الحقيقة عندما تغيبها الأكاذيب في 'العار'

رواية الكاتبة البرازيلية آنا ماريا ماتشادو تحكي قصتين مختلفتين لكنهما متداخلتين في أحداثهما يجمعهما البحث حول قوة الحقيقة ومدى صمودها أمام محاولات التشكيك وعدم التصديق، تتمحور حول عائلة من الدبلوماسيين وأصدقائهم المقربين.

تحكي رواية "العار" للكاتبة البرازيلية آنا ماريا ماتشادو قصتين مختلفتين لكنهما متداخلتين في أحداثهما، يجمعهما البحث حول قوة الحقيقة ومدى صمودها أمام محاولات التشكيك وعدم تصديق، تتمحور حول عائلة من الدبلوماسيين وأصدقائهم المقربين..

تعالج قصتا الرواية التي ترجمها عمار حفناوي وصدرت عن دار العربي؛ كيف يتم التلاعب بالمعلومات من قبل الصحافة، والتشكيك في قوة الحقيقة وكيف أن هذا التشكيك يلعب دورا كبيرا في التستر. تتلامس القصتان مع بعضهما البعض وتكملان بعضهما البعض حيث تتغلغلا في الحياة اليومية والبحث المتعمق بفضل حفيد السفير الذي يكشف المعلومات الزائفة وتحويلها إلى حقائق تثير الفضائح وتضر بالأشخاص وللأسف يستمر تأثيرها حتى بعد الكشف عن زيفها.

في كل قصة، تتأثر الأسرة بشكل مختلف، أولاً بالتلميح إلى شيء غير دقيق ثم بالكذب. تختلف كل حالة عن الأخرى، لكن السرد الموازي يساعدنا على رؤية المزيد من التفاصيل عن كل منهما وعلاقتها بالآخرى.

القصة الأولى تخص أسرة السفير المتقاعد مانويل سيرافين سواريش دي فيلينا، بطريرك لعائلة دبلوماسية ناجحة. يعاني من مشاكل في الرؤية، وينتظر موعد عملية جراحية يمكنها استعادة بصره بالكامل، يعيش مع زوجته آنا أميليا، حيث تمر أيامهما بطيئة ورتيبة. في غضون ذلك، تزوره كاميلا، ابنة صديقهفاشكونسيلوش، بشكل متكرر لمساعدته على قراءة الكتب والصحف. كل شيء يبدو جيدا في المنزل. لكن ظهور ملف يحتوي على صور وأجزاء من يوميات ابنته سيسيليا، التي توفيت قبل سنوات في ظروف غامضة، يجبره على إعادة فحص مؤلمة لموتها، وإذا كان ما عرفه من أسباب حول الحدث المأساوي الذي أدى لموتها حقيقة؟ أم أن الأسباب مختلفة عن تلك المؤكدة؟.

تلتقي قصة السفير، مع قصة مانويل سيرافين والد المعالج الطبيعي له، الموظف الحكومي الذي يرى حياته اليومية تنهار تدريجياً. بعد أن تم تعيين مدير جديد تصرفاته تثير الريبة والشك،ينتبه ـ الموظف ـ إلى أن هناك بعض الوقائع الغريبة والمتكررة في العمل، الأمر الأمر الذي يزعجه ويثير استياءه، فيحاول كشفها ومواجهتها، لكن سرعان ما يتم التآمر عليه وتلفق له تهمة المشاركة في مخطط نصب واحتيال من جانب مديره الجديد وبعض زملائه، ويتم إبلاغها إلى أحد الصحفيين. ليجري فتح تحقيق بشأنها، تصل إلى التلفزيون، ليجد نفسه أمام محنة طويلة تتمثل في الشائعات المتعلقة بدوره الفعال المحتمل في عملية الاحتيال التي تنتهي بتدمير حياته، على الرغم من براءته، لكنه عاجز في وجه حملة القذف والتشهير التي وقع ضحيتها.

تداخلا القصتان يلقي الضوء على شخصيات عالقة في شبكة من شبكة من الأكاذيب والاتهامات الباطلة، وجودها مجهض ومخنوق في دائرة من القمع، القمع المؤلم المتمثل في إخفاء الحقيقة وتشويهها، والإذلال والعزلة اللذين يتبعان ذلك. من خلال قصة البطلين، تحقق الرواية في الخط الرفيع الذي يفصل الحق والباطل، الحقيقة والزيف "أردت أن أقول شيئا واحدا فقط، العار، القذف، التشهير"، لتكشف عن الحيل التي يقوم بها المجتمع المعاصر وعالم المعلومات، في كثير من الأحيان، بتحريف الواقع ومراقبته وغموضه، والتلاعب بالأحداث والوقائع والضمائر.والنتيجة أن الحقائق الحقيقية تظل مدفونة بالعديد من الصيغ والتفسيرات، بينما الكذب والجهل يتجلى تكاثر حضورهما.

لقد جمعت الروائية في "العار" حقائق من التاريخ البرازيلي الحديث حيث تضيع الحقيقة وسط التشوهات والافتراءات. حيث تتلاقى قصص شخصيات الرواية مع بعضها وتكمل الصورة التي تطرح سؤالًا مهمًا هل دائمًا علينا قبول ما يقدم لنا ويبدو أنه الحقيقة التي تغنينا عناء أي بحث أو تساؤل؟.

مقتطف من الرواية

حطام!

على الأقل، هكذا بدا الأمر. وإن لم يكن كذلك! لم تكن طريقة الكتابة واضحة. كانت بها أخطاء وخطوط غير مكتملة، وأحرف غير واضحة إلى حدٍّ كبير. لم يكن حرف الـ"T" مكتوبًا بالطريقة الصحيحة، وإنما كُتب بطريقة لا يمكن التمييز معها ما إذا كان حرف "T" أم لا.

كان يعرف جيدًا خط ابنته المكتوب بطريقة مائلة على الملصق الذي يُكتب عليه اسم المجلد. وكانت تلك هي الطريقة التي تؤكد بقاءها هناك إلى جانبه، دليلًا ماديًّا على أنها بالجوار، كما لو أنه يحتاج إلى دليل للتأكد من ذلك.

أحرف صغيرة لا لبس فيها. ومع ذلك، كانت مدعاةً للحيرة لعدم وضوحها. دائمًا كانت هناك تلك الكتابات الغامضة، كآثار لتلك الأفكار السريعة المكتوبة على الورق، تاركةً مساحة لتخمين ما كُتب أو لمعاناته، لكي يفك تلك الرموز والشفرات. والأكثر من ذلك أن بصره لم يعد قادرًا على قراءة تلك الأحرف الصغيرة. ربما سيتمكن من ذلك بعد إجراء الجراحة. إذا ما قرر، في النهاية، الخضوع لتلك العملية الجراحية. حتى ذلك الوقت لم يكن قد اتخذ قراره بعد، وكان إجراء العملية احتماليةً فقط أو وجهة نظر غامضة: أن تعد قدراته البصرية أفضل، المراهنة، المخاطرة بعدم النجاح. لماذا!

مرر يده على الملف، في المكان نفسه الذي لمسته يدا ابنته يومًا ما، بأصابعها الطويلة، في سنوات المراهقة، والتي كانت قادرة على تغطية أوكتاف كامل بسهولة على البيانو. مرت يدا ابنته المخمليتان ذات مرة على سطح تلك الورقة، اللتان لن تداعبا وجهه مرة أخرى. ربما احتفظ الجزء الخلفي من الملصق ببقايا قُبلتها، عبر اللعاب الذي تركته "سيسيليا" بلسانها عند لعقها ملصقًا لتثبيته. كانت تفعل ذلك لتتمكن من تعريف الأوراق المحفوظة. هل كتبت ذلك قبل تلك الحركة أم بعدها؟

تلك الكلمة التي لم يستطع قراءتها.

حطام، على ما يبدو. بقايا رثة، مخلفات، آثار مادية ضئيلة من انهيارها.

الآن، وبعد سنوات، كان الأب يحاول أن يتخيل ويسترجع إيماءات ابنته خطوةً بخطوة، في محاولة منه لفهم تجربة ترك ابنته وحيدةً. وتوصل إلى شعورها وألمها أثناء غيابه. بسبب الحذر، والاحترام المبالغ فيه، والخوف من أن يبدو متدخلًا بشكل غير مرغوب فيه في حياتها.

بذل جهدًا آخر لتثبيت ناظريه والتحقق مما كان مكتوبًا. كان الأمر صعبًا، فالضوء لم يساعده على ذلك أيضًا. ربما لو نهض من كرسيه، وسحب الستائر، لترك ضوء شمس الصباح الكثيف يتخلل الحجرة لتمكن من ذلك. ولكن من المؤكد أن ذلك لم يكن ضروريًّا، حيث أضاء المصباح كاملَ الحجرة. أخرج المجلد الورقي الأخضر، والملصق في الزاوية أسفل اليمين. كلمة واحدة مكتوبة تحتل كامل المساحة البيضاء من الصفحة تقريبًا.

خمن "مانويل سيرافين سواريش دي فيلينا" أنها حاولت كتابة كلمة "حطام".

أم ربما لم تفعل.

كان هناك شيء آخر، ربما نقطة، علامة على كتابة كلمةٍ ما مختصرة.

من المستحيل التحقق من ذلك. مَن يعرف! ربما كلمة أخرى.

تبدو الكلمة نفسها. كاد أن يؤكد ذلك، إلا أنه لم يكن على يقين.

شظايا. شظايا..

أفكار وتخيلات. تختبئ الواحدة في الأخرى. آثار وبقايا تدل على الضعف. لم يكن من الضروري إحضار المجلد من أجل حفظ تلك الأوراق، ولا تحديد المجلد بملصق مكتوب عليه أيُّ كلمة.

بقايا تلك الأكاذيب كانت لا تزال تعصف بلا شكٍّ بذهنه وبذهن "آنا أميليا"، إضافةً إلى الحقيقة القابعة أمامهما دائمًا غير أنهما لم يتمكنا من رؤية أنه قد حان الوقت لإحداث بعض الاختلاف. كانت الدلائل التي تم إهمالها تتقاطع مع تلك الآثار المكتشفة من جديد، حيث تم نسجها في خيوط متقاطعة. احتلت المساحةَ الوحيدة التي كانت تهمه ليتحرك فيها بذهنه. اختلطت بأفكاره في وقت يقظته وحتى في وقت نومه، وتتابعت الأيام والساعات والدقائق والثواني خلف عينيه المغلقتين اللتين كانتا تضعفان رويدًا رويدًا.

- هل تسمح لي بالمقاطعة؟

لاحظ بالفعل، وحتى قبل سماع صوت "آنا ماريا"، أنها فتحت باب المكتب. برقَّتها المعتادة، حتى بعد مرور العديد من السنوات، لم تكن لديها القدرة على الدخول دون طرق الباب برفق. لم يكن طرقها قويًّا لدرجة أن يوقظ أحدًا من غفوته، ولا ضعيفًا لدرجة عدم إعلانه عن قدومها، كيلا تدخل فجأةً إلى الغرفة. فتح عينيه وأجابها:

- ادخلي يا عزيزتي. أنتِ لا تقاطعينني أبدًا.

لم يكن هذا صحيحًا، كلاهما كان يعرف ذلك. كانا يقولان هذا كنوع من المودة التي أحبَّا أن تبقى بينهما.

- أعلم أنني قاطعتك يا "مانو". عندما رأيتك ورأسك مستلق على ظهر الكرسي، بعينين مغمضتين، وابتسامة صغيرة على وجهك، كأنك تحلم. أدركت حينها أنني قاطعتك.

كانا يعرفان أنه لا وجود لتلك الابتسامة، غير أن السفير انخرط معها.

- لو أنني أبتسم، فهذا دليل على أنني لم أكن نائمًا.

شرحت له ما تقصده بينما كانت تمشي تجاه النافذة، وتزيح الستائر الثقيلة بحرص حتى تبقي الستائر الرقيقة الشفافة بالقرب من النافذة مغلقة:

- لم أظن أنني أوقظتك، بل ظننت أني قطعت تفكيرك أو أحلامك، أيًّا يكن. أنت تعلم أنني لا أحب فعل ذلك، ولكن الأمر كان ضروريًّا.

- لماذا؟ هل هناك خطبٌ ما؟

- لم يحدث شيء، ولا أحب أن أكون متطفلة، لكني أردتُ أن أخبرك أن الفتاة قد جاءت بالفعل.

- أيُّ فتاة؟ لم أعلم بقدوم أي فتاة.

مَن المتطفل الذي يأتي الآن؟ إنها متطفلة. موجودة في منزله، في مكتبه، في ذلك المكان الذي أنشأه بعناية كبيرة منذ سنوات عديدة وأعاد إنشاءه، كما فعل في جميع المنازل والشقق، في العديد من البلدان التي سكنها؟ ذلك المكان هو مكتبته، ومكتبه، وغرفة عمله، وركنه بين الكتب، مع منضدة وكرسي بذراعين، وإضاءة جيدة، إذ كان يبدأ في قراءات اعتاد أن يشعر أنه متطفلًا. مكانه الذي كان محطة الإقلاع والمغادرة للهبوط في عوالم أخرى. كضيف غير متوقع وغير مدعوٍّ، كان متطفلًا مثاليًّا، وما زال، عندما يقرأ. مثلما حدث عندما قاطعته "آنا ماريا".

لا أعلم أبدًا مَن سأكون بعد ذلك. في كل مرة أتفاجأ، وإن لم تكن هناك مفاجآت، أستسلم وأتوقف عن الانجذاب. لكن هذا لا يحدث عندما أحاول الإطالة في قراءة أحداث بدأت بالفعل في الصفحات السابقة، ففي هذه الحالة تكون القراءة فقط استزادة، ولا يكون ضروريًّا وجود أحداث جديدة. يمكن الاستمرار في القراءة، وبعد ذلك يصبح الأمر مجرد تكرار. لكن بخلاف ذلك، فإن عدم وجود تصور عن كيفية سير الأحداث، أو إلى أين تتجه وكيف، قبل أن تبدأ في الحدوث، هو ما يجذبني. لا أستطيع أن أتخيل مَن سأكون في كل مرة، وفي أي سيناريو سأعيش، وفي أي وقت. ولا أعرف عدد الأشخاص الذين سأكون بجانبهم، داخل أرواحهم المظلمة أو تلك الشفافة، التي دائمًا ما تكون مليئة بالمفاجئات. كل ما عرفته دومًا هو أنني أصبح دخيلًا مثل العديد من الكائنات الأخرى. لا أحد منها يعرف أنني هناك، ومع ذلك عند بداية خلق تلك الكائنات، توجه إليَّ أحدهم، وراهن على وصولي المحتمل يومًا ما، دون أن يصبح قادرًا على تحديد هويتي مسبقًا.

إنني مدمن على ذلك النوع من التطفل في الكتب، أغوص فيها وأنا مليء بالشغف. يتطلب الأمر الغوص مرة أخرى بعد ذلك، وأغوص مرات عديدة، ولأعماق أبعد. مع كل مرة أغوص فيها في الكتب أعود أكثر معرفة، محملًا بالإدراك المحير الذي تحمله اللامحدودية البشرية. حياة واحدة فقط لا تكفي، لأنني أصبحت أدمن نداء الحيوات الأخرى اللانهائية.