بهرام حاجو بين زمن الرماد والرنين المقدس

يتسرب الزمن الرمادي الى لوحات بهرام ببطء متسارع ثم يتصاعد هذا التسرب مشكلاً مجموعة متحدة من الهزائم والانكسارات، فأصابع الفكر المتقد في متاهات الخيبة وأزقة الاحباط جعلت سيطرة الرمادي تتجه بكل الاتجاهات بقصد الفضح والتشهي.

من الوهلة الأولى كل من يقف أمام أعمال بهرام حاجو (1952) سيقول بأنها متشابهة أو على أكثر تقدير هي فصول من عمل واحد، حتى أن هناك من يقول بأن حاجو لم يرسم إلا لوحة واحدة ولكن بفصول مختلفة، قد يكون في ذلك بعض الصواب ولكن إذا وقفنا أمامها بعين القارئ الناقد والتي تختلف من عين المتلقي العادي سنرى أن الأمر ليس كذلك تماماً، ولكن كيف نستطيع أن نقنع الآخر بذلك، فاللوحة عنده تعتمد كثيراً على الحوار الداخلي، فكل شيء في أعماله تتحدث، كما أن كل شيء فيها تنصت بإتقان فكأنه يدير جلسة حوارية عذبة بين مفرداته / الشخوص، اللون، فضاء العمل، ..... إلخ، فهذا الحوار الداخلي يدفعه إلى الذاكرة البعيدة حيناً والقريبة في أكثر الأحيان فيغوص وبإهتمام مزدهر في العمق الإنساني فتنقسم كل شيء في عمله على نفسه، ويبدو هذا الإنقسام ملازماً لمشروعه خصوصاً في مناطق التلامس التي تتحول إلى تداخل مع اندفاع الحركة حيث التزوّد المعرفي ضرورة حتمية لتشكيل رؤيا تمتلك فيما تعد وعياً أكثر حداثة، فحاجو يتعامل مع ألوان قليلة وتكاد تكون أحادية لولا إضافة لون آخر برشقات قليلة تحرك العمل من كل مفاصله، ولعل حاجو هنا متأثر بمنهج الفنان الإسباني انطونيو تابييس / مساحات عدمية، إشارات متصارعة،... وهذا قد يجعله يحتاج إلى تقنية خاصة لها قدرة في التجسيد، فهو غير معني بالتفاصيل اللونية وهذا يخلق لديه حالة خاصة في التعامل مع العمل، فيهذب العمل من الزوائد كلها ويكتفي بالعناوين حتى أنني أستطيع أن أقول بأن عمله أشبه بالقصة القصيرة جداً في الأدب، يتخلى عن الكثير من مفردات العمل، يبحث عن الإختصار، يرمي الزوائد بعيدة، لا يرغب بوجود مراكز دون فعل، ولا أشياء دون الإفادة منها، فهو يتمثل في خلقه في تحققها ضمن شرطها الجمالي ويميل إلى الأخذ بمرتكزات ينقله إلى حداثة قد تنقسم على نفسها لاحقاً بل يعتبر أن الوعي في العمل الفني يجسد وعي متكوّن بأثر من تحولات عوامل جديدة محدداً بالبنية التحتية لقائمة تحركاته، وربما هنا يستنبط حاجو حالات كاشفة للنفس البشرية بخصوبة ذاكرته للقبض على اللحظات الأكثر تأثيراً في الزمن المتواري والأكثر استهدافاً وتحريضاً لخوض خيارات لقضايا مطروحة بهشاشة، فهو هنا ينزاح نحو حكايا ذات احتفاءات إثارية متنوعة يكرس نتاجه لذائقة جمالية لا تلغي تخييلاته بل يحقق عبرها قيماً فنية ومعرفية بالوقوف لا عند مشارف الحالة بل في عمقها حيث كثافات الإنصات متداخلة، من اللحظة الأولى والزمن الأول إلى الإستغراق في التفاصيل وبين ملامح الجو الخاص الذي يستغرق فيه حاجو برهة ثم يتجاوزه للدخول في الوصف التفصيلي دفعة واحدة، لا يتراجع إلى الخلف بل يستمر في تنظيم تشكيلة التداخلات في الوقت الذي يوزع أحزمة ضوئية ضمن نطاق غير ضيق قد يساعده في إضاءة إتجاهات يسلكها عادة على إعتبار أن العامل الفاعل في إستقرار الحالة هو الموقع اللوني الذي ينعش فضاء اللوحة وقد يحيلها إلى مقاطع تتسارع فيما بينها لإنتاج أي أثر من آثار التوتر المنبثق من العمق والمندمج بالحواف.

يتسرب الزمن الرمادي الى لوحات بهرام ببطء متسارع ثم يتصاعد هذا التسرب مشكلاً مجموعة متحدة من الهزائم والانكسارات، فأصابع الفكر المتقد في متاهات الخيبة وأزقة الاحباط جعلت سيطرة الرمادي تتجه بكل الاتجاهات بقصد الفضح والتشهير، فهو أي بهرام لا يلجأ الى الرمادي لكشف الذات وتفريغ الذاكرة وانما كشكل منخرط في الاحباط ..أو على أكثر تقدير شرط غياب الانسان والبحث عن وجوده.

وقد سلكت معظم لوحاته هذا البناء الرمادي الفني وهو طريق متقدم جزئياً في تأريخ أزمنة الهزائم.. واكساء ذاتية اللوحة بحقل ينتهي الى الرماد بعمق... 

بعبارة أخرى ..السياق العام لأسلوبه لم يكن يسمح بطغي العام على الخاص وانما انتقال الخاص الى العام وربطهما بأعمدة من مشاعر انسانية . وتكتسي السيرة الفنية لبهرام باحتراب معلن بين الذات واللون وكانت الكفة دائماً تميل لقتل بهرجة اللون بغمسه بخطاب سياسي ايديولوجي رمادي أيضاً ..فهذا الشكل من الفن وبهذا المستوى المرتفع كلياً وبهذا الوعي الشاهق يدفعه الى الإمساك بزمن الرماد وعدم تخليه عن العقلية الرمادية في الحكم على الأشياء... كما يستدعي التلاعب بالريشة وباللون المتسلط الى خلق تشكيل فيه من الغرابة الشيء الكثير يقودنا حتماً الى التساؤل: 

هل يمكن لتعقيد عالم الغرابة الشخصي والداخلي أن يفضي الى ثيمة عالمية على انها لحظة من لحظات زمنية الرماد؟

حتى أن تجربته مع المرأة وقدرته على تأريخ جسدها ما هي الا نزوعات جنسية شهوانية متعثرة عاطفياً متألقة فنياً بمسار فكري غيري القيمة ومتلاحقة الأهداف لتثير مستوى التذوق الفني لديه، وهو يصفع المتلقي كثيراً وهذا ليس بهام، فالأهم عنده أن تغرد اللوحة كما يشاء هو، لكن عشق بهرام لرمادية اللوحة عبر زمنية مغبرة هل تمنحه مصداقية خاصة عبر تجربة جد متميزة أم أن ذلك تورطه في البحث عن نتائج فنية جمالية ضمن تفصيلات مطروحة، كما ان الرمادي عند بهرام يورطك في التداخل بأصوات تخرج من داخل العمل بوصفها تشكل خصوصية في تعدد وجهات النظر بما فيها فقدان السيطرة على خلق قيم تشكيلية بغلبة الصوت الواحد وهذا ما يجعله ينجح كثيراً في اقناع المتلقي بالحالة التي ينقلها بعنف في أكثر الأحيان وقد يفشل في أحايين ضيقة خاصة في اقناع المتلقي وهو يفقد السيطرة على الأعصاب وهو منهمك في هدم اللوحة وبنائها من جديد . فالقيمة الفنية لعمله من حيث البناء هو استئثار الشكل الغنائي بخصوصية ثقافية تنتمي الى الشمال المصادر والمنهمك بدوره بأوجاعه حتى الرمق . فالمرجعية اللونية للوحته متعلق على نحو كبير بالقيمة الفنية لهذه اللوحة فمساحة المتلقي داخل العمل في هذه الحالة تكبر، وتكبر الى درجة تحس بوجود عقد ما بين المتلقي والمنتج لوحدة المرجعية من جهة وسيطرة الرماد من جهة ثانية.

كما أن بهرام بارع في خلق الواقع الافتراضي بأفق التحولات الثقافية المنطلقة من وعي الانسان بحركة الأثير في اللوحة... حينئذ يتراءى لنا معجزة في صنع طيف لا يحل لنا أن نسيئ الظن به ..فيظهر بمشهد بصري حي يعجز العقل بقبول صرخاته والتسليم بواقعيته ..وعندما يسترد المتلقي يقظته يظن للوهلة الاولى انه قادم من زمن غابر، أو انه غبر بألوان وكأنه خرج تواً من اللوحة، تلك اللوحة التي تستنطقه، وتجرده من الجسد، نتركه ينزلق الى الروح بانسيابية، لكن عشق بهرام لرمادية اللوحة عبر زمنية مغبرة هل تمنحه مصداقية خاصة عبر تجربة جد متميزة أم أن ذلك تورطه في البحث عن نتائج فنية جمالية ضمن تفصيلات مطروحة على ضوء منهج متحرك فكرياً وجدلياً.

أعود وأتساءل هل ثمة قرابة قوية بين بهرام والرماد، لدرجة نعيد ونكرر هذا التياؤل بصيغة أخرى هل خلق بهرام من الرماد حتى يسيطر عليه كل هذه السيطرة، هل هو مجبول به، فيكاد يتحول إلى لغته في تعاطيه مع الحياة بشقه الفني، الجمالي.

نعم ثمة قرابة بينهما تمتد في/إلى عقود من زمن يغلب عليه سجع ثقيل يعتز به كثيراً، ولا يكتفي بذلك، بل يوصله إلى قصص مقتبسة من إشتغاله في تفعيل التجريب، وتحديه في إدارة الظهر لأحد أهم شخوصه الفنية.

فالمسألة عنده قد تعود إلى فكرة واحدة وهي: لماذا لا نجمع أوراقنا التي سقطت في الخريف الفائت، ولماذا لا نغمسها بالرماد، حتى نتحرك بإتجاه الخلق والإبداع، بإتجاه الإنتقال إلى تحقيق وظيفة قيمية جمالية إلى جانب النهوض بالتقنيات التي تساعد بهرام في صياغة سردياته الرمادية، وبالأساليب التي يؤول عليها في  تشكيل خطابه الذي لا ينحسر في حدود الممكن فقط، بل يكاد يصبح علامة لإندفاعاته التغييرية الموسومة بعوامل تحاكي سعيه لتدوير حركية علاقاته مع الرماد الذي لا ينتهي بحثه مهما فرض من ملامح تجربته.

قد لا أختلف مع بهرام في إشاراته وبحثه الدؤوب عن المفهوم العام للتجريب، فجل أعماله تحيلنا إلى أعمال أخرى، وهذه ميزة أعماله، وقد يكون ذلك من أهم ميزاته، ولهذا يبدأ التجريب عنده من عمله الأول، ولا ينتهي في عمله الأخير، التجريب المتكىء على الرماد حيث يستمر في خلق خيباتنا، وإحباطاتنا، بل يستوحي منها مشروعه المتسرب إلى هذه الزمنية الرمادية، والمنخرط بترسخ معلن في تبخر الأحلام، وموت الأفق، بالإعتماد على مرجعية تخيلية يعاد تشكيلها بخلق عوالم مصغرة هي جرأته في محاكاة العالم الأكبر بكل تحولاتها، وتجلياتها.

وهنا يصل بهرام إلى التماهي في مباغتاته الكثيرة والجميلة في الوقت نفسه، تلك المباغتات التي تعني أنه بالإمكان تجريب المزيد من المستويات بما فيها تكسير خط الزمن، والرمادي على نحو أخص، ولهذا دلالاته غير المباشرة في الإشارة إلى سعيه نحو حضور متصاعد مع التأثير المتزايد ضمن قاعدة الحركة الدافعة لكل التغيرات التي قد تطرأ على مكوناتها بدءاً من معادلها الإبداعي المقترن بعوامل الصعود ووصولاً  إلى عوامل بدء زمنها، فبهرام يغرق في البحث مما يجعله يتخطى الأساليب التقليدية بكل إشكالياتها بمنحه المزيد من العمق لعمله وذلك عبر توظيف المعاش، وأقصد الحاضر لبلورة اللحظة، بإلغاء حركة الزمن الحقيقي  والإستعاضة بها الحركة في المكان، وما عمله عن فاجعة الطفل الكردي السوري آلان إلا إحتجاجاً على شروط الضرورة وبالعودة إلى لغة مضادة للغة الأيديولوجية السائدة يسهم بهرام ودون أن ينفصل عن الموضوع كمعطى قيمي في إيجاد أفق أوسع للتغلغل في آليات تكريس القراءة الإيجابية لعمل يؤمن بأن القيم الإنسانية  هي التي تخدم المسألة الجمالية بفعلها الفاعل واليقظ، حتى كإختيار أنموذجه المقترح من ذاته.

فالطفل الفاجعة آلان والذي استغنى عن الحياة، وعن البحر مكتفياً بقطرات رمل، تاركاً اياهما في زوبعته الغريبة حيث التعانق  مع الأورانج في جره لهامش يتزحزح في كل الجهات، هل سيتزحزح بهرام مع هذا الهامش، أم أنه سينزلق نحو النزاع بين الماء كسيرة ذاتية لوطن، كل ملامحه دوائر إستحالات لا ظل لها بل نبوءة يسوغ عليها إغتراب، لا يبحث عن الإثبات، بل يتخذ منه بهرام سبيلاً إلى الخلاص حين يسعى وراء قضايا مازالت تحمل الرنين المقدس، هل سينزلق بهرام دون غيره من المبدعين حين يخلق الجمال من الوجع وإن بذائقة فاترة، فعمله هي سيرة وطن بملامح رمادية أيضاً، وبإتجاه سمات غير تقليدية، حدوده الرب يضع يده على خده، ونحن العباد لا حول ولا قوة لنا، فكل مفاهيم الخنوع لا تكسر جمود الروح، فبهرام هنا يلتقط الأنغام المتنافرة، والمتداخلة لتحولات الزمن الجديد القادم من الرماد، التحولات التي لا بد من تفاعلها مع علاقات الإرسال والإستقبال، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل وبعيداً عن الأفق الخاص لبهرام على أنه في هذا السياق الذي يبدأ من مركز دائرة كبيرة كل ألفاظها كتبت بالرماد، وفي الطرف الموازي لذلك يزيل بهرام الحاجز الرسمي بين المنطوق والمرسوم، وقد لا نطيق هذه الصدمة في الفن، ولكن كونه بذلك يطهر الرماد ويجعله مقتحماً لكل المعطيات التي قد توحي به عمله هذا، كان لابد لنا، من إستعاب تلك الصدمة وإن بآليات تسهم في كسر كل تلك الحواجز التي رسمتها موجات بهرام.

وكذلك يبوح لنا، وبإلحاح لا يقتصر على الأبنية التكوينية بأن هكذا نوع من التجريب لا يحافظ على الدلالة المركزية في هجاء كيان قائم بذاته، بل يحرره وبوعي متمرس بقبول الإختلاف ولهذا يحتفل بقبح الحياة، وإن بمعطيات يجعلك تهجو الذات أيضاً، وربما أراد بهرام أن يخبرنا ما قاله كونراد: (بأن مهمته أن يجعلنا أن نرى)، فهل رأينا وجعنا بما فيه تمزقات إنسانية يغلب عليها أخلاقيات تحتمي بحواجز هي حصيلة خطابات متخشبة ساقها إلينا عن قصد أو دون قصد ذلك الخاضع لمنتوج غير قابل للتوالد، ولا يكلف نفسه أي عناء في تشغيل وعي قادر على إستكشاف مناطق غير مأهولة بنا.

لا يكاد بهرام يتشبث بتلك الطريقة في التعبير الفني القائم على إدراك أبعاد سوسيولوجية لشكله الفني حيث يتحول الجزء الغائب إلى أهم جزء لديه تقارب إستحضاره لثيمات تتقفى بالوقوف عند لحظات البحث عن حزمة إمكانات قد تكون التماس مع الآخر أهمها.

شذرات من سيرته:

صرخته الأولى كانت في قرية ديرون التابعة لتربة سيبيي الواقعة بين القامشلي والديريك، كان ذلك في عام 1952، بقي هذا المكان مخزونه الذي منه ينهل شلالاته، بعد حصوله على الثانوية العامة توجه إلى العراق، بداية إلى السليمانية ثم إلى بغداد للدراسة في أكاديميتها للفنون الجميلة، ولكن بعد عام واحد تقريباً اضطر إلى الخروج من بغداد، ثم إلى براغ في تشيك، ثم إلى برلين، وإلى مونستر ليستقر فيها ربما إلى الآن، كان ذلك في عام 1974، حيث أكمل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة بدوسلدوف، وعلى مدار نصف قرن تقريباً استطاع أن يحرز لنفسه مساحة تليق بمسيرته، فوقف في صف واحد مع كبار الفنانين الألمان، تأثر بهم وأثر فيهم، واستطاع أن يحظى بتقدير نقاد الفن والجمهور ودور العرض والمتاحف، يكاد لم يترك بقعة لم يعرض فيها وبقوة (المانيا، المكسيك، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، سورية، الإمارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، كردستان العراق، مجر، لبنان، البحرين، القطر، ... إلخ)، يعرض أعماله في كبرى الغاليريات العالمية، وتقتنيها العديد من صالات العرض والمتاحف المختلفة.