الغابة مركزا للعالم في رواية الفرنسي بوليكوين

بطل رواية 'ظلال الغابة' ينطلق هاربا ساعيا إلى هدف واحد، أن يعبر الغابة الشاسعة متتبعًا بصلته حتى يجد معسكرا تقيمه فيه عائلته هربا بعد أن حدث انقطاع مفاجئ للطاقة في البلد بأكمله، ليلتقي في طريقه صبيا يتيما يرافقه في رحلة لا ترحم.

لا نعرف ما حدث ولا لماذا ينطلق بطل رواية "ظلال الغابة" للروائي الفرنسي كريستيان قواي بوليكوين، هاربًا ومحاولًا ألا يراه أحد، يعرج من أثر إصابة قديمة، ويسعى إلى هدف واحد؛ أن يعبر الغابة الشاسعة متتبعًا بصلته حتى يجد المعسكر الذي تقيمه فيه عائلته التي هربت بعد أن حدث انقطاع مفاجئ للطاقة في البلد بأكمله، لكنه حتى مع حرصه الشديد، يجد نفسه فجأة أمام صبي يتيم في العاشرة من عمره، شعره أشعث، وعيناه شديدتا السواد. لا يعرف من أين أتى، ولا من هو، وأين عائلته، لكنه يقرر أن يأخذه معه في رحلته، لينتهي به الأمر أيضًا بالارتباط به مثل الابن، ليخوضا الغابة الكثيفة التي لا ترحم سوى من يعرف طرقها وكيف ينجو منها.

مغامرات نهاية العالم، والتجول في الغابة، وعدم وجود نتيجة من هذه المواجهة مع الطبيعة. بلغة بسيطة، قاسية مثل البقاء غير المحتمل للشخصيات، مع اختصارات مذهلة فجأة، تعد الرواية التي ترجمتها كريستينا سمير وصدرت عن دار العربي، مغامرة تحبس الأنفاس. يتأمل فيها بوليكوين بتحفظ في إمكانياتنا المتشائمة للبقاء في عالم عاد إلى أبسط تعبيراته وأكثرها رعبًا. إنه يقدم حكاية سياسية مذهلة حول حاجة أي مجتمع إلى أن يأخذ في الاعتبار مستقبل شبابه.

إن عقل البطل/ الراوي والصبي مشغول باستمرار بالبقاء على قيد الحياة، تمامًا مثل الأشخاص القلائل الذين يلتقيان بهم على طول الطريق، إنهما يتعاملان مع المخاطر بشكل مختلف. أحدهما خائف والآخر يحاول الفهم. وإذا كان الراوي هو بالفعل الشخصية الرئيسية في الرواية، فإن الصبي هو الذي يبعث الحياة في السرد، ويثير المشاعر. هذا الطفل هو الناجي الحقيقي. لا نعرف من أين أتى، فهو يحكي ويكذب ويخترع حياته مع تقدم الكتاب. على النقيض من البطل، فقد اكتسب بالفعل كل قواعد البقاء على قيد الحياة في بيئة معادية. وإذا قام بتحريف الحقيقة، وسرق الأشياء، ثم اختفى ثم عاد متى شاء، فإن ذلك لحماية نفسه، والتأقلم مع الظروف المأساوية التي يعيشها.

يسير بنا بوليكوين بين الظل والنور، لم يعد التهديد يأتي من العناصر، من الشتاء أو المناخ، بل من الإنسانية، من الآخرين، وحتى من العائلة. لا يخفي بوليكوين ذلك، فقد أراد في الرواية أن يضع ديناميكية الأسرة على المحك من خلال "صراع الأجيال القديم الجيد". يشير "بالنسبة لي، تلعب استعارة العلاقة مع الجوهر، على وجه الخصوص، دورًا رائدًا. إنه العالم القديم مقابل الجديد. إنها قصة عن مستقبل الشباب وعن قسوة واستمرار العالم القديم، وعن بعض طرقه في فعل الأشياء والتفكير".

يظهر بوليكين البقاء دائمًا كزمنية شبه متوقفة، وكأنه يظهر صعوبة البقاء على قيد الحياة في هذا الظرف الراهن من الواقع الحياتي. يصف كل فصل من فصول الرواية تسلسلًا زمنيًا، ويصف كل جزء من الأجزاء (الغابة والأسرة والسماء) تصورًا مختلفًا اعتمادًا على مدى خطورة ما يحيط بالراوي/ البطل والصبي. في الغابة، يجد الراوي ـ المندهش والواقعي خارج نفسه ـ ساعة، وبالتالي فإن تجواله للوصول إلى معسكر الصيد الخاص بالعائلة سيتم تحديد توقيته. طريقة ذكية للتسبب في الوفاة في الجزء الثاني، يتم فهم الوقت باستخدام التقويم، والأيام تمر مملة، متوترة. في الجزء الأخير، تمر اللحظات، وتلوح النتيجة في الأفق.

نحن نعلم أن عالمنا يعتمد على الاستهلاك المفرط للطاقة. يجعل بوليكوين هذا إطارًا لقصته: انهيار غير مبرر للطاقة يوقف العالم. الجميع يهرب إلى الغابة. ثم ينقسم العالم بين أولئك الذين يبقون وأولئك الذين يغادرون. ومن الواضح أنه لا يوجد حل قابل للتطبيق بشكل كامل. الروائي، دائمًا دون أدنى إصرار، ذكي: أولئك الذين يظلون ينغلقون على أنفسهم في عالم مغلق، دون تغيير، منطوي على نفسه، مستعدون للدفاع بالسلاح عن موارده المنهكة والمهلكة.

أيضا تسلط الرواية ضوءًا جيدًا على انسحابنا من وحدة الأسرة. لا يحتاج بوليكين، المنغمس دائمًا في توتر حبكته، إلى التأكيد على رعب الحياة في العزلة، والانتظار القلق لفصل الشتاء المقبل، وألعاب الهيمنة التي تجري هناك. البقاء على قيد الحياة يومًا بعد يوم.

يقول بوليكوين عن رؤيته في الرواية "هناك شيء من الخيال مرتبط بالغابة، سواء كان ديناميكيًا أو أسطوريًا، وهو أمر مخيف ومنقذ في نفس الوقت. إنه مكان مقدس وبعيد المنال، حيث نجد البداية والنهاية. هذه هي المساحة الإجمالية. بالنسبة لي، الغابة هي مركز العالم، وكان ذلك واضحًا. إنها حافز للتوتر السردي بامتياز، وقد أردت أن أكتب رواية عن الغابة منذ وقت طويل، إنها مكان العجب والخوف، مكان الانبهار".

يذكر أن كريستين قواي بوليكوين ولد في سانت آرموند بكيبك بكندا عام 1982. نشرت كل من دار "لا بوبلاد" و"بيبليوتيك كيبكواز" أولى رواياته، "سلك الكيلومترات" كما نشرتها دار "فيبوس" بفرنسا، وتُرجِمت إلى الإنكليزية بعنوان "أوشك العدم على النفاد" (تالون بوكس، 2006). تُرجِمت "حتى تذوب الثلوج" ـ العنوان الأصلي "ثقل الثلج" ـ إلى تسع لغات منها الإسبانية، والإيطالية، والألمانية، والتشيكية، وتمتعت الرواية بنجاح كبير على المستوى القراء والنقاد في فرنسا وكيبك، ونشرت العربي للنشر والتوزيع الترجمة العربية منها عام 2022.

مقتطف من الرواية

ساقايَ ترتعشان، أصابع قدمي تؤلمني، أحزمة حقيبتي تَسْحَقُ كتفي، ركبتي تؤلمني دون هوادة، لكن الجسد آلة مرهوبة، كلَّ يومٍ.. أَتَوَكَّأُ على عصايَ، وأمرُّ تحت قبابٍ خضراءَ اللون، وأعبر جداول وأتخطى أشجارًا هاويةً، كلَّ يومٍ.. أتوغَّل أبعد قليلًا داخل تلك الشبكة من الأروقة، وعروق النباتات وتعرُّجات التربة، أسعى جاهدًا لتلافي اللقاءات.

منذ ذلك الصباح، أتبع مسارًا متعرِّجًا رسمته الحيوانات بعبورها، الأحجار ناتئة، والجذور معقودةً حول بعضها، وأمتعتي ثقيلة ومرهقة، كنت أتقدم بحسب قدرتي على السير، خطوةً تلو الأخرى، مدفوعًا بعنادِ دوابِّ الأحمال.

عند شعوري بحرارة الشمس اللاَّفحة، أو عند قرقرة بطني، كنت أستريح على قمَّة تلَّة، أقضم من الفواكه المجفَّفة، محاولًا مرةً أخرى إحصاءَ أيام ارتحالي، أهي عشرة أيامٍ؟ أم اثنا عشر يومًا؟ لا أستطيع احتساب الوقت، كانت المناظر المحيطة بي تتجدَّد والمسافات تتمدَّد، نظرت حولي؛ فلمحت وميضًا بالأسفل، فحملت حقيبتي على كتفي وتوجَّهت إلى بقعةِ الضوء وعثرت على طريق بري.

حافظتُ على حذَري، الذباب الأسود يحوم حولي، من جهة، يمتدُّ الطريق صعودًا على جانب الجبل المنحدر، ومن الجهةِ الأخرى، يتخِّذ الدرب نزولًا مسارًا تدريجيًّا ويختفي في نهاية المنحنى، بينما كنت أرتشف الماء؛ أفزعني خفقان أجنحة "الحجل"، فأخذت بضعَ خطواتٍ خاطئةٍ وخرجت من تحت غطاء الأشجار الكثيفة.

تعتاد عينايَ تدريجيًّا على الضوء الباهر الفجائي، وتحرق الشمس مؤخرة عنقي، الهواء حار وجاف، يتدحرج الحصى تحت نعل حذائي، ويتردَّد صوت خطواتي في جنَبَات الغابة الخضراء، كانت الأعشاب تزحف هنا وهناك لتستحوذ على حواف الطريق، وقد حُفِرت أخاديد عميقة بفعل هطول الأمطار وذوبان الجليد، وبسبب قلَّة الصِّيانة؛ لم تعد تلك الطرق سالكة، بعد مرور بضعة مواسم، سيكون الغطاء النباتي قد استرجع كل ما نُزِع منه.

عكَّر دَوِيُّ مكتومٌ صَفْوَ حالة السلام والهدوءِ التي أنعَمُ بها، هناك سيارة قادمة، أسمع هدير محرِّكها يقترب، عبرت الطريق بسرعةٍ، تخطيت مياه الخندق الموحلة وعدت إلى الغابة التي يلُفُّها الظلام.

اختبأتُ خلف أَجَمَة متخذًا وضعية القرفصاء بين أوراق الشجر الميت، أتت شاحنةٌ صغيرة، كان ممتص الصدمات يرتجُّ والعادم يتسرَّب منها، عَبَرَت مُخلِّفةً وراءها سحابةً من الغبار شوَّشت رؤية الحدِّ الفاصل بين الأرض والسماء، ثم ابتعدَت متأرجحةً.

منذ انقطاع الطاقة، لم تعد الأرض تهتزُّ بفعل تحميل الخشب على المقطورات الصغيرة، ولكن لا تزال حركة المرور كثيفة في الغابة، هناك رجال ونساء التَجَأُوا إلى أكواخهم أو مخيَّمات الصيد الخاصَّة بهم ليحتموا بها، وهناك مَنْ حاولوا الاستقرار في أحد الأماكن البعيدة عن المناطق المأهولة بالسكان والطرق الوطنية، في كلِّ مكان.. يسود الحذر والترقُّب، حيث يحسب الناس خطواتهم ويحملون السلاح، يتعلق الجميع بقشة؛ ولهذا أُفَضِّلُ غياهب الغابة على لقاءات الصدفة التي قد تحدث على دروب الأحراش.

مع حلول المساء.. عندما غشيَ الليل الغابة، كنت أقترب من إحدى بِرَك المياه، فأسمع نقيقَ الضفادعِ يتصاعد من كلِّ مكان، تحت معطف الصنوبريَّات الأسود، رأيت كوخًا صغيرًا، فتواريت خلف ستارٍ من نباتات "البوط عريض الأوراق"؛ خشيةَ أن يلمحني أحد، ولكن البعوض هاجمني، رأيتُ اليراعات تُومِض ووحوش البريِّة الصغيرةِ تتسلَّل إلى الدغل، بعبارة أخرى.. لا وجود لأيِّ علامةٍ دالة على الحياة، إنه يومُ حظِّي، فالكوخ مهجور، اقتربت وتسلقت درج الشرفة المغطَّى بالطين، ما إن علا وقْع خطواتي، حتَّى توقَّفَت الضفادع عن النقيق.

كان الباب مغلقًا بالمفتاح، لكنَّني استطعت فتحه عبر إدخال ذراعي من النافذة، أصدَرَت المُفَصَّلَات صريرًا، أخرجت مصباحيَ اليدوي، ولدهشتي، وجدت الكوخ فائقَ الترتيب، فالصحون موضوعة على الأرفف، والسرير مُرَتَّب بعناية، وهناك ثلاث زجاجاتٍ فارغةٍ تحمل شموعًا وكأنها تسهر على إفريز النافذة، أشعلْتُ الشموع، فأنار ضوءٌ نحاسيٌّ الغرفةَ، ولمَعَت طبقة رقيقة من الغبارِ أمام ناظري، لمَحْتُ حذاءً طويلًا عند حافة السرير، حتَّى وإن بدت موجودة هنا منذ وقت طويل، قطبت حاجبي وتأكَّدت من إغلاقِ الباب بالمزلاج، وبالخارج.. عادت أصوات النقيق مجددًا. فتَّشت الخزائن وعثرت على شاي، وبرطمان زبدة فول سوداني، ولحم بالصُّوص معلب، وعلبة أناناس محفوظ، أكلت كلَّ ما أقدر عليه، وخلعت ملابسي، وجلست على السرير منهكًا، خفق قلبي من شدَّة الألمِ وشعرت بوخْزٍ رهيبٍ في ركبتي المتورمة، انبعثَت من قدمي رائحة كريهة، ونزفت قروحي التي علت عظم الترقوة.

ما زالت أحمالي ثقيلة، كنت أرزح تحت هذا الحِمل كلما تقدَّمتُ، نظرتُ إلى حقيبتي الملقاة أرضًا كالحصان النافق، أردتُ نزع حشاها أملًا في التخفيف من ثقلها؛ لكنَّني كنتُ قد تخلَّصتُ بالفعل من أغراضٍ كثيرة: مقلاعي، ومِنظاري، وملابسي الاحتياطيَّة، باستثناء خريطتي، وبُوصلتي، وغطائي المشمع، وكيس النوم خاصتي، لم أعد أحمل سوى الطعام والماء، وهذا الحِمل يثقل كاهلي، ولكنه يحافظ على بارقة الأمل التي أتشبَّث بها. ارتميت بظهري على السرير، بدا سطحه الناعم وكأنَّه ينتمي إلى عالم الأحلام، راقبتُ وأنا مستلقٍ أضواء الشموع تتراقص قبل أن تخبوا عند وصولها لعنق الزجاجة، ثم غرقت في نومٍ يهيمن عليه الدغل المتشابك، ويفيض بالنباتات المُعْتَرِشة وبالسرخَسِيَّات وبالأخيلة الليلية.