السلام بعد العاصفة التاريخية لوليام شكسبير في باليه

المسرحية قطعة من حياة تركها شكسبير تنمو فنيا عبر العديد من المجالات.
ضحى عبدالرؤوف المل
بيروت

تنبع الحكمة الفنية من مسرحية "العاصفة" (The Tempest) التي كتبها وليام شكسبير في خمسة فصول تدفع بالفكرة نحو الجوهر العاصف بالمنطق الفني المرتبط بأدب شكسبير وقوة معناه العميق بالمغزى الأخلاقي، وإن عبر التخيلات التي تفضي إلى نقد الواقع.

إلا أن الواقع المخفي يبرز من العاصفة عبر شخصية بروسبيرو وميرندا، لندرك مدى الإبداع الفكري عند شكسبير ومدى الاتساع المفاهيمي في العرض المسرحي الذي يقدمه المخرج أو المصمم دون تعديات على النص الأساسي، وإنما بلغة الإيحاء والتعبير الحي ضمن فوارق فنية تمسك ببعضها البعض، لتكوين مساحات إبداعية للخيال المحاكي للقصة على مسرح الباليه المعاصر، وبتحديث تلعب السينوغرافيا دورها فيه، لحصر الأفكار في حركة الجسد الذي يستخرج بمرونة القصة الخالدة على مر السنين دون النظر إلى الوراء بل! برؤية عصرية تعتمد على أساس مبدأ جمالية اللقطة البصرية على مسرح ابتعد عن النهج التقليدي، وارتبط بالرؤية الديناميكية المباشرة التي تتخطى الأسس القديمة للمسرح الراقص، إن عبر الديكور والإضاءة ولغة الجسد والبصر، لتستمد الموسيقى تاريخها مع القصة في مسرحية تتمتع بالقوة التي تزود بها المؤلف ومصمم الرقصات، وبمعالجات مسرحية استطاع المخرج تسخيرها، لتستولي على حواس المشاهد بشكل هادف. لمحو الضعف من الإنسان وانتصار قوى الخير بصقل الإرادة ومنح الحياة قوة بلوغ الهدف لبناء الإنسان دون صراعات فيما بعد. فهل تنتهي عواصف شكسبير وما زالت أعماله تعصف في الإنسان المؤمن بالأدب الشكسبيري.

تدفق موسيقي يمتزج مع أصالة الرقص، لتحفيز الخيال على فهم السرد الفنتازي والمستوى المتمثل بالنضوج التعبيري الخارج من عصر النهضة، والمستقر في العصر الحديث حيث تتركز الأضواء على الفعل الحركي لكل شخصية تمثل قوة الإرادة الإنسانية التي يهدف إليها شكسبير أخلاقيا، لتنتصر القوى المسرحية ضمن الحركة الراقصة والموسيقى والتكامل المنسجم مع القوة والضعف والتأرجح بين الإرادة والقدر، لنشعر أن البناء المسرحي الراقص منسجم مع الرؤية الأدبية والموسيقية ضمن الخطوات المدروسة إيقاعيا، وعبر السينوغرافيا الحافلة بالحداثة التكنولوجية التي رفعت من جمالياتها المستمرة عبر كل العصور، فالمسرحية استطاعت خلق فنتازيا مثيرة للذهن وتحقق الكثير من الشغف لرؤيتها أكثر من مرة على المسارح العالمية كمسرح برمنغهام الملكي.

خيال أوبرالي مبني على الأحداث الإنسانية العاصفة في هذه المسرحية، إذ اعتمد هنري بروسيل المؤلف لموسيقى العاصفة على السحر الغارق بمتاهات تتداخل مع بعضها بتناسق يمده بالمفهوم القدري حيث الإيقاعات القوية التي تصاحبها الآلات المؤثرة على شحذ الأفكار، لتتصارع الرؤى وتتخذ الإيحاءات شتى المعاني، فتتكون خلاصة الحكمة من المأساة المبنية على الأوهام، لتصحيح مسار الحياة ونفي هشاشة الاعتقاد التي تتمثل بكتب السحر وعنصر الدهشة الخاطفة، لتحقيق التقارب بين الأفكار المطروحة في هذه المسرحية الخالدة التي تمنح الحس المزيد من الإبداعات المجتمعة في المكونات الدؤوبة على بث ماورائيات تعيد تصحيح مسارات الحياة التي تنتج عن الفعل ورد الفعل، وهذا ما استطاع تجسيده موسيقيا هنري بروسيل ومصمم رقصات الباليه التي زادت قيمة الإيماء الجسدي المتأثر بالمفردة الموسيقية إلى أبعد الحدود، إضافة إلى التعبير الجسدي المقترن بصريا بما يحيطه من ترجمات حسية فعالة تخدم العناصر المسرحية كاملة، وإن بطوباوية عبر فضاءات سرمدية تعتمد على الجسد في بناء المعنى، لتصبح الحركة على المسرح كنص بصري متمكن من إثارة عاصفة فنية راقصة يسرح معها الخيال، وتبحر النفس مع شكسبير وما استوحاه هنري بروسيل من موسيقى العاصفة الأوبرالية.

استحالة الاستسلام لقوى الشر ومقاومة الأفكار التي تبرز موسيقاها كعاصفة من آلات قوية بإيقاعاتها تضيف إلى الأجساد التي تعكس الصراعات بخفة وليونة على التعابير الكامنة في خطوات الباليه المشحونة بالانفعالات، وقوة لغة الباليه المتآلفة مع شكسبيرية النص المؤسس لهذه الباليه التي تنطلق من عهود زمنية على المسارح العالمية، وما زال يتعاقب عليها الكثير من الراقصين والموسيقيين، وحتى المخرجين والممثلين، وفي كل مرة نكتشف فيها ميزة الأدب العالمي الذي يطغى على الباليه، وعلى الفن بمجمله ككينونة انبثقت من كتّاب اتصفت كتاباتهم بالحكمة والمغزى والماورائيات، والحبكة الشديدة التي تأثر بها بعض الموسيقيين كهنري بروسيل وغيره من الذين أتحفونا بالموسيقى الأوبرالية القادرة على المحاكاة، والتوأمة الشديدة في إبراز المعاني السمعية التي تقل عن لغة الجسد في باليه تم تحديثها، ليتم تقديمها عبر سينوغرافيا ورؤية عصرية هذا العام على مسرح برمنغهام وعلى مسارح باريس.

خطوات راقصة انبثقت من النص لتتكون الرؤية الحسية من جمالية المعنى والمبنى المسرحي، الراقص والأوبرالي بموسيقاه التي تختزن انفعالات تساعد في كشف الإيحاءات المؤثرة على السمات التي تتحدى العواصف والريح، وسحر بروسبيرو وميرندا، وقصة الحب التي تتناقض مع الشتات، والجزيرة غير المأهولة سواء كانت بالموسيقى أو بالحركة التمثيلية الراقصة، والقادرة على خلق شحنات بصرية جمالية تكمن أهميتها بالانعكاس الداخلي للقصة التي تتيح للذهن التفكر بالمحاور كاملة حيث تتماهى العلاقات الاجتماعية مع السياق المسرحي الدرامي من منظور الباليه، بمنهجه التحديثي ليضيف على الفكر الإنساني فلسفات فنية تجمع تطورات المسرح والموسيقى مع الأسس الراسخة في محاكاة الواقع المهيمن على الحياة، والذي يفرض على الرؤية عدة تحولات وتغيرات، وحتى لغة ملغزة تنطلق من عدة خيارات ككيان يتصل اجتماعيا وتاريخيا بمرحلة زمنية تتشابه فيها الأحداث، كأن مسرحية العاصفة ما هي إلا قطعة من حياة تركها شكسبير تنمو فنيا عبر العديد من المجالات،  وبمفاهيم ارتبطت بالخطوات وتحولاتها الإيقاعية التي تمزج بين الإيحاء والحركة والفعل الانعكاسي المتمرد على الواقع والقادرة على بناء وحدة فنية تتقاطع من خلالها الخيوط المؤسسة لهذا العمل المسرحي العظيم.