القيعي: خطاب التوحيدي يتميز بحجاجيته الرامية للإقناع

الدراسات التي تناولت أبا حيان التوحيدي كثيرة، سواء على المستوى النقدي أو الأدبي أو الجمالي أو الفلسفي، لكن قليل هم الباحثون الذين درسوا نظرية الحجاج في كتاباته

الدراسات التي تناولت أبا حيان التوحيدي كثيرة، سواء على المستوى النقدي أو الأدبي أو الجمالي أو الفلسفي، لكن قليل هم الباحثون الذين درسوا نظرية الحجاج في كتاباته، على الرغم من جدة الموضوع وأهميته وجدواه في إضاءة النص الأدبي والحوار معه بطرائق علمية جديدة تفيد من النظريات الأدبية المعاصرة، بقدر ما تعيد النظر وتتحاور وتقلب في النصوص العربية القديمة الثرية، لمحاولة الوصول إلى نتائج جديدة.

انطلاقا من هذه الرؤية تأتي أهمية هذه الأطروحة التي نال بها الباحث والكاتب الإعلامي محمود عبد المعطي علي القيعي على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية الآداب وحملت عنوان "مستويات الحجاج في إبداع أبي حيان التوحيدي.. كتاب أخلاق الوزيرين أنموذجا "

يقول القيعي، أبوحيان التوحيدي واحد من كبار كتّاب العربية الذين كان لهم دور متميز في مجال الكتابة الأدبية الرفيعة، حيث تنطوي كتاباتهم على أهمية كبيرة، لما تتضمنه من غنى في الرؤى، وجمال في الأسلوب. وقد أثار أبوحيان من الجدل النقدي حوله الكثير - ولا يزال - فاتخذه كثير من الباحثين محورا لدراساتهم وأبحاثهم. ويبدو البعد الفلسفي جليا في تكوين أبي حيان وليس أدل على ذلك من وصف د.زكريا إبراهيم له بأنه "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء" وهو الوصف الدال على أن أبا حيان كان جسرا بين الفلسفة والأدب.

وقد أورد ياقوت في معجمه ثبتا بأسماء بعض كتب أبي حيان، فنص على ثمانية عشر كتابا، لكن د.زكريا إبراهيم ذهب إلى أن ثمة كتبا أخرى لم يشر لها ياقوت، بينما أشار إليها التوحيدي نفسه في كتبه، مثل كتاب "النوادر" وكتاب "الكلام في الكلام"

ويضيف "الكتاب الذي اخترت أن يكون موضوع الدراسة "أخلاق الوزيرين" حافل بالأقاصيص والروايات التي يسردها التوحيدي علينا، لإقناعنا ببخل الوزيرين ورقاعتهما وسخفهما وقلة دينهما ومجونهما وادعائهما وتفاخرهما الكاذب وتصرفاتهما المشينة.. إلخ، ولا يخلو الكتاب بين الحين والآخر من ملاحظات سيكولوجية طريفة وتصوير هزلي ساخر، وأحاديث فلسفية شائقة وتعليقات لغوية دقيقة وأبيات شعرية رقيقة.

ويؤكد القيعي أن أطروحته استهدفت تحليل إبداع أبي حيان في ضوء نظريات الحجاج، لاسيما إذا كانت القراءة في كتابه "أخلاق الوزيرين" الذي لم تتم دراسته حجاجيا بالشكل الذي يستحقه. وحاولت أيضا ـ الأطروحة ـ استثمار معطيات النظرية الحجاجية "البلاغة الجديدة" التي حاولت توظيفها في تحليل أبي حيان كواحد من كبار كتّاب النثر العربي الذي شغل الناس بكتاباته النثرية الطريفة التي تستحق المزيد من القراءة والدراسة.

ويرى أن البلاغة الجديدة التي رفع لواءها "بيرلمان" و"تيتكاه" تركز على التكنيك الذي يستخدمه الكلام لتحقيق الإقناع، أما الحجج التي ليست عائدة إلى التقنيات البلاغية فلا يعنيهما أمرها. لهذا فإن موضوع نظرية الحجاج عندهما يبدأ من تحليل "درس تقنيات الحجاج التي من شأنها أن تجعل العقول تسلم بما يعرض عليها من أطروحات، أو تزيد في درجة التسليم".. والناظر في عمق كتابات أبي حيان التوحيدي، لاسيما في كتابه "أخلاق الوزيرين" يجد أن خطابه يتميز بحجاجيته الرامية للإقناع ومقاصد التأثير في المتلقي، والهيمنة على ضمير جمهوره حتى إنه تحدث صراحة وهو ابن القرن الرابع الهجري – عن "الحجة الناصعة" و"الحجة الأنور".

 وقسم القيعي أطروحته إلى تمهيد وثلاثة فصول. في التمهيد تناول القضايا التي تناولها أبوحيان في كتابه "أخلاق الوزيرين"، وهي قضايا متنوعة منها الأدبي والثقافي والسياسي ومنها الاجتماعي والأخلاقي والقيمي فضلا عن قضايا اللغة التي كان لأبي حيان فيها قدم راسخة مع ما حولها من تشكيلات الصياغة الجمالية وأبنية الصور الفنية.

وتوقف القيعي في الفصل الأول عند عرض مستويات الحجاج من بلاغة العبارة إلى بلاغة الخطاب وفيه عرَّج على مفاهيم الحجاج في مصادرنا القديمة والدراسات المعاصرة، حيث عرض البُنَى الحجاجية في مساق البلاغة العربية القديمة مع ما أضيف إليها من التطور والتجديد والابتكار والحداثة.

وتطرق في الفصل الثاني إلى استراتيجيات الحجاج عند أبي حيان، كيف كان يقيم خطابه الحجاجي؟ وكيف كان يحدد أبعاده ويترسم خطاه؟ أما الفصل الثالث فقد توقف عند الحديث عن الصورة الفنية ومحاولة بيان أثرها حجاجيا في كتاب أبي حيان "أخلاق الوزيرين" – موضوع الأطروحة – حيث قام فيه باستعراض دور الصورة في الإقناع والإمتاع معا وطبيعة التأثير في المتلقي فكرا وشعورا، حيث عدت البلاغة الجديدة "الصورة الفنية" من أهم التقنيات التي يتوسل بها الخطاب في التأثير على المتلقين وإقناعهم إلى جانب إمتاعهم.

واللافت في الصور الفنية التي وظفها أبوحيان أنها كانت مستمدة من حياة المتلقين في عصره ومن واقع سلوكهم اليومي وموروثهم الشعبي وعليه فقد كان واضحا أن المتلقي كان دائما حاضرا في كتابات أبي حيان، وقائما في ضميره وفكره.

فقد انتهى القيعي في أطروحته إلى جملة من النتائج منها:

ـ رسوخ مفهوم الحجاج عند أبي حيان، فالرجل يتحدث صراحة عن "الحجة الناصعة" و "الحجة الأنور، وبدا في كل ما يكتب حريصا على تضفير كتاباته بكل أنواع الحجج، حتى يقنع المتلقي ويؤثر فيه ولا يخلو خطابه من كلمات: البرهان، الدليل، الاستدلال، البينة، الحجة القوية، الحجة بالبالغة..إلخ.

ـ كان المتلقي حاضرا دائما في ذهن أبي حيان وهو يكتب وفي هذا دليل على اعترافه بالآخر وتقديره وحرصه على إقامة حوار معه لإقناعه والتأثير فيه، مما كان له أكبر الأثر على إثراء خطابه وإضفاء حيوية وهذا منهج جدير بالاقتداء.

ـ أهم حجة اعتمد أبوحيان عليها لإقناع المتلقي كانت حجة المشاهدة، حيث كان حريصا كل الحرص على أخذ آراء رجال خبروا هذين الوزيرين وعايشوهم ورأوهم رأي العين، مما جعل من خطابه وثيقة.

ـ اعتبر أبوحيان أن الحكمة هي أعلى مراتب الكلام إقناعا وتأثيرا، فلجأ إليها وعول عليها وكانت الحكم النثرية والشعرية سواء.

 ـ إذا كانت الصورة الحجاجية نشاطا تداوليا تلح في تركيبها المجازي على حضور واعٍ لأطراف الخطاب وإجراء حوار بين الكاتب والمتلقي وهي في البلاغة الجديدة من أهم التقنيات التي يسعي الخطاب للتأثير بها، فقد كانت الصورة حاضرة بقوة في خطاب أبي حيان وأدت وظائفها سواء الجمالية أو الإقناعية.

ـ اختار أبوحيان مادة صوره من عالم المتلقين وحياتهم لأنه يدرك أن الصورة كلما كانت قريبة من عالم المتلقين وحياتهم اليومية، كانت أقدر على التأثير والإقناع وهو ما يتسق مع النظريات الحديثة.

ـ يشاكل أبوحيان بين صوره وموضوع خطابه مشاكلة دقيقة تنم عن وعي بالبعد الحجاجي. كما حرص في صوره المتتابعة على أن ينوّع في مصادرها، ليكون التأثير أكبر والإقناع أفضل. وأيضا كان حريصا في خطابه على الإقناع واستخدام حجج عقلية شبيهة بالمنطق واعتمد على التأثير الأخلاقي والتأثير العاطفي سواء بسواء وعلى تنوع الآليات المستعملة في الإقناع، منها آليات بلاغية مثل الاستعارة، التشبيه، التمثيل، المحسنات البلاغية مثل السجع والطباق والمقابلة، مما كان له أكبر الأثر في جعل خطابه حجاجيا من الطراز الرفيع.

ـ ظهرت مستويات الحجاج متداخلة مع آليات البنية الحجاجية التي كشفتها الدراسة وتوقف عند مضامينها وطبيعة تشكيلها الفني وصيغها الجمالية مما يتبين لدارسي التوحيدي من خلال:

أ- المستوى الموضوعي الكاشف عن طبيعة المرحلة وطبيعة الكاتب وخصميه اللذين اتخذا من منصبهما الوزاري مجالا للسخرية والتهكم والازدراء.

ب- المستوى القيمي والأخلاقي الذي توقف عنده طويلا وصوره بالشكل الذي كشف عن طبيعة الحالة التي رآهما عليها، فكان دقيقا في عرض مواقفه، حريصا على تفاعل جمهوره معه.

ج- المستوى الانفعالي والشعوري الذي صوره أبوحيان مرة من خلال ازدرائه للشعر والشعراء ومرات أخرى باستعانته بالشواهد الشعرية التي آثر توظيفها في نثره الحجاجي.

د- المستويات الفنية التي انطلق منها وانتهى إليها داعما فكره ومواقفه وأدواته من خلال الانتصار على خصومه بأدوات الحجاج التي امتلكها، وأجاد إعمالها من خلال تمكنه من فنه، وتمثله لمواقفه وقضاياه وغاياته.