الرشيد بوشعير يحلل النصوص السردية العربية التجريبية

كتاب 'التجريب في سرديات يوسف المحيميد، وبحوث أخرى' يتناول مجموعة من النصوص السردية العربية من بينها نصوص للقاص والروائي السعودي يوسف المحيميد والقاصة والروائية الجزائرية شريفة فداج، محللاً خطاباتها بمنهجية محكمة ورؤى نقدية ثاقبة، موظفاً طروحات النقد المعاصر.

يتناول الناقد د.الرشيد بوشعير أستاذ الحديث والأدب المقارن بجامعة الأمارات، في كتابه "التجريب في سرديات يوسف المحيميد، وبحوث أخرى" مجموعة من النصوص السردية العربية من بينها نصوص للقاص والروائي السعودي يوسف المحيميد والقاصة والروائية الجزائرية شريفة فداج، محللاً خطاباتها بمنهجية محكمة ورؤى نقدية ثاقبة، موظفاً طروحات النقد المعاصر، مثل "سيميولوجيا اللون"، و"سيميولوجيا القيمة"، والخطاب الأيديولوجي"، وأنساق الخطاب".

يرى بوشعير أن أول ميزة تميز أعمال يوسف المحيميد الكاتب السعودي هي الميل عن الإسراف في تطويل رواياته، على نحو ما كان يفعل عبدالرحمن منيف، وخاصة في "خماسية مدن الملح" و "أرض السواد"، أو غازي القصيبي في "شقة الحرية"، أو تركي الحمد في ثلاثية "أطياف الأزقة المهجورة"؛ فروايات المحيميد تتسم بالقصر والإيجاز والتكثيف، وربما كان هذا راجعاً ‘لى كونه دخل عالم السرديات من بوابة القصة القصيرة، حيث نشر مجموعة "ظهيرة لا مشاة لها"، ومجموعة "رجفة أثوابهم البيض" قبل أن ينشر رواياته "فخاخ الرائحة"، و "لغط موتى"، و "القارورة"، و "نزهة الدلفين"، وهي الروايات التي صدرت متتابعة تاريخياً. والميزة الثانية التي تميز أعمال المحيميد هي الميل إلى التجريب، وهو ما يتراءى تحديداً في نصوصه الموسومة بـ "لابد أن أحداً حرّك الكراسة" التي تتجاوز حدود الأنواع الأدبية، و "لغط موتى" التي يجرب فيها أسلوب الميتاسرد معالجاً موضوع مكابدات الكاتب الروائي ومعاناته في رسم شخوص أعماله السردية ونسج خيوط أحداثها.

يقارب بوشعير رواية "لغُط موتى" للمحيميد انطلاقا من ثلاث محاور/ مصطلحات: التجريب، والميتاسرد، ومكابدات المبدع. حيث يرى أنها رواية تجريبية بامتياز، ويضيف "هي الأصوات المختلطة المتصاعدة التي تستعصي على التمييز، وهؤلاء الموتى هم أشباح الرواية التي أراد المحيميد أن يرسمها فيجري دماء الحياة في عروقها كي تكون مقنعة دون أن يتعسف في تصوير ملامحها ودون أن يملي عليها أفكارها وتصرفاتها، حتى يحوز رضا صديق له كان قد سأله أن يكتب رواية.

ويوضح "يستهل الكاتب روايته مخاطباً أصدقاءه من القراء بأسلوب مباشر:"أصدقاء كثر يظنون أنني لا أملك أن أكتـب نصـاً طويلاً، رواية مثلاً، لأنني لست قـادراً علـى أن أنكـب لليالٍ، ولشهور، وربما لسنوات، في مكتبتـي الصـغيرة، مؤججاً شمعةً عرفُها ينثني كلما تنفَّستُ ملياً، ومن أعلاها يتمشى شمعٌ يحفر بدبيبه، كبشرٍ يتناكبون، لـيس علـي سوى أن أخطَّ بسواد قلمي على رؤوسهم ملامح وأحلاماً وذكريات، وهزائم وأسراراً ومكائد.. ثـم أنضـد لهـم طرقات وشوارع، سراديب ومكاتب، وسجوناً وقصـوراً، ردهات وبيوت صفيح، لأجعلهم يمشون بمشـيئتهم إلـى ما يقودهم من وقائع وأحداث". ووفق هذا التصور للكتابة الروائية التي تغدو موضوعاً للسرد، أو الميتاسرد، يشرع الكاتب في بناء أحداث رواية، محاولاً أن يرسم شخصياتها العنيدة التي ترفض أدوارها المنوطة بها، وتعاتبه باستمرار.

ويلفت إلى أن أحداث هذه الرواية تتلخص في كون كاتب روائي يحاول أن يكتب رواية فيجرب مراراً ويخفق مراراً، وفي النهاية يكتب رسالة إلى صديق كان يشجعه على الكتابة يبين فيها سبب قلقه وخوفه من الإخفاق "فيفاجأ أنه كتب للمرأة الأولى رواية ناجحة. وكما يتراءى من خلالال تلخيص، فإن المحيميد يميل إلى التجريب فيخرج عن التقاليد والأعراف السردية التي استقرت في المشهد الأدبي بالخليج العربي منذ صدور أعمال رواد من أمثال عبدالقدوس الأنصاري، وعبدالعزيز مشري، وعبدالله خلف، وعبدالله النعيمي، ثم صدور أعمال المؤصلين الكبار من أمثال عبدالرحمن منيف، وإسماعيل فهد إسماعيل، وليلى العثمان، وتركي الحمد، وطالب الرفاعي، وفوزية شويش السالم، وعبدالله خليفة، وغيرهم، وذلك منذ مطلع الأربعينيات من القرن الماضي.وما من شك في أن المحيميد قد أفاد من تراكم السرديات العربية والعالمية في تجربته مما يجعل هذا التجريب نسبياً وليس مطلقاً.

ويؤكد أن هذا العمل التجريبي لم يكن طوباويا منسلخاً عن الواقع، بل كان يعكس كثيراً من ملامح الواقع في أسلوب غير مباشر؛ فمن ملامح هذا الواقع الوضع المزري الذي كان يعيشه الكاتب الذي كان يكتب على ضوء ذبالة شمعة، وموقف الآخرين الرافض للكتابة، والخرافات العجائبية التي تستحوذ على شرائح اجتماعية، وخاصة شريحة النساء، ومياه الأمطار التي كانت تخترق جدران البيوت والمساجد الطينية، وما إلى ذلك من الصور التي رسمها الكاتب في سياق السرد.وربما كانت التيمة الرئيسة في هذه الرواية هي تيمة الكتابة وأسرارها ومكابداتها؛ فالراوي في هذا النص السردي يسعى إلى الكتابة ولا تسعى إليه

ويخلص بوشعير من تحليله إلى أن رواية "لغُط موتى" ليوسف المحيميد تعد رواية تجريبية تعكس ولع هذا الكاتب بالابتكار والخروج عن المألوف في السرديات العربية عامة، والسرديات الخليجية خاصة.ويتراءى التجريب بهذه الرواية في أسلوب "الميتاسرد" وفي البوح بمكابدات الكاتب، وهو ما يشكل إضافة إلى رصيد الرواية العربية من حيث الشكل ومن حيث المضمون.وقد كانت لغة الكاتب طيّعةً تتسم بالجزالة والانزياحات البديعة المبتكرة.

رواية
رواية تجريبية تعكس ولع هذا الكاتب بالابتكار والخروج عن المألوف

يفحص بوشعير نص "الممثل" لشريفة فداج؛ العلاقات بين فقراته وفصوله ومدى "اتساق" و"انسجام" مفاصله في ضوء "علم النص" أو "نحو النص" المنهجي، بالرغم من كون "شريفة فداج" قد منحته عنوان "رواية".. لافتا إلى أنه يعد نموذجاً جيداً لتقاطع أو تماهي نوعين أدبيين، وهما الرواية والمسرحية، في بوتقة واحدة، ولكن هذه "النصية" لا تلغي الطبيعة السردية.

ويوضح أن أحداث النص تدور حول الممثل البارع "فريد بن يحيى" الذي تشرب مبادئ هذا الفن في فرنسا متحدياً والده الجزائري المهاجر الذي نزع بزته العسكرية بوصفه ضابطاً في القوات البرية كي يسافر إلى فرنسا ويؤسس معملاً للزيتون ويوظف كل أبنائه به؛ فوالد فريد كان يريده أن يساعده في معمل الزيتون، ولكن "فريد، الذي كان مولعاً بالمسرح يرفض ويعود إلى الجزائر موطنه الأصلي، حيث ينتمي إلى فرقة مسرحية بوهران ويشارك في عروضها التي تقدر موهبته وتحرص على استشارته في أعمالها التي مثّل بعضها بأسلوبه المتميز الذي يجعله يتقمص دوره إلى حد الهوس المرضي، والتماهي الذي يؤدي إلى تداخل الحلم والحياة، وامتزاج المسرح بالواقع حتى يغدو المسرح امتداداً للواقع والواقع امتداداً للمسرح.

ويتابع "نقابل بهذا النص أعضاء الفرقة المسرحية: آمال، وسليم، ومراد، وسعيد، وعمر، ومحمد، وغيرهم ممن كانوا يعانون في حيواتهم الفنية والعملية، ويحلمون بالسفر إلى فرنسا من أجل تقديم عرض مسرحية "راعي القطط" التي ترجمتها "ليندا" قريبة المخرج "سعيد" إلى اللغة الفرنسية.وبالرغم من الشهرة التي حظي بها فريد بن يحيى فإنه كان يعاني من الاغتراب في موطنه، ويشرف على الموت فيضطر أن يعود إلى فرنسا.وقد أرادت الكاتبة أن تتناول تيمات متعددة كانت سبباً في إضعاف الاتساق والانسجام في بناء نصها، كما سنرى، ومن هذه التيمات تيمة المسرح، وتيمة الاغتراب، وتيمة الرغبة في الهجرة، وتيمة الفساد، وتيمة السياحة، وتيمة الفقر، وتيمة العنصرية، وما إلى ذلك.وهذه التيمات لم تعالج كل واحدة منها في فصل مستقل، وإنما كانت متناثرة عبر المتن النصي من البداية حتى النهاية، وهو ما يسوغ لنا الرغبة في البحث عن الروابط الظاهرة أو الكامنة التي يمكن أن تمنح هذا النص تماسكه واتساقه أو انسجامه.

ويتوقف بوشعيرعند تيمات النص من خلال استعراض جوهر كل فصل من فصول هذا العمل على حدة، متسائلا عن وظيفته في بناء النص وعن علاقته بغيره من الفصول، ومن ثم استشفاف الروابط الشكلية أو الذهنية أو الفكرية التي تعيد الحياة إلى منابعها الفنية والفكرية.

ويشير إلى أن الوصف التسجيلي الذي يجمد الحياة ويعرقل حركة الأحداث يضع الكاتبة في خانة الواقعية الطبيعية التوثيقية التي روج لها "زولا" و "فلوبير" و "عي ذي موباسان". ولكن هذا لا يعني أن الكاتبة متأثرة بالواقعية الطبيعية في رؤاها وطروحاتها الفكرية التي تتمثل بعض الأفكار الوجودية العبثية، كما يبدو، فضلاً عن رؤى الكاتب المسرحي الإيطالي "بيرانديللو".وقد وظفت الكاتبة تقنيات أخرى، كتقنية الارتداد (الفلاش باك)، وتقنية "الهذاء" (التداعي الحر)، وتقنية "التناص". وتبقي قضية اللغة في هذا النص غريبة؛ ذلك أن هناك تفاوتاً كبيراً بين لغة الكاتبة في فصل ولغتها في فصل آخر؛ فأحياناً تأتي لغتها معجمية تفتقر إلى اللمسة الإنشائية، بل تفتقر إلى الصياغة النحوية السليمة، وأحياناً أخرى تأتي إبداعية تقوم على الانزياح والأساليب البلاغية.

ويمكن في هذه العجالة أن نتمثل ببعض العينات من المستويين معا.

ـ "إنها تلبس تنورة قصيرة وقميصاً وردية!"

ـ "ستقطع أوردة يداي!"

ـ "سلمنا سعيد شيكاً قبل بدأ العرض!"

ـ "أشار بيده إلى المصوّرين الذين اعتاد رأيتهم جالسين!"

ـ "لا يهمني الصحافيين ولا أي مخلوق آخر!".

ـ "صدفة جميلة!".

ـ "اغرورقت عيني سليم وعمر بالدموع!".

ـ "عرفت اليوم بأنه لا مفر من الصداع وبأن الإرهاق الذي أعاني منه منذ فترة لم يكن إلا بسبب دائرة مغلقة من الأفكار الحادة التي تطاردني وأطاردها!".

ـ "إنني مندهش لأنك على عكس كل النساء اللواتي عرفتهن لم أرك يوماً تبكين، رغم أن حياتي التي تعرفينها جيداً وحياتك تدعوان إلى حفلة بكاء، فهل تبكين في الخفاء؟!.

الممثل
الكاتبة أرادت توظيف تقنيات السرد المعاصرة، ولكن لغتها المعجمية المتفاوتة خذلتها

ويضيف إن أسلوب هاتين الفقرتين الأخيرتين يختلف تماماً عن أسلوب العينات السابقة، وهذا التفاوت يعد وجهاً آخر من أوجه غياب الاتساق والانسجام، ولا يعبر عن تعدد الأصوات في هذا النص السردي، إذا أردنا أن نطبق معايير "باختين" النقدية؛ لأن الصوت الطاغي في هذا النص السردي هو صوت الراوي.

ويخلص بوشعير إلى أن هناك شيئاً من الانسجام بين فصول هذا العمل من حيث كون الفصول الأولى كانت تدفع بمصائر الشخوص، وخاصة شخصية فريد، إلى الإحباط والعدم، وكأنها تمهد لهذه النتيجة الحتمية، وفي الوقت ذاته نسجل غياب الاتساق بين فقرات ومفاصل هذا النص الذي كان يطمح إلى امتصاص عدد كبير من التيمات الفسيفسائية التي تأتي علاقتها بغيرها واهية أو مبتورة، وقد أرادت الكاتبة أن توظف تقنيات السرد المعاصرة، ولكن لغتها المعجمية المتفاوتة خذلتها، وهو أمر منطقي طالما أن الأمر يتعلق بكاتبة واعدة ذات تجربة محدودة.