حنا الحايك يذهب إلى الله في الذكرى الرابعة على ولادته الجديدة

لا يمكن أن نغفل إسم التشكيلي الراحل قبل أيام في السويد ونحن نعيد الزمن إلى الخلف نصف قرن، فهو من جيل إشتغل على تعزيز الدور للذائقة الفنية، وأحد علامات الفن التشكيلي في الجزيرة السورية.

وإسم آخر يلف قلبه وروحه بقماشه الأبيض مشكلاً لنا لوحته الأخيرة، اللوحة التي لن تبرح العيون والقلوب، يلف زاده ليتركنا في موتنا الطويل، ويلتحق بأصدقائه الآخرين الذين شاركوه في تجميل هذه الحياة والتقليل من بشاعتها، يحزم نبضاته وشهقاته متلهفاً للقاء بشركائه في خلق الأرواح العذبة، فجوقتهم بإنتظاره محتفين به وبخلاصه من الأرض وبنيها الذين حولوها إلى مرتع الخراب والحقد والغبار، نعم أصدقائه مالفا وعمر حسيب وصبري رفائيل وخلف الحسيني وعبدالرحمن دريعي وآخرين فرحون به وبخلاصه، فالأرض خلقت للزواحف والحيتان، وحدها السماء تليق بالأجنحة المرفرفة بالحب والحياة . 

حنا الحايك الذي رأى الضوء في الحسكة عام 1941، ويغمضها عليه في السويد قبل أيام ( 26-4-2020)، كتبت عنه قبل عامين في الصدى نت، ودعوت إلى تكريمه، فأعمدتنا التي ترفع سمواتنا تستحق منا كل التكريم وهم بيننا، فعلى مدار أعمارهم يزرعون حقول الورد في قلوبنا وفي حياتنا، ألا يستحقون منا لفتة صغيرة، باقة ورد صغيرة من تلك الحقول التي زرعوها هم نردها لهم ونذكرهم بأنهم عناويننا في هذه الحياة، باقة ورد صغيرة مع باقة إبتسامات نقدمها لهم وهم ينبضون بيننا أليس خيراً من كل ورود الأرض وهي ترمى على رفاتهم، هذا قدر المبدعين عندنا، لا نتذكرهم إلا حين يرحلون إلى السموات تاركين الأرض لنا نلوثها بكل أوساخنا وحروبنا التي لا حدود لها .

لا يمكن أن نغفل إسم حنا الحايك ونحن نعيد الزمن إلى الخلف نصف قرن، فهو من الجيل الذي إشتغل على تعزيز الدور للذائقة الفنية، وأحد علامات الفن التشكيلي في الجزيرة السورية، أحد الأسماء الفاعلة في مشهدها التشكيلي، المشهد الذي كان لافتاً في إصراره بأن الفن ينبغي ألا يكون هامشاً، وأن يكون زاداً مهما كانت النظرة إليه مريضة ومنكسرة، المشهد الذي كان مثيراً في جوهره حيث الخيال يجهد في إستثارة مقدار غير محدود من الحب للحياة والإنسان، المشهد الذي أطلق أسماء ممثليه لتكون شاهدة عليه وعلى فاعليتهم على مدار نصف قرن قرن وأكثر، على قدرتهم على حمل الخبرة الجمالية التي تضعهم بالضرورة في المرتفعات فالواقع يطاردهم بتفاصيله، والكشف يبعث الإدهاش بلغة كانت تتنبأ بإنفجار غير منفصل من المستويات الأخرى، وهنا كان ينبغي أن تترسخ أسماءهم حينها، وفي زمان جديد ومغاير كانت تنتظرهم، والحايك كان منهم، ينتج ما يثير الإستجابات الجمالية دون أن يدعها تسقط في المألوف، وإن كان الجديد حينها أصبح مألوفاً وعادياً فيما بعد، دون أن يدعها تقع في تتابعات لمحتويات غير متوقعة، ولهذا جاءت نتاجه وكأنها مقاطع لونية داخل قصائد تبحث الخلاص من القافية، مقاطع تحمل معلومات مستمدة من ذاكرته التاريخية، ويتعمد في استحضارها لأنه ينبض بها، ولأنها تشكل ذاكرته التسجيلية التي تنبغي أن تكون مشتملة على جوانب فيها تكون مكونات جهده أكثر سخونة، وإن كان الشكل الفني محافظاً على نظامه وغير منفصل عنه، فالنظام المنتج لعمله هو ذاته النظام الذي يمنحه قيمة معرفية وبالتالي القيمة المعطاة التي تستدل عليها من موسيقاها الخارجية والداخلية معاً، ومن سيطرة الإنفعالات التي قد تثير التوترات والتوقعات إلى درجة ما، فالعمل على تصريفها وخفضها قد تكون ضرورة، وإن كان ذلك مرتبط بسيطرة مشاعر خاصة تتعلق بالصدمات التي تنتمي إلى ماض يشاركه المصير المشترك نفسه الذي قد يزيد من إحساسات الأمان الخاصة لديه، مؤكداً بذلك بأن العمل على خلق مشاهد متخيلة أمر وارد وإن كانت الحقائق ليست بعيدة عن ذلك، فالمتعة الجمالية والشعور بها مع الإشتمال لنوع ما من التأمل هي التي تجعل النفس بقوة تسمح له بِكمِّ من الحب به يستطيع المرء مواجهة الصعاب مهما كانت عسيرة، ومواجهة الأشياء مهما كانت غامضة .

نصف قرن وحنا الحايك يتحدث ويتواصل ويتخاطب بالألوان، فالألوان لغته وهي الأكثر تعبيراً، بها يخاطب الدنيا برمتها، فهي اللغة التي لا يمكن أن تندثر، ولهذا لم يجد صعوبة في السويد والإندماج فيها حين هاجر إليها قبل أكثر من أربعين عاماً ( 1977 )، بل بها كان قادراً أن ينخرط في مجتمعها وأن يأخذ لنفسه مكاناً يليق به، يتأثر بهم ويتأثرون به، فكان حاضراً في المشهد التشكيلي السويدي إذ أقام في متاحفها وصالاتها وفي متاحف وصالات أوروبية أكثر من أربعين معرضاً، وأصبح عضواً في إتحاد الفنانين في السويد وفي الدول الإسكندفانية وفي ضوء الفترة الزمنية التي عاش فيها كان يعمل مدرساً للتدفقات اللونية، وخير ما أختتم به مادتي عنه ما قاله عنه صديقه فؤاد كمو في سرده عنه : في بداية السبعينات من القرن الفائت كان حنا وعائلته يسكنون في حي الصالحية بدمشق، يسكنون في الطابق الأخير، أي على سطح إحدى البنايات، كنت أمازحه وأسأله في كل مرة وعند مدخل البناية أين يسكن فيجيبني بدوره ممازحاً : عند الله، حقاً إنه الآن عند الله، صعد إليه مرفرفاً، فقد قرف الأرض وما يجري فيها وعليها، كان الله ملجأه الآمن والأخير، ليتركنا في وجعنا غير الأخير .