مستقبل العراق وآفاقه الاجتماعية الضبابية

تمعن السياسة الطائفية في تفكيك المجتمع العراقي الذي لم يحض بالفرصة الكافية لتشكيل هويته الوطنية بالأصل.

لم يكن العراق الحديث منذ تأسيسه إثر مؤتمر القاهرة في آذار/مارس 1921، ورسم حدوده الجغرافية الغربية والجنوبية بواسطة المسطرة والقلم من قبل المس غيرترود بيل والمعروفة بإسم الخاتون محليّا، لم يكن مستقرا بشكل دائم، بل كانت الانتفاضات والانقلابات العسكرية والعصيان القبلي تصبغ الحياة السياسية العراقية أثناء العهد الملكي الذي رعته بريطانيا حتّى ساعة انهياره صبيحة الرابع عشر من تموز 1958. وعلى الرغم من المشاكل الكبيرة التي كانت تواجه النظام السياسي وتأثير ذلك على مجمل فئات الشعب العراقي، الا أنّ المشكلة الأساسية التي كانت تواجه العراق على صعيد التماسك الاجتماعي الهش كانت القضية الكردية وتعقيداتها الموجودة ليومنا هذا، وهذا لا يعني عدم وجود مشاكل غيرها أثّرت سلبا على النسيج الاجتماعي، فالسلطة لم توفّر الأرضية الصلبة لبناء مجتمع متماسك لأسباب عدّة، منها ما يتعلّق بطبيعة سياساتها التي همّشت فئات اجتماعية عديدة ومنعتها من المشاركة في الحكم، ومنها ما يتعلّق بالانقسامات القومية والطائفية التي كانت تطل برأسها عند الأزمات، كما ولم توفّر السلطات جهدا في استخدام العنف المفرط في مواجهة الكرد والآشوريين والقبائل في ريف الفرات الاوسط.

في العهد الجمهوري بقيت القضية الكردية مشكلة أساسية دون حلول حقيقية لغياب الديموقراطية في ظلّ الأنظمة التي هيمنت على السلطات في بغداد ومكلفة جدا على مختلف الصعد. فالنظام البعثي مثلا تنازل عن نصف شط العرب لصالح إيران لقمع الحركة الكردية عوضا عن حلّ المشكلة داخليا وهو الأسلم لبناء وطن يشعر فيه أبناء شعبه بأنهم مواطنون على قدم المساواة. وأنفرد النظام البعثي الهمجي في قصف مواطنيه من الكرد بالأسلحة الكيمياوية وإبادة 180 الف مواطن كردي بريء في حملات الأنفال سيئة الصيت.

لقد بدأ النسيج الاجتماعي يفقد آخر حصونه بعد الحروب التي خاضها النظام البعثي ضد إيران والكويت. فبعد أن كانت القضية الكردية كقضية قومية هي الوحيدة تقريبا في تأثيرها على متانة النسيج الاجتماعي للشعب العراقي، توسّع النظام بعد انتفاضة آذار ليكون العامل الطائفي مكملّا للعامل القومي في تفتيت هذا النسيج الذي أصبح أكثر هشاشة نتيجة القسوة المفرطة للآلة العسكرية البعثية في قمعها للمنتفضين ودكّها المدن الشيعية ومنها المراقد الشيعية المقدّسة بالصواريخ، ونزوح الملايين من العراقيين الكرد والشيعة الى خارج الحدود.

لقد أثّرت سياسات النظام القمعية تجاه الشعب العراقي عموما والكرد والشيعة خصوصا على المعارضة العراقية في الخارج. وقد ألقت الرؤى المتباينة والشعور بالظلم والقهر عند ساسة الكرد والشيعة بظلالها على مؤتمراتها العديدة. ولم يكن هناك في الأفق ما يشير الى نيّة من سيهيمنون على القرار السياسي العراقي بعد رحيل سلطة البعث، في بدء بناء الأنسان العراقي ليتحرر من مخلّفات النظام السابق ويساهم في بناء بلده على أسس جديدة.

نتيجة دورة العنف والقتل البعثي كان أكثر المتفائلين يتوقع بناء عراق على أسس جديدة خلال عقد الى عقدين بعد رحيل البعث، من خلال توظيف الثروة النفطية في بناء اقتصاد متين وتوظيف الأموال في بناء بنى تحتيّة من خلال سياسة تنمية مستدامة، بعد أن أدّت سياسات البعث الى تخلّف ودمار البنى التحتية وتردّي طبيعة الحياة بالبلاد على مختلف الصعد. فهل تحقّق هذا التفاؤل ونحن على أعتاب العقد الثالث لهيمنة قوى المعارضة السابقة على السلطة ورحيل البعث؟

بدلا عن بدء حكومات ما بعد الاحتلال بالشروع في إعادة العافية للاقتصاد العراقي نتيجة القفزات الهائلة بأسعار النفط، والعمل على استثمار تلك الأموال في بناء بنى تحتية وتوفير خدمات للمواطنين بما يكفل أن يعيش شعبنا حياة آدميّة، نرى اليوم وبعد مرور عقدين على انهيار النظام البعثي أنّ السلطات جادّة جدا في تدمير ما تبقى من بنى تحتية ناهيك عن بناءها. أمّا عن مستوى الخدمات، فنظرة أوليّة على واقع الكهرباء والصحة والتعليم تؤكّد فساد السلطات ونهبها للمال العام، وبهذا فأنّها لا تختلف قيد أنملة عن البعث واستهتاره بأموال شعبنا إن لم تكن أسوأ، كون ما دخل الخزينة قبل نهبه من حيتان المحاصصة يفوق بمرّات ما دخل خزائن النظام البعثي خصوصا أثناء الحصار الأميركي للبلاد.

أما من حيث متانة النسيج الاجتماعي فأنّ السلطات اليوم فاقت البعث في تكريسه لهشاشة التماسك الاجتماعي المتوارث منذ تأسيس الدولة لليوم. فالصراع الطائفي المسلّح الذي كانت أحزاب السلطة ممثلّة بميليشياتها طرفا فاعلا فيه لم يكن له مكان في تاريخ العراق الحديث على الإطلاق، وتعتبر السلطة اليوم وهي تكرّس المحاصصة الطائفيّة القومية كنهج للحكم، هي الوحيدة التي تميّز بين المواطنين على أساس هوياتهم القومية والطائفية وإن بشكل غير رسمي. فتوزيع المناصب السيادية بين الشيعة والسنة والكرد وإن لم تحدّد دستوريا، أصبح عرفا بعد كل دورة انتخابية "ديموقراطيّة" وهو رأس حربة الصراعات القومية والطائفية بالبلاد. وبهذا سيبقى النسيج الاجتماعي العراقي هشّا وقابلا للانفجار في أية لحظة. فالقضية الكردية وعلى الرغم من الفدرالية وهي أتفاق بين النخب السياسية وليس بين أبناء الشعب العراقي في ظلّ نظام ديموقراطي حقيقي، تخضع لمزاج السياسيين من جميع الأطراف وهي ورقة يلعبها اللاعبون الرئيسيون وهم يتوجهون لتقسيم كعكة السلطة في توزيعهم للحصص المالية بينهم، تلك التي لم يجنِ شعبنا منها شيئا خلال العشرين عاما المنصرمة. أمّا الصراع الشيعي السنّي فهو الآخر برميل بارود يهدد ليس النسيج الاجتماعي وحده بل ومعه القضية الكردية وحدة البلاد الجغرافية. وبهذا تكون السلطات اليوم تعمل بوعي أو غباء سياسي على تدمير الهوية الوطنية العراقية التي بالحقيقة لم يمتلكها العراق منذ تأسيسه ولليوم.

من خلال الواقع السياسي الراهن وتأثيره الكبير على تفتيت النسيج الاجتماعي بشقيه القومي والطائفي، فأننا بحاجة الى أجراء عملية جراحية لجسم العراق الواهن من خلال انتفاضة ناجحة وسريعة لتغيير شكل الحكم، والإسراع في بناء اقتصاد قوي ومتين ومتنوع لجذب قطاعات واسعة، ومن فئات اجتماعية مختلفة لسوق العمل الذي يحوّل الصراع القومي والطائفي الخطر الى صراع طبقي يتجاوز حالة الانقسام في المجتمع. أنّ أي تأخير في تغيير شكل السلطة وطبيعتها يعني تأخير عملية إعادة الحياة للنسيج الاجتماعي لعقود قادمة، وهذا يعني في النهاية وضع العراق في ثلاجة الموتى لحين إعلان وفاته رسميا.