باحث يمني يضع معجما لغويا للهجات المعافرية

توفيق محمد السامعي التيمي في كتابه 'لسان المعافر' الصادر في جزأين يضيء على التأصيل اللغوي الرابط بين هذه اللهجات واللغات القديمة وخاصة اللغة العربية الأم.

لعل أهم ميزة في كتاب الباحث اليمني توفيق محمد السامعي التيمي "لسان المعافر" وهو جمع لغوي معجمي للهجات المعافرية، يتمثل في التأصيل اللغوي الرابط بين هذه اللهجات واللغات القديمة وخاصة اللغة العربية الأم وما ورد منها من ألفاظ في القرآن الكريم، ومن ثم يعمل على مساعدة المفسرين في تفسير ألفاظٍ في القرآن الكريم ظلت محل خلاف واسع بين المفسرين دون التوصل إلى معانيها الدقيقة مثلت اللهجات المعافرية حلًا ناجعًا لها، فبهذه الطريقة سارت العرب الأوائل في تتبع اللغة وتكوينها وتقعيدها وضمها في معجم لغوي متنوع، أسست للعلوم العربية المختلفة. وبدأ اللغويون المعجِّمون للألفاظ العربية بتتبع اللهجات المحلية التي كانوا يسمونها "لغات" ويدونون منها كل شاردة وواردة، حتى تم لهم ذلك الثراء اللغوي الضخم، ظلت علومًا حتى اليوم، ينهل منها الدارسون ويرجعون إليها في كل أوقاتهم.

الكتاب الذي جاء في جزأين صدرا عن مؤسسة أروقة، عمل عليه التيمي أكثر من عشرين عامًا، يقول "ساعدتني الرحلات التجارية في صغري مع والدي إلى معظم مناطق المعافر كقدس، وجبل حبشي، وصبر، والصلو، والأعروق، وبني حَمَّاد، والشعوبة، وبعض خدير، وذبحان، وشرجب، وغيرها، ساعدتني في التعرف على بعض لهجات وألفاظ تلك المناطق مما كنت أجد فيها اختلافًا عما هو عليه في لهجات مديريتنا "سامع"، فعنّ لي عند الكبر أن أكتب وأدون هذه اللهجات قبل أن تندثر اليوم، خاصة مع عملية التثاقف والتلقي بفعل الطفرة الإعلامية وثورة الاتصالات والإنترنت والاختلاط والهجرات الداخلية والخارجية، فقمت بتأليف وتدوين هذا المعجم، حتى أنني وجدت الجيل الحديث الذي جاء مع بداية التسعينيات وحتى اليوم لا يعلم شيئًا عن الكثير من الألفاظ المعافرية القديمة التي هي في طور الاندثار، مع أنها أصل من أصول تكوين اللغة العربية الفصحى، لغة القرآن الكريم".

ويضيف "كنت أركز كثيرًا منذ الصغر على اختلاف اللهجات بين منطقة وأخرى ومع لهجتي الخاصة، حتى أنني أزعم أنني طبعت لساني بخليط من اللهجات المعافرية باكرًا أثرت في لهجتي الخاصة، وشعرت أنني أتحدث بغير ما يتحدث به أبناء بلدتي "حوراء سامع"، وهو ما وضحه لي كثير من الأصدقاء، فلهجة سامع - خاصة سامع الأعلى- لهجة خشنة وجافة وأصيلة، غير بقية لهجات المعافر. ولهجة سامع الأسفل أخف غلظة من لهجة سامع الأعلى، بينما تشعر أن لهجة جزء من سامع الأسفل قديمة وأصيلة، خاصة في المفردات اللغوية وطريقة نطقها، ومع ذلك شعرت بتأثر لهجتي الخاصة بلهجات عديدة".

ويشير إلى أنه منذ أن بدأ البحث الميداني المتقطع للتعرف على معالم وتاريخ المعافر منذ العام 1996، وهنا "عنّت لي فكرة تدوين كتابين متزامنين معًا هما: "التاريخ العام للمعافر"، "تعز كاملة مع بعض محيطها"، و"المعجم اللغوي للمعافر" الذي أسميته لاحقًا بـ"لسان المعافر"، حتى جاء العام 2005 فكثفت جهودي بالبحث في المجالين التاريخي واللغوي للمعافر، وحين كنت أدون اللهجات المعافرية عَنَّ لي أيضًا أن أكتب عن "اللغة اليمنية في القرآن الكريم"، فكان أول منجز لي في هذا المجال، مع مواصلة تدوين المعجم والتاريخ، في آن واحد، وسبق إنجاز كتاب "اللغة اليمنية في القرآن الكريم" كتابَي "لسان المعافر" و"التاريخ القديم للمعافر"، وتم نشر كتاب اللغة اليمنية في القرآن الكريم عام 2012.

ويرى التيمي تاريخ المعافر الذي يقع في الزاوية الجنوبية الغربية لليمن والجزيرة العربية، ظل مشتتًا في المصادر التاريخية وعند المؤرخين والباحثين بين الدول اليمنية القديمة "معين، سبأ، أوسان، قتبان، حمير"، ما عدا حضرموت التي لم يكن لها تواجد فيه. وأظهر كأنه كان فقط ولاية من الولايات التابعة لهذه الدولة أو تلك، ولم يُبحث فيه عن تاريخ مستقل، رغم أن النقوش الموجودة حاليًا، التي دونت أحداث تلك الدول، تقول ذلك، حين ورد أول ذكر للمعافر في نقش صرواح "النصر" لكرب إيل وتار، في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، حتى الآن. ربما لم يذكر أيٌ من الباحثين والمؤرخين أن ذلك المخلاف - بذلك المسمى "المعافر" - كان موجودًا قبل هذا النقش الذي كان له دلالات قوية لأهمية مخلاف المعافر ومدنه.

ونقصد بالمعافر: محافظة تعز اليوم، وليس منطقة الحجرية، أو تلك المديرية التي انحسرت التسمية عليها، وهي مديرية المعافر حاليًا. ورغم أن المخلاف دخل تحت نفوذ الدول السابقة، إلا أنه لم يتأثر كثيرًا بذلك النفوذ، خاصة في الجانب اللغوي الذي يعد من أهم الأدلة على استقلال المخلاف ونشأته وتطوره، وبدليل أن لهجة المعافر لم تتغير ولم تتبدل إلى أي من لهجات تلك الدول. كما أن مدنه الكثيرة والكبيرة، بما فيها من قصور وقلاع وشواهد تاريخية من نقوش ومعالم شتى، لا تجعل المخلاف مثل المخاليف الأخرى التابعة لتلك الدول، من حيث البساطة وقلة الشواهد وقلة المدن.

ويضيف "حوى مخلاف المعافر العديد من المدن الرئيسة هي: السوأ وجبأ وشرجب وذبحان والجوءة وموزع والمخأ والمندب وذو باب، والجند، والميدان "اليمنة"، وسورق وذي عُدَيْنة "تعز حاليًا". ناهيك عن المدن الأخرى كعسيفر، وتباشعة، وضبر، وذخر، ورعين، والكلاع، وعَدِيْنة، وأجناد الأشاعر، وسَلُوق.. وغيرها".

ويتابع: كما كان للمخلاف مقومات دولة لا ينقصها شيء، فهو يمتلك موانئ: المخأ وموزع وذو باب، من حيث التجارة الساحلية، التي كانت أهم مورد للدخل القومي لكل الدول اليمنية عبر التاريخ، وكانت من أسباب غزو المعافر. وكانت تلك الموانئ أهم موانئ اليمن القديم، حيث كانت بوابة اليمن إلى أفريقيا ومصر، وكانت تبحر منها السفن والمراكب المحملة بتجارة الذهب والفضة والبخور واللبان والميعة واللادن والصندل، التي كانت أهم السلع في العالم القديم، مما جعل الفراعنة المصريين يطمعون في الطريق البحري عبر البحر الأحمر لتلك التجارة، ثم طمع الإسكندر الكبير بالوصول إليهما وإلى اليمن للتحكم بالطريق التجاري والسيطرة عليهما، وكانت دافعًا للرومان لاحتلال اليمن قبل الميلاد، وكذلك فعل الأحباش بعد الميلاد. كما كانت الزراعة، ووجود الوديان المختلفة والهضاب المتنوعة والتربة الخصبة وكثرة الأمطار التي تجعل الفلاحين يزرعون مرتين في العام، من أهم مرتكزات الدولة يومها. ومثَّل وجود القمم الشاهقة، التي بنيت فيها القلاع والحصون المنيعة، أهم التحصينات الأمنية لتحصين الدولة.

ويؤكد أن كل تلك البيئات الجغرافية والديموغرافية جعلت المخلاف موحدًا وفاعلًا في اليمن طوال قرون من الزمن، وجعل البيئة المعافرية بيئة مستقرة، والبيئة المستقرة غالبًا تنتج المعرفة الحضارية والسلوك والانضباط في إطار تشريعات وقوانين خاصة تنظم أمر الدولة وكيانها، جعلت الإنسان المعافري مستقرًا مسالمًا لم تغلب عليه النزعة الاستعمارية الجامحة نحو الحروب، بل ابتكرت عنده جانب التجارة وتوسعها برًا وبحرًا، جعلت الإنسان المعافري يتمدد غربًا خلف السواحل وصولًا إلى أفريقيا في أثيوبيا/الحبشة وتنزانيا وكينيا، حيث توجد الكثير من القبائل والمدن المعافرية التي تأسست هناك كمدينتي "دردوا" و"نازريت/نازريتي" وهي مدينى "أداما" حاليا، وكقبائل العفار الأثيوبية التي تعد ثالث أكبر المكونات القبلية الأثيوبية والأرتيرية بعد الأرومو والتجريت.

ويلفت التيمي إلى أنه من خلال مواصلة التدوين اللغوي للهجات المعافرية، تبينت ظواهر لغوية جميلة في هذه اللهجات، من حيث الثراء والسعة اللغوية، والاشتقاقات المختلفة، والوصف والتعبير الدقيق للألفاظ المُطلقة على الأشياء من أسماء وأفعال، واختلاف الأصوات، والحرف النواة، والاختصار، وغيرها.. مما جعلني أتردد كثيرًا هل أطلق عليها تسمية "لغة" أم "لهجة" لاختلاف أصواتها وتعبيراتها وألفاظها عن بقية اللهجات اليمنية الأخرى، وحتى اليوم ألحظ كثيرًا من تغير وتأثّر اللهجات الصنعائية والمعافرية والإبية والجنوبية، بسبب الاختلاط والاحتكاك والتثاقف، فمثلًا تلك اللهجة الثقيلة والجافة لصنعاء، وخاصة صنعاء القديمة، أو القريبة منها، أو عمران، لم تعد تلك اللكنة التي عرفناها قبل عشرين عامًا، بل خفت وصارت مفهومة أكثر من ذي قبل للوافدين لأول مرة إلى صنعاء. كان المتحدث من صنعاء القديمة – مثلًا - إذا تحدث ملأ كل تجاويف فمه بالحرف الذي ينطقه، مما كان ثقيلًا على السامع، ولهجتهم لهجة ثقيلة وليست سريعة، بعكس اللهجات لليمن الأسفل، فينطقون الطاء – مثلًا - قريبًا إلى الظاء، ومعظم الحروف عندهم مفخمة.

ومن الأمثلة في ذلك، أن ابن صنعاء وعمران وذمار - مثلًا - كانوا يعدون أو يستقبلون أو يستهلون الفعل بحرف العين فيقولون: "عد اسير صَلَى/صلا باب اليمن" مثلًا، ولم يكونوا يعدون أو يستهلون الفعل بحرف الباء المستعمل عند أبناء اليمن الأسفل أبدًا، بقولهم: "باروح مكان فلان"، واليوم صار هذا الأخير مستعملًا بكثرة عند الصنعائي والذماري والعمراني، وكأنها أصبحت لهجة متطورة، وكذلك اللفظ "صَلَى/صلا" الذي يعني في صنعاء وعمران "تجاه"، لم يعد مستعملًا اليوم بتلك الكثرة السابقة، وصار أقل استعمالًا.. فأحد الزملاء الصحفيين من أبناء تعز قال للكاتب: بقيت في صنعاء عشرين عامًا وأنا أستمع لأغنية السنيدار (ياجانيات العناقيد) لم أفهم معنى "صَلَى: صلا" إلا اليوم عرفت أنها تعني: باتجاه. في إشارة منه لشطر البيت: "قلت ياقمري في جُبى الدار.. محبوب قلبي صَلَى اين سار؟". حتى نحن أبناء سامع، وبعض مناطق المعافر، كان عندنا حرف الاستقبال والاستهلال "الشين" و"الهاء" ينطقان بكثرة بالقول: "شاسير صنعاء"، "هاسير صنعاء"، اليوم صار حرف الباء مستعملًا بكثرة، فنقول: "بارُوح/باسير مكان فلان"، بينما الباء هذه أصلًا شرقية وجنوبية، ويعد من يتكلم الصيغة الأخيرة - في معافر اليوم - متطورًا عن الأول.

ويوضح التيمي "كان من أشد ما لفت انتباهي في رحلة خارجية عن إطار صنعاء في محافظة حجة، وفي مناطق نائية جدًا تسمى "مناطق البدو"، وجدت بعض المصطلحات المعافرية التي أحسبها نادرة ولا توجد إلا في المعافر، وجدتها في تلك المناطق النائية في قمم وشواهق جبال حجة البعيدة في منطقة تسمى "البدو" من "المغربة"، مثل اللفظين: "دَحْدَح" و"فَلَع" وهي معافرية خالصة. وهذا الأمر كذلك منتشر في بعض مناطق "عسير" خاصة في محافظة العارضة من المملكة العربية السعودية. وقد استغربت كثيرًا من أن الكثير من الألفاظ المعافرية لها نفس النطق والمخرج والاستعمال والأصوات، بل والحركات، في بعض مناطق عسير، من ذلك مثلًا ما واصلني به أحد الباحثين من نفس المنطقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وقمت بإرسال له أنشودة ومقطع صوتي باللهجة المعافرية الخالصة أداها طفل في الثانية عشرة من العمر، وهي: "سُعَيْدُو من عَرَف ربُه سُعَيْدو"، فاستخرج منها الكلمات التالية، قال بنفس المخرج والنطق، وهي: سُعَيْدو، عباقي، بِيدو، مقدرش، ماقدَّرك؟، شَنْشِد لك"،.. وغيرها من الكلمات. ووجه الاستغراب: أن المسافة كبيرة بيننا وبين تلك المناطق لم نجد أثرًا للكلمات مثلًا في ذمار وصنعاء وعمران وصعدة والجوف وتجاوزتها إلى عسير، ما وضع في رأسي مئات علامات الاستفهام!".

ويقول: هذا ما أكده لي قبل ذلك زميل عسكري من سامع أدى واجبه العسكري في بعض مناطق رازح في صعدة قال لي: إن هناك مناطق سعودية خلف رازح يتكلمون لهجتنا وألفاظنا حتى في طريقة نطق الجيم المعافري، مقترحًا علي العيش هناك للتدوين، وكان ذلك نهاية التسعينيات من القرن الماضي، حين علم بما أقوم به من الأبحاث والتدوين. كما أخذت بعض الألفاظ من المعجم السبئي ومن بعض نقوش المسند اليمنية، وهي الألفاظ الموافقة لألفاظ المعافر لفظًا ومعنى، وكذلك قارنت بعض الألفاظ المعافرية في بعض أسفار اليهود، ونوهت إلى ذلك عند ذكرها في السياق، وفعلت الشيء نفسه مع الألفاظ الأكادية والمصرية، ومن لسان العرب للمقارنة.