الإنكار لا يمحو الجريمة في 'مرآة النسيان'

رواية جورسال كورات تطرح قضية أثارت وتثير حتى الآن جدلا نتيجة الاهتمام الواسع بها، ألا وهي قضية الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، والمعروفة رسميًا باسم الترحيل.

تطرح رواية "مرآة النسيان" للروائي جورسال كورات قضية أثارت وتثير حتى الآن جدلا نتيجة الاهتمام الواسع بها، ألا وهي قضية  الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، والمعروفة رسميًا باسم الترحيل. حيث تسلط الضوء على منطقة مظلمة من ذاكرتنا الإنسانية، وتكشف عن حقيقة إجرامية وصدمة متأصلة.هي تجربة نسيان عمرها قرن من الزمان تعمل بتحصين من الإنكار والصمت.

هذه المنطقة المظلمة، على الرغم من أنها قد تظهر على أنها نقص في الذاكرة، إلا أنها تتكون أساسًا من الإنكار. إنها مشكلة مختلفة تمامًا عن عدم القدرة على تذكر شيء ما، أو حتى التذكر الخاطئ. إنها تندرج تحت وطأة الإنكار مما يعني استمرار الإبادة الجماعية، وتشويه التذكر.

أثناء فتح منطقة الصمت على أساس الإنكار، تثير الرواية أيضًا إشكالية "السرد الكارثي" بطريقة فريدة. يمكننا أن نقول إنكورات يفعل هذا الأخير ليس عن طيب خاطر، إنه يترك المشكلة دون حل ويجد حلًا فريدًا من خلال البحث عن تابوت يحمل الصور التوثيقية للإبادة بطريقة تجعل القصة التي يتم سردها تذهب إلى زاوية أخرى لكنها أيضا مهمة. زاوية القضايا المتعلقة بعلاقة الكارثة بالتاريخ، والتاريخ بالأدب، والأدب بالواقع الذي ينفتح أمامنا.

تدور أحداث الرواية ـالتي ترجمتها سوسنة سيد وصدرت عن دار العربي ـ عام 1915، في مدينة "نوشهير" بتركيا، تلك المدينة المعروفة بمغاراتها وكهوفها التي تشبه عالمًا كاملًا تحت الأرض. الموضوع الرئيسي للرواية هو تهجير الأرمن؛ حيث يصل الجنرال "ضياء بيه" ومساعده "خورشيد" وجنودهما إلى مدينة "نوشهير" من أجل نفي الأرمن، وذلك عقب أن أتموا مهمة الترحيل في مدن أخرى مثل "بوغازليان" و"إيغدالي" وغيرها، حيثُ ارتُكبت مذابح عدة أثناء عمليات الترحيل.لكن الجنرال يبحث عن شيء ما في هذه المدينة قبل بدأ عمليات الترحيل؛ يبحث عن تابوت.

يقرر مجموعة من سكان المدينة الهرب والاختباء في مغارة سرية اكتشفها الصديقان "محمد" الحلاق و"كيركور" الحداد، ويصطحبان معهما حوالي سبعة عشر شخصًا للاختباء هناك هربًا من الترحيل.

في المغارة، يعثرون على التابوت الذي أخفاه هناك البائع الجائل "بوغوس"، من أجل إيصاله إلى "زابيل" الأرمينية التي كانت ستتولى مهمة إيصاله لباريس عبر القنصلية الفرنسية في "أضنة"، ليكتشفوا أن التابوت يحتوي على نيجاتيف صور فوتوغرافية توثق عمليات الترحيل والإبادة الجماعية للأرمن والمذابح التي ارتُكبت ضدهم، تلك الصور التي يسعي الجنرال جاهدًا ليضع يده عليها لأنها تكشف جرائمه. فالصور هي المرآة التي توثق الماضي، وتحفظ الذكرى من النسيان.

الرواية تؤكد على ضرورة فهم الإبادة الجماعية للأرمن مع الإنكار والصمت المحيط بها. النسيان هنا ليس مجرد مسألة نقص المعرفة بالماضي. إنه يشير إلى أن الإبادة الجماعية مستمرة بالفعل من خلال آلية سياسية تعمل بالإنكار والصمت. حتى يصبح إنكار الجريمة تعظيمًا دائمًا لـ "الذات الجماعية". إن عنف الإنكار هو أن هيمنة الصمت تترك بصماتها على الحياة.

تجلب الرواية الماضي المظلم إلى الحاضر من خلال تمريره عبر مرآة منسية، لتتحول قصص الشخصيات والأحداث إلى مرايا حيث يكون من الضروري مواجهة الماضي. وقد أكد كورات أنه يروي "تاريخ الأشخاص المتشابكين" من خلال النظر إلى "القصة الإنسانية على خلفية عميقة خلقتها مذبحة الأرمن". تخبرنا القصة كيف تفكك هذا التشابك، كيف تشكل القتلة والضحايا. كما أننا نرى المحرمات في مصدر الإنكار والصمت في القصة المحكية. عند هذه النقطةيجب التأكيد على أن المرآة المنسية تفتح النسيان بتذكيراتها - فهي تسمح للحقيقة بالتواصل مع الواقع.

يبقى أن نشير إلى إن كتابة الرواية كمرآة منسية، بعد قرن من حدوث كل شيء وتغطية تاريخ مظلم من النسيان، يفتح الباب الذي لرؤية حقيقة الإبادة الجماعية والاستشعار بجوهر الكارثة.

يذكر أن الرواية حائزة على "جائزة أورخان كمال للرواية" عام 2017 وأن "جورسال كورات" ولد عام 1960. قضى طفولته ومراهقته في مدينة "قيصري". أكمل تعليمه العالي في جامعة أنقرة. نشر مقالات في مختلف الصحف والمجلات، وشارك في بعض مشاريع الأفلام ككاتب سيناريو، وألقى محاضرات في جامعات مختلفة.

مقتطف من الرواية

05:10 صباحًا

صوتٌ يشق الليل

استيقظ الحداد "كيركور" على صوت الأعيرة النارية القادم من بعيد. فلم يسبق أن سُمِعَ هنا من قبل دوي طلقات نارية. لذا، فهذا ليس وضعًا مألوفا. ولا بد أن يستيقظ في إثره المرء.. في البداية لم يسعه أن يدرك أنه قد استيقظ بالفعل. فكّر أن كل الأرمن قد استيقظوا وسمعوا هذا الصوت. كل الأرمن. أن تكون أرمينيًا لهو أمرٌ كافٍ لجعلك ترتاب في كل شيء. إن رأيتَ جنديا، فستتصبب عرقا. وتقول: "إنهم قادمون، سيصلون إلى هنا قريبًا جدًا". في الواقع، حتى لو ظن "كيركور" أنه استيقظ، فهو لم يكن قد صحا بشكلٍ كامل بعد. فقد رأى في منامه أنه يستيقظ، ويتعرق. كانت زوجته "مايراني" تنام مولِّية ظهرها له؛ لم يستطع رؤية رأسها. فالأجواء ما زالت مُظلمةً إلى حدٍ ما. اعتدل "كيركور" في جلسته ثم نظر إليها: جسد بلا رأس... انتابه الذعر، فرك عينيه ثم نظر مجددًا: يبدو أن "مايراني" قد دفست رأسها أسفل الوسادة، ونامت على هذا الوضع.

تنهد "كيركور" شاكرا الله أنها بقيد الحياة. فكّر في نفسه: "نمنا واستيقظنا في منزلنا، يا لها من سعادة...". ثم استشعر الكارثة التي يعيشها الآخرون: ربما هم أيضًا ناموا واستيقظوا في منازلهم. من يقصدهم بالآخرين هم الأرمن الذين يعيشون في "بوغازليان"، و"ترزيلي"، و"إيغدالي"، و"أوزونلو". فكّر: "ربما في الصباح، أو ربما في المساء، دخل بيوتهم أولئك الذين وصلوا إلى قراهم، وفصلوا الرجال...". التفت "كيركور"، فهو نفسه أحد هؤلاء الرجال. ثم أكمل: "يفصلون الرجال... هكذا يفعلون، هذا ما يحكيه الناس. من يدخلون البيوت هم قتلة تم إطلاق سراحهم من السجون".

تجسَّد أمام عيني "كيركور" مشهد لرجال يسيرون في صف. أكمل في نفسه: "يقولون لهم: "التهجير"، ثم يأخذون الرجال، وقبل أن يصلوا إلى حافة الجدول... ليسوا دجاجًا، وليسوا عجولًا". غمره العرق فجأة، شعر بالخوف، تقطعت أنفاسـ...تقطعت أنفاسه.بدأ رجال ذوو نظرات قاسية يمرون في مخيلته: "الإمام قاسم"، و"حاچي نوري" ذو النظرة العدائية.استيقظت "مايراني"، وأخرجت رأسها من أسفل الوسادة. تبادل الزوجان النظرات. فاتسعت فتحتا أنف المرأة، واغرورقت عيناها بالدموع. استقام "كيركور" في جلسته مستندا على مرفقه، وسألها بخوف متزايد:

- خيرًا؟

لم تجب "مايراني". اعتدل "كيركور" وهو يسألها:

- أيبكي المرء ما إن يستيقظ من نومه؟

ثم غطى وجهه بكلتا يديه، وفركه جيدا.

- لقد سمعت دوي طلقات نارية، عسى الله أن يجعله خيرا.

ألصقت "مايراني" وجهها بالوسادة، رغبةً في ألا يسمع صوتها، وشرعت في البكاء بحرقة، ثم قالت أخيرا:

- رأيت حلما مزعجا.

بدت عيناها كأنهما خطان من أثر البكاء، ومقلتاها نديتان، وفمها مسطح. أكملت:

- كان صهرنا يزورنا في المنزل. كان جالسًا على الأريكة. كان هو "ديكران"، ولكن وجهه ليس وجه "ديكران". شرعت ابنتنا تصيح بأعلى صوتها قائلةً: "حبيبي ديكران مفقود، لقد أخذوا رأسه وبدَّلوها برأس هذا الرجل. لا أريد الزواج منه!". فكرت خلال الحلم بيني وبين نفسي: "إنهم يأخذون رؤوس كل الرجال، ويضعون محلها رؤوس رجال آخرين. تُرى إذًا أي واحد من هؤلاء الرجال الذين أراهم هو كيركور؟". كنَّا في غرفة، تشبه غرفتنا هذه؛ كنتَ موجودًا فيها، وكذلك أبي، والمرحوم خالي، لكن كان بها أيضًا عدة رجال آخرين لا أعرفهم. وأنت، يبدو أنك كنتَ أحد هؤلاء الرجال. نظرت إليهم، فانتابتني قشعريرةٌ. وشعرت بثقل كالحجر على مؤخرة رأسي... ثم استيقظت.

اغتم "كيركور"، وأراد أن يغيِّر الموضوع. في الواقع، لقد ضايقه أن تنعت "جولجاران" خطيبها بـ"حبيبي ديكران"، حتى لو كان ذلك في الحُلم.قال:

- لقد أصبح "ديكران" كثير التردد على منزلنا. انتبهي يا "مايراني"، ستسوء سمعتنا.

لم تجب "مايراني"، لكن نظراتها كانت تقول: "نحن منشغلون بالقلق على حيواتنا، بينما الرجل منشغلٌ بالغيرة على ابنته من صهره!".رد "كيركور"، وكأنه قد سمع ما يدور برأس زوجته:

- حتى إن كنا سنموت، فلنمت بشرفنا.

استدارت "مايراني" متكئةً على ذراعها اليمنى، ثم قالت بغضب:

- لقد سقط "مراد" والد "ديكران" عن حصانه، ومات. بعدما مات الرجل علمنا أنه كانت له بعض العلاقات الغرامية. إحداها مع "شادية" الأخت الكبرى لذاك المُعلِّم "بلال"... ماذا حدث لزوجته؟ لا شيء! كف عن تحدي صهرك! بالتأكيد ستقابل الفتاة خطيبها.

- أخبريه ألا يأتي إلى منزلي إلا قليلًا، إنني أتضايق.

هبت "مايراني" معتدلةً في جلستها بغضب، جلست على وركيها العريضين، وردت وقد اشتدَّ لمعان عينيها:

- لا تُفقِدني أعصابي منذ الصباح الباكر يا رجل!

صاح "كيركور" في زوجته، بيدَ أن توبيخه كان مُوجَّهًا لـ"ديكران" قائلًا:

- لِمَ يأتي إلى منزلي؟ ما حجته؟

- يريد دبسًا، أو دقيقًا، أو يرغب في رؤية خطيبته. ما الخطب في ذلك؟

- خطبٌ كبيرٌ... أنا لا أقبل بهذه الدناءة.

ردت "مايراني" وقد استعر غضبها:

- انظر إليَّ، نحن لا نعرف كم يومًا تبقَّى لنا. ربما لا نحظى بقبرٍ حتى. ربما لن يتمكن هؤلاء الأولاد من أن ينالا مرادهما من بعضهما.

امتلأت عينا "مايراني" بدهشة شخصٍ قد فهم توًّا معنى ما يتلفظ به، وتوترت قسمات وجهها في هلع، واختنق صوتها تدريجيًا وهي تقول:

- ربما سنحمل جثث أعز أحبائنا.

نهضت على قدميها وحدَّقت في زوجها بنظرات مرعبة، ثم بضربة واحدة حطَّمت المغزل الذي رأته أمامها، وراحت تحطِّم بغيظ القطعة المكسورة التي تبقَّت من إبرته. علقت بشعرها، فراحت تنتفه بعنف، حتى امتلأت كلتا راحتيها بالشعر.

- في الواقع إن الذي عليك أن تفكر فيه يا "كيركور" هو ما الجرم الذي ارتكبناه؟ دعك من خلط الأمور... ما الجرم الذي اقترفناه حتى يعاقبنا الله بهذا الأسى؟

سيطر الهلع على "كيركور" من الحالة التي انتهت إليها زوجته، لدرجة أنه لم يستطع التحرك قيد أنملة. قال بصعوبة:

- ستوقظين الفتيات.

بمجرد أن انتهى من جملته، إذ بـ"سيرانوش" و"جولجاران" تعدوان إلى داخل الغرفة؛ ظنًا أن أمهما قد أصابها مكروه. صاحت "جولجاران" محتضنةً أمها:

- أمي!

ثم صارت تبكي دون أن تعرف لبكائها سببًا. أما الصغيرة "سيرانوش"، فقد استكانت في خوف وفضول؛ فبدت كحَمَلٍ وحيدٍ قد فقد أمه. "كيركور" هو من شبَّه ابنته بالحمل اليتيم. لو أن قلبه جليدٌ لذاب من المشهد الذي يراه. كان يتصرف بحدة، لكنه رقيق القلب؛ وعلاوة على ذلك، فهو والد هاتين الفتاتين. لذا فجأة، ذاب كسبيكةٍ من الرصاص؛ انهار على الأرض، وراح يبكي بحرقة.