك الدستور، وبغض النظر عن الخلافات السياسية بين طرفي بغداد وأربيل، وعن مشروعية أو حقانية كل من الحكومتين، وبعيدا عن التوازنات الإقليمية وتداعياتها على طرفي المعادلة السياسية في العراق، فإن النظام السياسي القائم في بغداد قد كشف مرة، في ظل ظروف سياسية وتوازنات معينة، عن طبيعته الطائفية ذات النزعة الشمولية، تجاه المناطق المصنفة كمناطق “سنية”، وأخرى قومية شوفينية.
لقد استغل هذا النظام المناخ الدولي الذي رفع راية الحرب على الإرهاب وتنظيم داعش، ليُمارس جرائم تطهير ديموغرافي، ويستولي على الأراضي، ويُغيّب المئات من شباب تلك المناطق، مستخدما أساليب بعثية – إن لم تكن أشد وحشية – في تعذيب المعتقلين، خصوصا في محافظات ديالى وصلاح الدين وبابل ونينوى والأنبار.
إن هذه السياسة التي ينتهجها النظام السياسي في بغداد تُعد تجسيدًا لمبدأ العقاب الجماعي، وهي جزء من عقيدة تستهدف كل من يُهدد سلطتهم السياسية أو يمسّ امتيازاتهم الاقتصادية.
العقاب الجماعي، كما ورد في العقيدة النازية، كان على درجات متعددة. بدأ بمنع التوظيف والتهميش السياسي والاقتصادي الممنهج، مرورًا بالتجويع والتهجير والاستيلاء على الأراضي، وانتهاءً بالإبادة الجماعية. وقد طبّقت العديد من الأنظمة القومية هذه السياسات ضد سكان وجماعات عرقية أو دينية أو إثنية مختلفة.
ونحن في العراق شهدنا البعض من هذه الفصول خلال فترة حكم النظام البعثي، في عقد الثمانينات، حيث تم تهجير الآلاف من الكرد الفيلية ورميهم على الحدود العراقية – الإيرانية، مع تغييب المئات من الشباب الذين تجاوزت أعمارهم السن الثامنة عشرة، وتم هدم أكثر من 3000 قرية في المناطق والمدن الكردية، واختفى نحو 18 ألف إنسان في حملة عُرفت باسم “عمليات الأنفال”، إلى جانب فرض حصار اقتصادي خانق على تلك المناطق، وغيرها من السياسات القمعية خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي.
من الواضح، وعلى الصعيد العملي، أن التوازنات السياسية في العراق تشكّل عائقًا أمام النظام الطائفي – القومي في بغداد للسير على خطى النظام البعثي الفاشي في تعامله مع الناطقين بالكردية في بقعة جغرافية عُرفت تاريخيًا باسم كردستان. ولذلك، لم يتبقَّ أمامه سوى خيار واحد من درجات العقاب الجماعي، ذلك الذي تبنّته حكومة نوري المالكي في ولايته الثانية منذ عام 2014. وتعاقبت بعد المالكي حكومات انبثقت من رحم ذات النظام، دون أن تُحدث أي منها تغييرًا في المنهجية المتبعة في ممارسة العقاب الجماعي ضد عمال وموظفي كردستان. وهذا يوضح، بشكل لا لبس فيه، أن من يعيش في جغرافيا كردستان لا يُعامل كمواطن متساو في الحقوق مع من يعيش في جغرافيا الوسط والجنوب، وفقا لمنهجية النظام السياسي الحاكم في بغداد.
وإن كانت الذريعة هي خرق حكومة الإقليم للدستور، فهناك العشرات من الإجراءات الدستورية والقانونية التي تستطيع حكومة بغداد اتخاذها. وهي – في الواقع – “محترفة” و”تتفنن” في تأويل القوانين وتطبيقها ضد خصومها، كما حدث حين أُقصي إياد علاوي من تشكيل الحكومة في انتخابات 2010 وهو الفائز الأول الذي حصل على 91 مقعدا، ثم أُبعد التيار الصدري عن تشكيل حكومة 2021 الحائز على 73 مقعدا بحجة الثلث المعطل، ولاحقًا أُقيل محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان ثم أُعيد إلى منصبه بقدرة قادر، بعد تغيير التوازنات السياسية، أي بعد أن مالت كفة المعادلة السياسية في المنطقة لصالح تركيا.
ما يقارب مليون وربع المليون عامل وموظف، إلى جانب أسرهم، يُعاقبون بشكل منهجي فقط لأنهم ناطقون بلغة غير العربية، ولأنهم وُلدوا في بقعة جغرافية تُسمى كردستان. وكأن عليهم دفع ثمن قدر لم يختاروه.
والحق يقال، إن عقيدة مثل هذه، حين تسعى لتحقيق أهدافها السياسية أو كسر إرادة خصومها، لا تجد وسيلة أنجع من العقاب الجماعي. ولو جُردت من هذه الوسيلة، لما استطاعت البقاء في المعادلة السياسية أو في المشهد السياسي في أسوأ الأحوال.
إن مسؤوليتنا، نحن في بغداد، ومعنا كل الجماهير العمالية والتحررية في الوسط والجنوب، أن نرفع صوتنا عاليًا ضد سياسات السلطة الطائفية – القومية في بغداد تجاه جماهير كردستان. إن عمال وموظفي كردستان هم إخوتنا، ومصيرنا السياسي واحد ما دمنا نعيش ضمن جغرافيا واحدة. وعلينا أن نفوّت الفرصة على من يحاول دقّ إسفين الفرقة بيننا، أو يسعى لتخديرنا وجرّنا إلى مستنقع صراعاتهم السياسية. يجب ألا نترك إخوتنا فريسة الجوع والعوز، فـنضالنا المشترك هو السبيل لتحقيق الحرية، والسلام، والرفاه للجميع.