الديانة المصرية القديمة تحت المجهر في 'مجتمع الآلهة'

دراسة الباحث العراقي د.عباس على عباس تبحث الآلهة الفرعونية وتسعى لمعرفة خصائصها ومهامها ومن ثم التعرف على مراحل التطور الفكري للإنسان في واحدة من أهم حضارات الشرق الأدنى القديم.

يعد الدين باعثا جوهريا لقيام الحضارة المصرية القديمة ولا توجد امة أثرت الديانة في جوانب حياتها مثلما أثر الدين في حياة المصريين القدماء وبما أن كل ديانة سواء أكانت تنزيلية أم وضعية تقوم على أسس تتمثل بالآلهة في الوضعية والإله في التنزيلية وأماكن العبادة والمتعبدين ووسطاء بين الآلهة والمتعبدين "الكاهنة" وشعائر وطقوس يقوم بها المتعبدون يهدفون من ورائها كسب رضا الآلهة. ولأن الآلهة تشكل الركيزة الأساس في كل ديانة جاء اختيار الباحث العراقي د.عباس على عباس لموضوع "مجتمع الآلهة في الديانة المصرية القديمة" الذي يهدف الى دراسة الآلهة المصرية ومعرفة خصائصها ومهامها، ومن ثم التعرف على مراحل التطور الفكري للإنسان في واحدة من أهم حضارات الشرق الأدنى القديم.

يرى عباس أن دراسة الآلهة المصرية القديمة تبين بوضوح الارتقاء الفكري للمصري القديم الذي بدا واضحا من خلال تدرج الآلهة من مرحلة الرمز الحيواني الكامل إلى إعطاء الحيوان جزءا من الإنسان مثلما ظهر في "صلاية نعرمر" حينما أعطي للصقر الذي يرمز للإله "حورس" يدا بشرية لكي يقارب الواقع حينما يقوم بتقديم أهل الشمال إلى الملك، ومن ثم صار يرمز لهذا الإله بهيأة إنسان كامل وبرأس صقر. وكذلك التدرج من المرحلة التي كانت فيها الآلهة ملوكا على الأرض تعيش حيث يعيش الإنسان وتمارس السلوك البشري نفسه على الأرض، إلى مرحلة رفع الآلهة إلى السماء وإعطائها الصفة الكونية المسيطرة على الأرض وما يعيش فيها.

ويلفت في دراسته الصادرة بالتعاون بين دار الصفاء بالأردن ودار نيبور بالعراق، إلى أن الآلهة المصرية تقسم بعامة على ثلاثة أصناف: الأول الآلهة الكونية وهي التي تمثل أهم عناصر الكون ومن أشهرها الإله "رع" وآلهة السماء "نوت"، وإله الأرض "جب"، وإله القمر "خونسو" وغيرهم. والصنف الثاني: الآلهة الرسمية للدولة وهي في أصلها معبودات محلية كل واحد منها يخص مقاطعة أو إقليم أو يمثل قوة أو ظاهرة أثرت بشكل في الإقليم الذي سادت عبادته فيه. وقد مر هذا الصنف من الآلهة بمرحلة صراع كان يماثله في الواقع صراع سياسي بين مدن مصر القديمة قبيل قيام عصر الأسرات، إذ كانت كل مدينة تسعى الى رفع شأن معبودها. ومن أشهر آلهة الأقاليم الإله "حورس" والإله "سيت" والإله "خنوم" والاله "مونتو" والإله "أمون" وغيرهم. الصنف الثالث: الآلهة الثانوية وأطلق عليها صفة الثانوية لأن مهامها لم تكن توازي مهام الآلهة في الصنفين الأول والثاني ومن أشهرها الإله "بس" والآلهة "سشات" وغيرهما.

تناول عباس في دراسته التي جاءت في خمسة فصول البيئة الجعرافية وأثرها في مجتمع الآلهة من حيث الوظائف والهيئات والأسماء وغيرها، وذلك من خلال ثلاثة محاور هي الظاهر السماوية والظواهر الأرضية والحيوانات. وتوقف عند خلق الكون والإنسان وفق أساطير الخلق في مصر القديمة (أسطورة هليوبوليس ـ أسطورة منفس ـ أسطورة الأشمونين ـ أسطورة طيبة). كما تناول مظاهر حياة الآلهة، والتأثيرات المتبادلة بين مجتمع الآلهة المصرية وآلهة المناطق المجاورة، وأخيرا استعرض موقف المصريين القدماء من الموت، ومن ثم استعرض آلهة الموت المصرية وموضوع التحنيط ودور الآلهة فيه، وطقوس الدفن وبعدها محاكمة الميت والمحكمة الآلهية وأشهر آلهتها.

يؤكد أن موضوع الآلهة قديما كانت الشاغل الأكبرلتفكير الإنسان بعامة والمصري بخاصة لأنه كان يرى أن هناك قوى غيبية تتحكم في حياته، وهذا الأمر دعاه إلى تخيلها بصور وهيآت متعددة. وكان يرى أن الخيروالشر يأتيان بفعل تلك القوى الغيبية فسعى إلى كسب رضاها للتخلص من الأذى والحصول على المنفعة، ما دامت الآلهة أمر غير مفهوم بشل كامل للإنسان، وهي السابقه على وجوده وهي الموجدة له، لذا وقف منها موقف المستسلم لأوامرها إلا في بعض حالات السحر التي كان الإنسان بفعل قوته يصدر الأوامر للآلهة.

ويضيف أن المصري القديم جعل إلها خاصا لكل شيء له علاقة مؤثرة في حياته يتقرب إليه ليكون إلى جانبه، ولذلك كانت أعداد الآلهة المصرية كبيرة جدأ. وهذا الأمر يصدق على آلهة الموت والعالم الأخر، التي شغلت المصريين القدماء كثيرأ، فوقفوا من الموت موقفاً واقعيأ إذ آمنوا بحتميته، ولكنهم بالغوا في الاستعداد له في الجانب المادي فضلاً عن الاستعداد الروحي. ومن جانب آخر كان المصريون القدماء يعدون كل الأشياء التي تمتلك قوة تفوق قوة البشر أو تكون خارقة للطبيعة من الآلهة وكانوا يسمونها "نتر" أي إله.

ويوضح عباس أنه كان للبيئة الجغرافية عظيم الأثر في مجتمع الآلهة المصرية القديمة، إذ عبد المصري القديم كل الظواهر الجغرافية التي كانت مؤثرة في حياته، عبد السماء وتصورها بأكثر من هيئة استوحاها من واقعه، فمرة شبهها بامرأة ضخمة منحنية على طرفي الأرض، وأخرى تصورها بهيئة بقرة كبيرة تقف على طرفي الأرض ايضاً. وعبد الشمس التي ارتبطت بأكثر الآلهة المصرية شهرة وهو الإله "رع" الذي أدمج مع الإله "آتوم" ومع الإله "خبري"، ولا يمكن لأي إله أن يحظى بشهرة كبيرة ويكون مسيطرا بها إلا إذا اتحد مع الإله "رع" وذلك مرده إلى السيطرة الفعلية للشمس على جميع المخلوقات.

وبسبب قوة تاثير الشمس وتفردها في بعض الحالات مثلما حدث في زمن الأسرة الخامسة، وبسبب تطور الفكر المصري القديم وتراكمات هذا الفكر الذي وصل في زمن الأسرة الثامنة عشرة إلى درجة عالية، حينما أعلن اخناتون ثورته الدينية. وكذلك عبد المصريون القدماء القمر الذي كان يمثل الإله "تحوت"، والذي كان يحسب سنوات عمر الإنسان ويسجل ويعلن نتيجة محاكمة الميت.وربما يعود السبب في ذلكالى أن حركة الشمس والقمر وتتاوبهما يوديان إلى انتهاء عمر الإنسان .وقد أدرك المصري القديم أن هناك نجوما ثابتة لا يتغير مكانها فتصوروها آلهة خالدة لا تعرف الفناء.

ويشير عباس إلى إن الالهة المصرية القديمة كانت تشابه البشر في الكثيرمن سلوكياتها فهي تفرح وتحزن وتصدق وتكذب وتحتال وترتاح وتتألم وما إِلى ذلك من الصفات البشرية. وهي تسير في اتجاهين مختلفين الأول هو تزايد أعدادها وذلك باتخاذ إله لكل شيء يجده المصري مؤثرا في حياته، والثاني هو تقلص أعدادها عن طريق حالات الدمج والاتحاد التي تحصل بين الآلهة المصرية والتي تجاوزت دمج إلهين في إله واحد إلى دمج ثلاثة آلهة أو أربعة آلهة في إله واحد، وهذه الظاهرة أدت إلى التتاقص في أعداد الآلهة. على الرغم من أن السبب الحقيقي للدمج كان اقتصاديا هدف من ورائه الكهنة الى الحصول على أكبر قدر ممكن الأموال.

ويلاحظ أن المصريين القدماء لم يحاولوا حل لغز الموت أو الثورة عليه بل وقفوا منه موقفا واقعيا، ولم يبحثوا في أسباب وقوعه أو مبرراته. وآمنوا بأن الحياة الدنيا وكل عمر الإنسان يمثلان طريقا ممهدا للحياة الأخرى، فاستعدوا لها بشكل لم نجد له مثيلا عند الأمم الأخرى. وذهبوا إلى أن الموت يمثل جزءا من النظام الكوني، وقد أوجدته الآلهة مع خلقها للكون، ولا يوجد هنالك موت في الزمن السابق لخلق الكون. لقد كان لأوزيرس إله الموتى عندهم مهام دنيوية قبل أن يقتله أخوه سيت ويتحول إلى إله للعالم الأخر، ولكنه بتحوله هذا غطى على الكثيرمن آلهة الموت المصرية السابقة له التي كان من أشهرها "خنتي امينتو" و"سوكر".

ويرى أن التحنيط يمثل نتيجة منطقية ملائمة لأفكار المصريين عن الحياة الأخرى التي كانت تشابه ما هو موجود في الحياة الدنيا، لذا تطلب الأمر المحافظة على الجسد لكي يتمكن الإنسان من ممارسة حياته في العالم الأخر. وعلى الرغم من الموقف الواقعي للمصريين من الموت فإنهم لم يتمكنوا من تجاوز العواطف، وهذا ما نجده واضحا في النواح وإظهار الحزن الشديد على الميت في المسيرة الجنائزية التي يودع فيها الميت إلى قبره. وقد تطورت أفكار المصريين كثيرا في موضوع الدفن، ولاسيما حين فرقوا بين القبر والمعبد الجنائزي، إذ إنهم فرقوا بين الجسد والروح، فبعد أن كانوا يعتقدون أن الروح ملازمة للجسد في القبر صاروا يعتقدون أنها قادرة على الابتعاد عنه والرجوع إليه متى شاءت. وإن فكرة محاكمة الموتى ووجود القاضي الأكبر الإله أوزيرس، وعملية وزن الأعمال بميزان دقيق وقيام الميت بنفي قيامه بالأعمال السيئة وذكره لأعماله الحسنة ودخول الفائزين في عالم الإله أوزيرس وذهاب الخاسرين إلى العذاب واتهامهم من قبل الوحش الخرافي "عم ـ ميت" ـ آكل الموتى ـ وبقاء من تساوت كفتا ميزانهم بخدمة الإله أوزيرس، تمثل فكرة متقدمة أوضحتها بشكل مقارب الديانات السماوية.

ويخلص عباس إلى أن الديانة المصرية القديمة بوجود آلهتها وطقوسها ومعتقداتها على النمط الذي ذكرته الدراسة ما هي لعبة كهنة، فهي من صنعهم تحقيقا لمآربهم الخاصة بهم وقد أظهروا براعة في صياغة هذه اللعبة.