ربحت إسرائيل وخسرت الولايات المتحدة سياسيا
تتفاوت حسابات المكسب والخسارة في الحروب، وتتوقف على الزاوية التي ينظر منها كل طرف للقضايا المطروحة وتفاعلاتها ونتائجها. يزداد التفاوت عندما يكون الأمر ملتبسا أو غامضا، ويحمل تأويلات متباينة. في الحديث عما جرى في الشرق الأوسط الفترة الماضية، حظيت إسرائيل والولايات المتحدة باهتمام مضاعف، من حيث أيهما حقق مكاسب أكبر، وأيهما يتبع الثاني، دون تشكيك في مركزية العلاقة بينهما، ودورها في تحقيق مصالحهما الممتدة.
مبعث الحديث عن هذه المعادلة هو الموقف الأميركي المساند دوما لإسرائيل في حربها على إيران وعدوانها المستمر على قطاع غزة. بالنسبة إلى الأولى حصلت تل أبيب على غالبية ما أرادته عسكريا وسياسيا من طهران، في تأخير برنامجها النووي، وتقويض مشروعها الصاروخي، وتهديد نظام علي خامنئي ووضعه تحت مقصلة إمكانية محاسبته على تصوراته، وتأكيد القوة الردعية لإسرائيل، وما تحظى به من رعاية غربية عند دخولها في مواجهة عسكرية مصيرية.
حصلت إسرائيل أيضا على غالبية أهدافها في غزة، والتمسك باستمرار الحرب تكتيك يرمي منه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى إطالة الوقت إلى أن تنضج الظروف التي تمكنه من القفز على عملية محاكمته بتهم فساد، والحفاظ على تماسك حكومته اليمينية المتطرفة ومنع انهيارها والدعوة إلى انتخابات مبكرة، إذ تمكنت إسرائيل من إجهاض القوة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، وأوقفت سيطرة حركة حماس على القطاع، وأعادت ترتيبه بما يمنحها حرية دخوله والخروج منه، وتسعى لاستكمال حلقات الإحباط واليأس وانعدام الحياة وتحويل التهجير من فكرة إلى برنامج عمل.
والأهم الحد من تطلعات الفلسطينيين في ما يتعلق بمستقبلهم، ووضع عثرات كبيرة أمام التفكير في حل الدولتين، فبعد عملية طوفان الأقصى تواتر حديث عنه، وتشجعت قوى إقليمية ودولية لتأييده كأداة لتوفير الأمن والسلام في المنطقة، وهو ما يسعى نتنياهو نحو نسفه، ونجح إلى حد كبير في تخفيف دعم جهات غربية لحل الدولتين، وانخفض كلام بعض الدول العربية حول ربط التطبيع مع إسرائيل بهذا الحل، وبات الاتجاه ميالا إلى إيجاد رؤية مناسبة للقضية الفلسطينية بلا إشارة محددة لماهيتها، وما يساعد إسرائيل على تنفيذ خططها هو محاولة صرف الأنظار بعيدا عن الفلسطينيين، وخلق بؤر صراعات ونزاعات جديدة مع دول في المنطقة، من لبنان إلى سوريا واليمن وأخيرا إيران، استنادا إلى أن سخونة القضايا تُنسي بعضها بعضا.
بالطبع لا ينضب بنك الأهداف في جعبة نتنياهو، فالرجل يضع عينيه على إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية بما يتوافق مع مصالح إسرائيل وإعادة هيكلة المنطقة بالشكل الذي يغير طوبوغرافيتها على المدى القريب، عبر النهم في قضم المزيد من أراضي الضفة الغربية، والاستحواذ على أراض أخرى في سوريا، وإن أمكن لبنان، ما يضيف إلى فكرة التغيير الراسخة في عقل نتنياهو بُعدا عملياتيا، لا يتوقف عند الحدود الجيوستراتيجية التقليدية، فإجراء تعديل في الجغرافيا بند حيوي في أجندته، ويخدم مشروعه التوسعي.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فمهما أشاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعبقرية الضربات التي نالت من المشروع النووي الإيراني في فوردو ونطنز وأصفهان، لا تزال هناك شكوك في التخلص منه تماما، وفقا لروايات خرجت من طهران ووكالة الطاقة الذرية وجهات أميركية، وسوف تزداد الأمور سوءا عندما تتوافر معلومات تؤكد احتفاظ إيران بكميات كبيرة من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60 في المئة أو تفاجئ العالم بامتلاك قنبلة نووية.
كما أن الضربة العسكرية التي وجهتها طهران إلى قاعدة العديد في قطر، بعيدا عن رمزيتها ومحدودية تأثيرها وما أشيع من تفاهمات حول توقيتها، نالت من هيبة الولايات المتحدة، فإذا كانت مهمة القواعد المنتشرة في المنطقة الحفاظ على المصالح الأميركية ومنعها من التعرض لضربات، ولو كانت رمزية أو متفقا عليها، فقد وقعت واشنطن في فخ مزدوج، لأن تفريغ القاعدة من الجنود والمعدات يقزم قيمتها، ويحد من أهميتها العسكرية لدول تستضيفها، وربما تواجه الولايات المتحدة مطالبات أو تململا بعد فقدانها الهدف من وجودها، وهو الدفاع أو الهجوم.
يعزز خطاب طهران التصالحي باتجاه دول الخليج العربي مؤخرا تقزيم الأهمية الحيوية للقواعد الأميركية، التي وُجدت لمواجهة الخطر الإيراني في المنطقة، وبدأت تنتبه واشنطن لذلك وعادت إلى شيطنة طهران بعد فترة من تفاؤل الرئيس ترامب بشأن الدخول في مفاوضات معها.
ومن غير المستبعد حدوث مواجهات محدودة والحث على المزيد من الاستهداف السياسي للنظام الإيراني، والعودة إلى التركيز على قوته وما يمثله من تهديدات في المنطقة، وهي سردية تضع الولايات المتحدة في تناقض معها، عقب حديثها وإسرائيل عن توجيه ضربات قاصمة لإيران.
لم يكن وضع الولايات المتحدة بالنسبة إلى الحرب على غزة أفضل حالا، حيث أكدت قدرة الرئيس ترامب على إصدار فرمان بوقف الحرب على إيران من حيث لا يدري تقاعسه عن وقفها على القطاع، وعدم وجود إرادة سياسية، وخفض مستوى مصداقية خطابه الجديد حول ضرورة إنهائها قريبا، إذ أثبت ترامب مباركته لكل الخطوات التي اتخذها نتنياهو في غزة، وأن الغطاء الذي وفره له على مدار الأشهر الماضية لم يعد محل شك، علاوة على إجهاض محتوى تفاخره بما حدث من تهدئة بين إسرائيل وحماس قبيل دخوله البيت الأبيض في يناير – كانون الثاني الماضي، وهي دعاية لا تنم عن رؤية صارمة لوقف إطلاق النار.
خسرت الولايات المتحدة من مزاياها بسبب حرب إسرائيل، وثبت اتساع حجم التواطؤ، وعدم الرغبة في تهيئة الأجواء لعملية سياسية تفضي إلى تهدئة شبه مستقرة، وخالف ترامب توجهات من سبقوه نحو الاحتفاظ بمسافة بعيدة عن تصورات بعض قادة إسرائيل تمكن واشنطن من التحكم سياسيا في دفة أمور تقبض عليها عسكريا. فقبضتها السياسية لن تعود كما كانت، وسيجد الرئيس الأميركي فتورا في تأييده إذا تبنى موقفا إيجابيا من القضية الفلسطينية، والكثير من القضايا المطروحة في المنطقة تنتظر حلولا سياسية، وهي خسارة فادحة لواشنطن التي كانت تهيمن على مفاتيح العقد والحل، والحرب والسلام.
ينسجم الدخول في هذه المرحلة مع رغبات نتنياهو، فهو يريد الولايات المتحدة كقاعدة أو رافعة عسكرية مفتوحة في الحروب، والنتيجة الناجمة عن أي خسارة سياسية لواشنطن في حربي غزة وإيران هي تراجع دورها في المرحلة المقبلة، فالطريقة التي يتبعها الرئيس ترامب تتوافق مع متطلبات الحرب وتبتعد كثيرا عن سياقات السلام من خلال القوة، وفقا لتعبيره، لأن الأخير بحاجة إلى قدر وافر من العدالة والنزاهة واحترام القانون.