ماء من الهواء دون كهرباء!
واشنطن - يفتقر اليوم 2.2 مليار شخص حول العالم إلى إمكانية الوصول إلى مياه شرب آمنة. وفي الولايات المتحدة وحدها، يعاني أكثر من 46 مليون شخص من انعدام أمن المياه، حيث يعيشون إما بدون مياه جارية أو بمياه غير صالحة للشرب. إن الطلب المتزايد على مياه الشرب يضغط على الموارد التقليدية مثل الأنهار والبحيرات والخزانات.
ولتحسين الوصول إلى مياه شرب آمنة وميسورة التكلفة، يتجه مهندسو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) نحو مصدر غير تقليدي: الهواء. إذ يحتوي الغلاف الجوي للأرض على ملايين المليارات من الغالونات من الماء في شكل بخار. وإذا أمكن التقاط هذا البخار وتكثيفه بكفاءة، فقد يوفّر مياه شرب نظيفة في الأماكن التي يتعذر فيها الوصول إلى مصادر المياه التقليدية.
وفي هذا السياق، طوّر فريق MIT واختبر جهازًا جديدًا لحصاد المياه من الجو، وأثبت أنه قادر على التقاط بخار الماء وإنتاج مياه صالحة للشرب بكفاءة عبر طيف واسع من نسب الرطوبة، بما في ذلك هواء الصحارى الجاف.
الجهاز الجديد عبارة عن لوح عمودي أسود بحجم نافذة، مصنوع من هيدروچيل ماص للماء، ومحاط بحجرة زجاجية مطلية بطبقة تبريد. يشبه الهيدروچيل غلاف الفقاعات الأسود، بتركيبة قباب صغيرة تنتفخ عند امتصاصه لبخار الماء. وعندما يتبخر البخار الملتقط، تعود القباب للانكماش في حركة شبيهة بالأوريغامي. ثم يتكثف البخار على الزجاج، ويتجمع في أنبوب ليخرج كماء نظيف صالح للشرب.
حصّاد ماء بشكل نافذة يُنتج قطرات ماء
اختبر مهندسو MIT جهاز الحصاد السلبي للماء في "وادي الموت" بكاليفورنيا. ويتكون النموذج بحجم النافذة من مادة هيدروچيل مستوحاة من فن الأوريغامي (باللون الأسود)، تمتص الماء من الهواء وتطلقه في أنابيب حيث يمكن جمعه كماء نقي.
الصورة بإذن من الباحثين – MIT News
يعمل النظام بالكامل بشكل ذاتي دون مصدر طاقة، على عكس التصاميم الأخرى التي تحتاج إلى بطاريات أو ألواح شمسية أو كهرباء من الشبكة. وقد شغّل الفريق الجهاز لأكثر من أسبوع في وادي الموت، وهو أكثر المناطق جفافًا في أميركا الشمالية. حتى في ظروف الرطوبة المنخفضة جدًا، تمكّن الجهاز من استخراج مياه شرب بمعدلات وصلت إلى 160 مل (ما يعادل ثلثي كوب تقريبًا) في اليوم.
ويقدّر الفريق أنه من خلال تركيب عدة ألواح عمودية في مصفوفة صغيرة، يمكن توفير مياه الشرب لمنزل كامل حتى في البيئات الصحراوية الجافة. والأهم أن إنتاج الماء من هذا النظام يزداد مع ارتفاع الرطوبة، ما يجعله صالحًا للاستخدام في المناخات المعتدلة والاستوائية.
يقول البروفيسور شوانهي جاو، أستاذ الهندسة الميكانيكية والمدنية والبيئية في MIT: "لقد أنشأنا جهازًا بحجم المتر نأمل نشره في المناطق التي تفتقر إلى الموارد، حيث يصعب حتى الوصول إلى خلايا شمسية. إنها تجربة لاختبار قابلية التوسيع في هذه التقنية، والآن يمكن للناس أن يصنعوها بأحجام أكبر أو في شكل لوحات متوازية لتوفير مياه الشرب وتحقيق أثر ملموس."
أنشأنا جهازًا بحجم المتر نأمل نشره في المناطق التي تفتقر إلى الموارد
وقد نشر جاو وزملاؤه تفاصيل التصميم الجديد لجهاز حصاد المياه في ورقة علمية اليوم في مجلة Nature Water. وشارك في تأليف الدراسة الدكتور "تشانغ ليو"، وهو زميل سابق في MIT وأستاذ مساعد حاليًا في جامعة سنغافورة الوطنية، إلى جانب باحثين مشاركين من MIT وجامعات أخرى.
القدرة على الحمل
الهيدروچيلات هي مواد ناعمة ومسامية تتكون بشكل رئيسي من الماء وشبكة مجهرية من ألياف البوليمر. لطالما استكشف فريق جاو استخدام الهيدروچيلات في تطبيقات طبية، مثل الطلاءات اللاصقة لزرعات طبية، والأقطاب المرنة، ولاصقات التصوير غير الغازية.
يقول جاو: "من خلال عملنا مع المواد اللينة، نعرف جيدًا أن الهيدروچيل ممتاز في امتصاص الماء من الهواء."
يبحث العلماء عن طرق مختلفة لحصاد بخار الماء. من بين أكثر الطرق كفاءة حتى الآن، هي الأجهزة المصنوعة من الأطر المعدنية العضوية (MOFs)، وهي مواد فائقة المسامية قادرة أيضًا على التقاط الماء من هواء الصحراء. لكن الـMOFs لا تتمدد أو تنتفخ عند امتصاص الماء، وهي محدودة في قدرتها على حمل البخار.
ماء من الهواء
يعالج تصميم الفريق الجديد القائم على الهيدروچيل مشكلة رئيسية في التصاميم السابقة. فقد صممت مجموعات بحثية أخرى أجهزة من هيدروچيل ميكروي أو نانوي، لكن الماء الناتج عنها قد يكون مالحًا، مما يستدعي ترشيحًا إضافيًا. وغالبًا ما يُضاف ملح، مثل كلوريد الليثيوم، لزيادة امتصاص الماء، لكن هذا يؤدي إلى تسرّب الملح مع الماء المجمّع.
أما تصميم الفريق الحالي، فحدّ بشكل كبير من تسرب الملح. إذ أضافوا مكونًا إضافيًا إلى الهيدروچيل هو الـ"غليسرول"، وهو مركب سائل يثبّت الملح داخل الهلام ويمنعه من التبلور أو التسرب. كما أن بنية الهيدروچيل تفتقر إلى المسام النانوية، مما يعزز منع التسرب. وكانت مستويات الملح في الماء الناتج دون الحد المسموح به لمياه الشرب، وأقل بكثير من تصاميم أخرى تعتمد على الهيدروچيل.
عدّل الباحثون أيضًا شكل الهيدروچيل؛ فبدلاً من الاحتفاظ به كصفيحة مسطحة، شكّلوه بنمط قباب صغيرة تشبه فقاعات التغليف، لزيادة مساحة السطح وقدرته على امتصاص البخار.
قام الفريق بصناعة نصف متر مربع من الهيدروچيل ووضعه داخل حجرة زجاجية على شكل نافذة، وغطوا سطحها الخارجي بطبقة بوليمر خاصة تساعد على تبريد الزجاج وتحفيز تكثف البخار عليه. وأضافوا أنابيب بسيطة لجمع المياه المتكثفة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، توجه الفريق إلى وادي الموت بكاليفورنيا، ونصبوا الجهاز كلوح رأسي. وعلى مدى سبعة أيام، رصدوا امتصاص الهيدروچيل للبخار ليلاً (حيث الرطوبة أعلى في الصحراء)، وفي النهار، ساعدت الشمس على تبخير الماء من الهيدروچيل وتكثيفه على الزجاج.
عمل الجهاز ضمن نطاق واسع من الرطوبة، من 21% إلى 88%، وأنتج بين 57 و161.5 مل من مياه الشرب يوميًا. حتى في أقسى الظروف، أنتج الجهاز ماءً أكثر من التصاميم السلبية الأخرى وبعض التصاميم العاملة بالطاقة.
يقول ليو:"هذا مجرد نموذج أولي لإثبات المفهوم، وهناك الكثير من الأمور التي يمكن تحسينها، مثل استخدام تصميم متعدد الألواح، ونحن نعمل على الجيل التالي من المادة لتحسين خصائصها الجوهرية."
ويضيف جاو: "نتخيل أنه في المستقبل يمكن نشر مجموعة من هذه الألواح، وبصمتها صغيرة لأنها عمودية. هكذا يمكن جمع المياه باستمرار على نطاق منزلي، حتى في الأماكن الشحيحة الموارد".
وقد تم دعم هذا العمل جزئيًا من قبل منحة MIT J-WAFS للمياه والغذاء، وبرنامج البحث التعاوني بين MIT والجامعة الصينية في هونغ كونغ، وبرنامج التعاون البحثي بين MIT وجامعة محمد السادس متعددة التخصصات في المغرب (UM6P).