ترنتي العراقي بين عهدين

اليوم يتحين نوري المالكي الفرصة للعودة إلى الأضواء بعد أن فتح الصدر له الأبواب ليقيم جمهورية فساده الثانية.
ترنتي عائد إليكم إيها العراقيون. ستكون الكلفة هذه المرة باهظة
كما انتهى عهد صدام حسين بالهزيمة انتهت سنوات نوري المالكي بهزيمة أقسى وأشد مرارة

"يسمونني ترنتي" هو عنوان فيلم فكاهي من بطولة الثنائي بود سبنسر وترانس هيل وهو من انتاج عام 1970. يومها كان العراق يستعد لإعلان قفزته النفطية من خلال قرار التأميم الذي شكك البعض بحكمته انطلاقا من معلومة لست متأكدا منها تفيد أن الشركات الاحتكارية كانت على وشك مغادرة العراق بسبب انتهاء عقود استثمارها.

وبغض النظر عن التشكيك فقد نهض العراق يومها وبان الفرق بين مرحلة ما قبل التأميم ومرحلة ما بعده. لم يتحول العراقيون إلى أثرياء مترفين مرفهين غير أنهم تمتعوا بتعليم راق وقطاع صحي متقدم وخدمات في مجالات الكهرباء والمياه والاتصالات كما تم تطوير قطاعي الزراعة والصناعة وتم إنشاء شبكة مواصلات غطت العراق كله.

لم تذهب أموال النفط هباء.

سنة ترنتي كانت هي نفسها سنة صدام حسين الذي ملك قلوب الشعب وصار نجم السياسة البراغماتية بحيث صار الشيوعيون يقنعون قواعدهم بأن كاسترو العراق سيعود بنظامه إليهم فيما كان قد انطلق بسرعة الصاروخ في اتجاه كرسي الرئاسة الذي وصل إليه عام 1979 في انقلاب دموي ذهب ضحيته نصف أعضاء قيادة حزب البعث الحاكم إضافة إلى أعداد كبيرة من الشيوعيين الذين تركتهم قيادتهم عالقين بالوهم وهربت.

ترنتي العراق الذي لا يُقاوم كان الوصفة المضادة لما كانت عليه وصفة السيد النائب الأنيق ببدلته البيضاء وصديق شيراك الذي زار باريس بفريق اعداد السمك المسكوف. كانت يده على الزناد ويلمع في عينيه رصيد العراق المالي الفائض الذي كان يُقدر بأكثر من ستين مليارا يومها. وكان من الفكاهة أن الشاب الذي لم يؤد خدمة العلم كان يخطط لعسكرة العراق وإنهاء كل مظاهر مدنيته وهذا ما حدث مع أول إطلاقات الحرب العراقية ــ الإيرانية التي قُدر لها أن تستمر حتى اليوم بالرغم من أن كارثة العراق في الكويت هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير ودفعت بـ"ترنتي" إلى أن يعكتف مكتفيا بمواعظ شيخوخة مبكرة وروايات هزيلة أدعى البعض أن هناك مَن كتبها له وهو اشتباه ليس في محله.

لقد أقام صدام حسين معادلاته السياسية كلها على أساس خاطئ. لم ير أعداءه ولم يميز أصدقاءه. سار في طريق وعرة فيما كانت الطرق من حوله أفضل حالا وقيل أنه كان عادلا في ظلمه وهي نكتة ليست صحيحة. فليس هناك عدالة في الظلم. لقد وهب أعداء العراقيين الحقيقيين فرصا للنجاة فيما دمر أبناء العراق حين ألحق بهم هزيمة لا يمكن نسيانها بعد أن وضع العراق في المصيدة. كانت الكويت هي المصيدة التي انقفلت أبوابها على العراق.

من 1979 إلى 2003 وهو الزمن الذي حكم فيه صدام حسين كان زمنا عبثيا لا معنى له. شعارات وخطابات وهتافات وأناشيد ولا معنى. كان على ترنتي أن يظهر مرة أخرى من خلال شخص لم يكن في البال ولا في الخاطر هو نوري المالكي. نكرة وقع عليه الاختيار ليكون رئيسا لحكومة سيكون عليها أن تدير حربا أهلية. كانت مكافأته تقع في الاستيلاء على أموال العراق كلها ليتصرف بها كما لو كانت إرثه الشخصي. في تلك اللحظة ولد ترنتي الفاسد الذي لن يمنعه قانون ولا شريعة ولا تقليد ولا عرف من العبث بأموال الشعب كما يشاء وبأي طريقة. 

ومثلما انتهت سنوات صدام حسين بالهزيمة فإن سنوات نوري المالكي قد انتهت بهزيمة أقسى وأشد مرارة. ذلك لأن جيشه هذه المرة سلم سلاحه من غير أن يقاتل. كان الشعب العراقي موعودا بترنتي الذي يغفل عن هزيمته ويسعى إلى تعليقها في رقاب الآخرين. ذلك لأن صدام حسين لم يعترف أنه قد هُزم، بالرغم من أن الشعب العراقي كان قد تعرض للهزيمة غير مرة في ظل قيادته.

اليوم يتحين نوري المالكي الفرصة للعودة إلى الأضواء بعد أن فتح الصدر له الأبواب ليقيم جمهورية فساده الثانية. ترنتي عائد إليكم إيها العراقيون. ستكون الكلفة هذه المرة باهظة. أما أن تغادروا جميعا لكي لا تُهزموا مرة أخرى أو أن تقبلوا الفناء كما لو أن وطنكم قد تحول إلى مقبرة. فالمالكي لن يرحمكم وقد هزمتموه ونصره الصدر الذي انتصرتم له. ما هذه الكوميديا السوداء؟ أرض السواد تحتفي بسواد جديد سيكون مناسبة لفكاهة هي أكثر جراءة من فكاهات المثل الإيطالي. ترنتي العائد على ظهر عمامة سوداء لن يكتفي بالفساد هذه المرة.