منسيّون على الشاشة: كيف تخلّت السينما عن الوالدين؟
تُنتج شركات الأفلام سنويًا مئات الأعمال التي تتناول العلاقات بين الأفراد، وتغوص في تفاصيل الحب والنجاح والانتقام والمغامرات الفردية، لكنها تُقصي وتتجاهل عمدا واحدة من أسمى العلاقات البشرية: علاقة الابناء ب الولدين، إذ تُختزل هذه العلاقة في مشاهد قصيرة أو كلمات عابرة دون التوقف أمام اهميتها الإنسانية وقوتها العاطفية. وتغيب صورة الأم التي تصبر على ألمها بصمت، والأب الذي يجهد عمره في سبيل أولاده، ليحل محلها نموذج الوالدين المتسلطين أو المزعجين، كإديولوجية ترسّخ في الأذهان صورًا مشوهة عن دورهم.
وتُضحي السينما والدراما الحديثة بمضامين البر والعرفان في سبيل الإثارة والمشاهد الرائجة، إذ تُنتج أفلامًا تمجّد الاستقلال الفردي والانفصال عن الأسرة باعتباره تحررًا، وتُظهر شخصيات تهرب من أهلها لتعيش حياة أفضل، دون تقديم أي إشارات للجميل الذي قدمه الوالدان في البدايات. وتُنسى الأم التي سَهِرت والابن الذي عاد ليُقابلها بعد سنوات ببرود، وتُدفن مشاهد الاحتضان والاعتذار في زوايا الإهمال السردي.
وتعرض بعض الأعمال الدرامية المغربية مشاهد متفرقة تتناول صراع الأبناء بين طموحاتهم ومتطلبات والديهم، لكنها تظل نماذج سطحية لا تغوص في المعاناة اليومية التي يعيشها الآباء الكبار في السن، ولا تكشف الآثار النفسية العميقة الناتجة عن الجفاء الأسري.
ويُعتبر الفيلم التلفزيوني "رضات الوالدين" مثالًا بارزًا على هذا التناول، كونه يطرح قصة والدين يتعرضان للإهمال من طرف أبنائهما بعد تفويت الممتلكات لهم، ليتحول البيت العائلي إلى مصدر للتوتر والتمزق، وورغم أنّ القصة تنطلق من واقع اجتماعي مؤلم، فإنها تنحرف تدريجيًا نحو الدراما الميلودرامية، مُركّزة على الإثارة العاطفية عبر مشاكل الزوجات وعقدة الابن المتبنى، دون أن تُقدّم تأملًا حقيقيًا في مسؤولية الأبناء، أو نقدًا صريحًا لمنظومة القيم المقلوبة التي دفعت بهذين الوالدين إلى دار المسنين، بينما يُعد فيلم "يمّا" للمخرج رشيد الوالي محاولة سردية متشابكة، تنطلق من صراع داخلي لرجل في الأربعين يعيش عزلة وجدانية، لكنه لا يقدّم علاقة البر بالوالدين إلا كمجرد خلفية لحبكة أخرى، إذ يُظهر الفيلم توترًا بين 'بوجمعة' ووالده، لكنه يُسرع بالخروج من هذا الخط الدرامي، لينتقل إلى مغامرة رومانسية في كورسيك ط، ليبتعد الفيلم عن معالجة الإشكال الحقيقي بين الابن والأب، ويهمل تطوير هذا الخيط الدرامي، رغم أنّه كان فرصة مناسبة لتجسيد صراع الجيل الجديد مع تقاليد الأسرة، أو لتقديم تحول في شخصية الابن نحو الاعتراف بفضل أبيه. بدلًا من ذلك، يُغلق الفيلم بقرار الزواج كخاتمة مفاجئة، دون أن يعالج الجرح الأسري أو يُصالح بين الأب وابنه.
وتُفاجئنا الحياة كل يوم بقصص مؤثرة عن أبناء يُضحّون بوظائفهم للاعتناء بأمهاتهم، أو بنات يرفعن الدعاء كل ليلة لآبائهن في المستشفى، لكن هذه القصص لا تجد طريقها إلى السيناريوهات. يُمكن أن تُبنى أفلام قوية على هذه الحكايات: شاب يعيش في حي شعبي يُقرّر تأجيل زواجه ليعتني بوالده المُقعد، أو فتاة تُواجه أسرتها الواسعة دفاعًا عن حق والدتها في الرعاية. تُجسد هذه القصص معاني البر الحقيقي، وتُعيد الاعتبار لقيم الاحترام والرحمة، لكنها تظل بعيدة عن عدسات الكاميرات.
تستطيع السينما والتلفزيون أن تُحدث تغييرًا عميقًا في سلوك المجتمعات إذا أعادت تأصيل معاني البر، وقدّمت نماذج ملهمة تشجّع الشباب على العناية بوالديهم، وتُكرّم كبار السن بصور إنسانية مؤثرة. تُحفّز هذه الأعمال جيلاً جديدًا على التفكير في أهمية العطاء الأسري، وعلى فهم أن النجاح لا يُقاس فقط بما حققه الإنسان من شهرة أو مال، وإنما بما زرعه من حب ووفاء في قلب أمه وأبيه، إذ يعيد هذا النوع من الاعمال توازن العلاقات، وتُذكّر بأن جنة الأرض، قبل جنة السماء، تبدأ من تحت أقدام الوالدين.