تركيا وإيران والدرس العراقي

درس العراق هو الأكثر فائدة لها لاختصار الطريق الذي لو استمر ستبقى تركيا وإيران وسوريا متخلفة غير مستقرة ينخر فيهما الصراع الدموي ويُسرع في انهيارها آجلاً أم عاجلاً.

طيلة أكثر من مائة عام ومنذ اتفاقية سايكس بيكو وما تلاها من تمزّيق لكثير من البلدان وتجزئتها لتأسيس كيانات سياسية على أنقاض حقوق مكوناتها، توالت على دفة الحكم في العديد من بلدان الشرق الأوسط وخاصةً (تركيا وإيران وسوريا والعراق) أنظمة سياسية عديدة ومختلفة عن بعضها في الأسماء والعناوين والتوجهات، وربما في آليات تسلق سلالم السلطة أو القفز إليها ببهلوانيات انقلابية. وبعيداً عن تفاصيل تلك الأحداث في كلّ من تركيا وإيران وسوريا وما جرى فيها خلال قرن من الزمان، نتناول بعض مجريات ما حصل في العراق كنموذج ودرس للدول الأخرى. فمنذ تأسيس مملكته وهو في دوامة عنف مع المكونات الأصغر، وغارق في حروب عبثية داخلية وخارجية حتى الكارثة الأخيرة التي دمرت البلاد وتسببت في وقوعه تحت الاحتلال، رغم أن الكثير ونحن منهم كنا متفائلين بإحداث تغيير نوعي في شكل النظام ومكنوناته ومؤسساته وطريقة تداول السلطة فيه، حيث بدأت مرحلة يفترض أنها ديمقراطية تستخدم التبادل السلمي للسلطة من خلال مؤسسات وآليات ديمقراطية، إلا أنها اصطدمت وخلال عقدين من الزمان بتحديات خطيرة وإرث ثقافي سياسي معقد للغاية، في مقدمته عدم تبلور مفهوم للمواطنة الجامعة وهيمنة مد ديني مذهبي قبلي مريع تسبب في انتشار الفساد وانحلال الدولة.

لقد كان الجميع يتوقع إن تغييراً حاداً سيحصل بعد إزاحة الحكم الشمولي خاصةً فيما يتعلق بالمشكلة الأساسية ألا وهي القضية الكردية، لكن الغريب أن كلّ هذه الأنظمة اختلفت في كثير من الأمور، لكنها اتفقت جميعها على ذات الثقافة في التعامل مع كردستان وقضيتها وإن اختلفت الأساليب والادّعاءات؛ فمنذ اندلاع ثورة أيلول الكردية عام 1961، وحتى يومنا هذا، لم تختلف القوى المضادة في مواقفها وخطابها مع تلك الثورة ومخرجاتها، فقد استخدمت ذات المصطلحات والتوصيفات للحركة التحررية الكردية التي استخدمتها الأنظمة السابقة وإن اختلفت إيديولوجياً معها. ففي تقييمها لتلك الحركة تنعتها تارةً كونها انفصالية وتارةً أخرى انعزالية أو شعوبية أو عميلة للاستعمار والصهيونية، حتى أصبحت هذه الأوصاف والمصطلحات عاملاً مشتركاً بين جميع الأنظمة المتعاقبة على الحكم ليس في العراق وحده، بل في سوريا أيضاً حيث كانت تعتبر مواطنيها الكرد إلى قبل سنوات جالية أجنبية، وقامت سلطاتها بتجريد أكثر من ربع مليون مواطن كردي سوري من وثائقهم الرسمية وإسقاط جنسيتهم واعتبارهم مقيمين أجانب، لا لشيء بل لأنهم من القومية الكردية فقط، وكذا الحال في إيران التي أدلجت العداء للكرد قومياً بصهرهم في القومية الفارسية وطائفياً بإبادتهم كونهم من السنة، وحدث ولا حرج عن النظام التركي وسلوكه الشوفيني الذي لا يُنافس عليه مع القضية الكردية ثقافياً وسياسيا.

اليوم وبعد سنوات مريرة من الصراع الدموي والتضحيات الجسيمة، نجح الكرد في تطوير نظام الحكم الذاتي -الذي أقرّته اتفاقية 11 آذار 1970- إلى نظام فيدرالي تمّ اعتماده من جهة واحدة عام 1992 من قبل البرلمان الكردستاني الذي انبثق بعد انتخابات أجريت في المناطق المحررة إثر انتفاضة ربيع 1991 والتي اعتبرها قرار مجلس الأمن 688 ملاذاً آمناً.

ورغم إن ثقافة عدم قبول هذا الواقع كانت وما تزال متكلسة لدى بعض الجهات السياسية وميليشياتها التي لا تُخفي عدائها في الأصل لوجود أي كيان كردي بأي شكل من الأشكال، والذي اتضح جلياً في الاستفتاء الذي أجراه شعب كردستان يوم 25 أيلول 2017، حيث أماطت اللثام عن وجهها الذي لا يختلف عن الأنظمة السابقة في العراق والأنظمة الحالية في تركيا وإيران وسوريا، إلا أن الدستور الذي نجح الساسة العراقيون عرباً وكرداً وبقية المكونات في صياغته وتشريعه كفِل النظام الفيدرالي معترفاً بفيدرالية كردستان بكافة مؤسساتها وتشريعاتها، جعل حل القضية الكردية في العراق تجربة نموذجية يُحتذى بها لحل تلك الإشكالية التي أنتجتها اتفاقية سايكس بيكو في كلّ من تركيا وإيران وسوريا.

وخلاصة القول إن دوامة العنف والعنف المضاد في تركيا وإيران وسوريا لن تتوقف مهما طال الزمن وتنوعت الأسلحة ومستوياتها دونما حل حقيقي للقضية الكردية في هذه البلدان، ولعلَّ درس العراق هو الأكثر فائدة لها لاختصار الطريق الذي لو استمر ستبقى هذه الدول متخلفة غير مستقرة ينخر فيهما الصراع الدموي ويُسرع في انهيارها آجلاً أم عاجلاً.