مأساة غزة.. هل أصبحت المستشفيات ساحة حرب؟

لا يُنكر أحد حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، لكن هذا الحق لا يمنح أي فصيل صلاحية تحويل المدنيين إلى وقود للحرب، واستغلال المستشفيات.

بين جنبات مدينة غزة التي تئن تحت وطأة الصراع، تبرز حقائق مُرة تلقي بظلالها على مفهوم الإنسانية، وتعيد صياغة أسس الحرب الحديثة، ففي خضم المعركة الداحضة التي تشهدها المنطقة، تتكشف تفاصيل تشير إلى استخدام ممنهج لمنشآت مدنية حساسة لأغراض عسكرية، وهو ما يلقي بظلال قاتمة على مستقبل الصراع وتبعياته الإنسانية.

حيث أظهرت المعلومات الاستخباراتية التي نشرت مؤخرًا، أن قيادات بارزة في حركة حماس، وعلى رأسهم محمد السنوار ومحمد شبانة، قد أمضوا فترة طويلة في نفق حُفر أسفل المستشفى الأوروبي جنوب قطاع غزة، ومجرد وجود هذه القيادات في موقع كهذا، لا يعد مجرد صدفة، بل هو مؤشر صارخ على استراتيجية متعمدة لتحويل منشأة مدنية بامتياز، وهي المستشفى، إلى غطاء لنشاط عسكري. المستشفى، ذلك الملاذ الآمن للمرضى والجرحى، والذي يفترض أن يكون بمنأى عن ويلات الحرب، يتحول هنا إلى نقطة ارتكاز عسكرية، مما يعرض حياة الأبرياء، من مرضى وطواقم طبية، للخطر المباشر.

اختيار العمل من داخل منطقة مدنية مكتظة بالسكان، ليس محض قرار عشوائي، بل هو تكتيك محكم يهدف إلى تحقيق أهداف مزدوجة، فمن جهة، يوفر هذا الموقع غطاء مثاليًا للتحركات والأنشطة العسكرية، مستغلًا الحصانة التي يمنحها القانون الدولي للمرافق الطبية. ومن جهة أخرى، يصبح المدنيون في هذه الحالة، بمنزلة دروع بشرية قسرية، تعقد من مهمة الرد العسكري على الطرف الآخر، وتثير حفيظة الرأي العام الدولي، وتولد ضغطًا مكثفًا على الأطراف المتصارعة. هذا التكتيك، ليس بجديد في استراتيجية حماس، فقد وثقته العديد من التقارير السابقة، ويشكل انتهاكًا صارخًا لأبسط مبادئ القانون الدولي الإنساني.

التبعات الإنسانية لاستخدام المناطق المدنية في العمليات المسلحة لا تعد ولا تحصى. فالمستشفيات، والمدارس، والمنازل، كل هذه المنشآت تصبح أهدافًا محتملة، مما يفضي إلى سقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين الأبرياء، وتتفاقم الأزمة الإنسانية مع تدمير البنى التحتية الأساسية، وتشريد السكان، وتزايد الحاجة إلى المساعدات الطارئة، وتتحول حياة المدنيين إلى جحيم يومي، يعيشون فيه تحت قصف لا يتوقف، وخوف دائم من الموت الذي يطاردهم في كل مكان، وتفقد الثقة في المؤسسات التي يفترض أن تقدم الحماية، ويتآكل النسيج الاجتماعي، مما يشعل فتيل الكراهية والعنف في دوامة لا نهاية لها.

هنا، يأتي دور القانون الدولي الإنساني، ذلك الإطار القانوني الذي يفترض أن يقيد جماح الحرب، ويخفف من ويلات الصراع، حيث يشدد القانون الدولي الإنساني على مبدأ التمييز، الذي يلزم الأطراف المتحاربة بالتمييز بين المقاتلين والمدنيين، وبين الأهداف العسكرية والمنشآت المدنية. ويشدد بشكل خاص على حماية المرافق الطبية والطواقم العاملة فيها، ويجرم استخدامها لأغراض عسكرية، ووضع قادة عسكريين في أنفاق أسفل مستشفى، هو انتهاك سافر لهذه المبادئ، ويعتبر جريمة حرب بكل المقاييس.

لا شك أن حماس قد تقدم نفيًا لهذه الاتهامات، أو تقدم تفسيرات أخرى تبرر بها وجود قياداتها في مثل هذه المواقع، وقد تشير إلى أن هذه الأنفاق تستخدم لأغراض دفاعية، أو أنها ليست جزءًا من المستشفى نفسه، وقد تركز على معاناة الشعب الفلسطيني، وتلقي باللوم على الطرف الآخر في تدمير البنى التحتية المدنية. ولكن، مهما كانت التبريرات، فإن استخدام المرافق المدنية، وبخاصة المستشفيات، كغطاء للأنشطة العسكرية، يشكل انتهاكًا لا يغتفر للقانون الدولي، ويفقد الحركة جزءًا كبيرًا من تعاطف المجتمع الدولي.

ولا يُنكر أحد حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، لكن هذا الحق لا يمنح أي فصيل صلاحية تحويل المدنيين إلى وقود للحرب، واستغلال المستشفيات والمناطق السكنية في العمليات العسكرية ليس “ذكاء تكتيكيًّا”، بل هو انتهاك صارخ للأخلاقيات العسكرية والقانونية، ويُحول الصراع من معركة ضد الاحتلال إلى مأساة إنسانية تدفع ثمنها الأسر الغزية العالقة بين مطرقة الاحتلال وسندان القرارات الحماسية.

السؤال الأصعب: متى ستتحول المقاومة من استراتيجية "البقاء على حساب الدماء" إلى مقاومة تحترم حياة من تدعي الدفاع عنهم؟