بين المرجع والتخييل: أسئلة السيرة الذاتية على بساط البحث الأكاديمي

قارئ 'السيرة الذاتية: قضايا وإشكالات' للناقد المغربي عبداللطيف الوراري يمكنه أن يتبين الطابع الإشكالي للكتاب وهو يتتبع تطور جنس السيرة الذاتية في حقل النظرية.
عبدالعظيم الحفيظي
تطوان

لم يعرف التفكير النقدي في السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث استقلالا بذاته وموضوعه في وعي النقاد العرب المعاصرين، بل بقي أسير رؤى براغماتية قيدت مجالاته وحدود اشتغاله، فعيدا عن كون الأنا والحديث عن الذات غير منسجمين مع الثقافة العربية، فإن حدود هذا التفكير في السيرة الذاتية راجع إلى كون هذا الجنس الأدبي شكل "طابو" ثقافيا واجتماعيا ساهم في إحجام الأقلام العربية عن كتابة السيرة الذاتية أو ما يدور في فلكها من كتابات ذاتية (يوميات، رسائل، مذكرات، وثائق..)، وهو ما انعكس سلبا على نشاط الحركة النقدية.

إلا أن الذات المفكرة والمتشظية وجدت لنفسها طريقا للبوح، وهكذا انخرطت في كتابة سيرة ذاتية متجددة تتسم بكونها مقطعية وشذرية، تتخللها فراغات وبياضات وفجوات صمت تتطلب جهدا مرهقا لتأويلها وفك شفراتها.

وقد فرض هذا التحول بروز تحول نقدي يتحرر من النظرة التقليدية للسيرة الذاتية ويبني لها أساسا إبستيمولوجيا، خاصة مع سقوط الجدران الفاصلة بين الأجناس والألوان الأدبية.

من هذا المنطلق، نظمت فرقة البلاغة وتحليل الخطاب بتعاون مع مختبر المجتمع والتواصل وتحليل الخطاب يوما دراسيا في موضوع "السيرة الذاتية: قضايا وإشكالات"، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية تطوان، يوم الخميس 7 مارس/آذار 2024، بمشاركة مجموعة من الأساتذة والطلبة الباحثين، وذلك احتفاء بصدور الكتاب النقدي "السيرة الذاتية: النوع وأسئلة الكتابة" للناقد المغربي عبداللطيف الوراري، الذي وصفه الدكتور محمد مشبال في كلمته الافتتاحية بأنه كتاب جامع للتأصيل النظري لجنس السيرة الأدبية، يغني المكتبة العربية ويعيد التقدير للسيرة الأدبية بعد ما عانى هذا الجنس من تهميش في الوسطين النقدي والأكاديمي، كما أكد أن المنجز يفتح آفاقا واعدة للبحث فيه من منظورات متعددة ومختلفة، بما فيها التداولية وتحليل الخطاب والبلاغة.

وقد توالت المدخلات التي تحلل إشكالات الكتاب وقضاياه المعرفية والمنهجية، وتنوعت حسب اهتمامات ومجالات بحث المتدخلين من الأساتذة الباحثين. ركز د. محمد مشبال، أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بكلية آداب تطوان، على الجانب البلاغي في السيرة الذاتية، فهي - في نظره- تقوم على استراتيجية التوتر بين الاستبطان الذاتي والنفسي، وما بين الإقناع والمرافعة والدفاع عن الذات، فالكاتب السارد يعرف بذاته، ويكشف هويته، ويستبطن نفسه ليتعرف على هذه الهوية، ويفهم ذاته من خلال الخطاب، وإلى جانب هذا الاستنباط والاعتراف، يتحكم بعد آخر وهو البعد الإقناعي والحجاجي.

وتطرق د. عبدالفضيل ادراوي، أستاذ الأدب القديم بالكلية، إلى مسألة تأصيل السيرة الذاتية في التراث العربي الإسلامي، متسائلا عن وجود السيرة الذاتية في تراثنا، أم يمكن اعتبارها فقط كتابات عن الذات، نظرا إلى أن الثقافة العربية والإسلامية تعتمد على مفهوم القبيلة والأمة والجماعة الذي تذوب فيه الفردانية، عدا عن كون الحديث عن الأنا هو في الموروث الإسلامي ضربا من الغرور.

كما تناول مسألة الحقيقة والتوثيق في مظانّ السيرة الأدبية، واعتبر أن هذه الأخيرة هي صياغة للتاريخ والأحداث، أي هي قراءة للماضي بما تحتمله من إعادة صياغة وتصرف، حيث ينتقل السارد فيها من دوامة حياته إلى ما يرى أنه نموذج يمكن الاعتماد عليه لمقاربة قضية من قضايا المجتمع، الشيء الذي يفرض طرح العديد من الأسئلة حول مسألة الانتقائية، والمرجع الحقيقي وتلبسه بمراجع أخرى وهمية، واللامقول أو المسكوت عنه الذي لا يقل أهمية – حسب رأيه- عن المذكور وفق السياق المتحكم سياسيا وثقافيا واجتماعيا. ولهذا تختلف الإجابة عن هذه الأسئلة بحسب اختلاف رؤى الذين تناولوا جنس السيرة الذاتية بالدرس والتحليل.

تأويل وإعادة بناء

ووقف الباحث ياسين الشعري في مداخلته على ثلاثة اتجاهات ميزت الخطاب النقدي لجنس السيرة الذاتية: الاتجاه الأول يرى أن السيرة الذاتية هي كتابة مرجعية ترتكز على تصوير حياة المؤلف وواقعه، وفق عقد ميثاق سيرذاتي مع القارئ، أساسه الحقيقة والصدق. ويؤكد الاتجاه الثاني ارتباط السيرة الذاتية بالواقع والمرجع، ولكن لا يمكن اعتبار الجنس الأدبي ناقلا للحقيقة فقط، لأن ادعاء المرجعية هو وهم يسيطر على السيرة الذاتية، كما نجده عند أصحاب نظرية ما بعد البنيوية التي ترى أن النفس متشظية منشطرة عاجزة عن نقل الحقيقة، بل إن اللغة الناقلة مشكوك فيها، وبالتالي فإن الإحالة على واقع خارج النص وهم. وما بين الاتجاهين المتقابلين، يوضح الباحث أن ثمة اتجاها ثالثا هو الاتجاه الذي يعتمد عليه كتاب عبداللطيف الوراري "السيرة الذاتية: النوع وأسئلة الكتابة"، بحيث إن السيرة الذاتية فن مرجعي وتخييلي الوقت نفسه، فهو مرجعي من حيث صلته بحياة المؤلف الذي يلتزم بسرد ما هو حقيقي، يخضع فيه لضوابط السرد السيرذاتي، ويلتزم فيه الصدق. وهو كذلك فن تخيُّلي من حيث التوسل بالكتابة والتخييل وما تقتضيه من الفنون وآليات السرد وتقنياته، ويكون الهدف منه هو خلق انطباع لدى القارئ بأن ما يقوله الكاتب طبيعي وصادق ومحتمل الوقوع، إلا أن الطريقة التي يقوله بها تنهض على التخييل وممكناته السردية.

وأمام جدلية الحقيقة والتخييل في السيرة الذاتية، يرى الباحث أن مؤلف السيرة - حسب ما يذهب إليه عبداللطيف الوراري- لا يسرد حياته وينقلها حرفيا، إنما يصنع منها حكيا، بما تفرضه الصناعة السردية وما تمليه من إكراهات مرتبطة بالشكل السردي، أي أن الكاتب يعيد تشييد حياته حتى تصبح طيعة للكتابة. كما أبرز عاملا آخر متمثلا في النسيان وقصور الذاكرة، فالكاتب غالبا ما ينسى حقيقةً ما من ماضيه ومن ذكرياته، فيستعين ويستنجد بالخيال لسد ثغرات الذاكرة وفجواتها وملء بياضاتها.

لهذا لا يمكن تصور السيرة الذاتية بمعزل عن التخييل، فهي تقع في الحدود البينية، وتبنى داخل الإحالة على كليهما معًا، أي أن السيرة تشتمل على تخيلات، إلا أنها تظل دائما فنا مرجعيا، ولكن لا يجب الاطمئنان إلى أن السيرة هي حياة مكررة يتم استعادتها كما وقعت، بل نحن أمام حياة أخرى يعاد تأويلها ثانية ويجري استنطاق تواريخها مرة أخرى. فالأنا السيرذاتي لن يعبر عن نفسه إلا باعتباره بناء نصيا لا علاقة له إلا بما يحدث في النص. ومن ثم، نستنتج أن السيرة الذاتية لا تنهض على استعادة التاريخية حرفيا وتتقيد بما وقع، أو تخضع لحتمية الواقع والحقيقة، إنما تعمل على إعادة بنائها وابتكارها من منطلق ذاتي محض، فالحقيقة في السيرة الذاتية بناء ذاتي، والمؤلف يعتقد بأن ما يقوله حقيقي وصادق ونسخة من الواقع، غير أنها نسخة ليست طبق الأصل، إذ إن استناد الذات إلى الذاكرة لاسترجاع الأحداث وحكيها، يجعل السيرة الذاتية فنا أدبيا يستنجد بالخيال لإعادة كتابة الحقيقة، وإعادة تشييد هوية الذات.

بعد تطور كتابة السيرة الذاتية وتحررها من إكراهات المرجعية التقليدية، أخذت تنزاح إلى فاعلية التخييل أكثر، بسبب ما عرفته الأجناس الأدبية من تماس وتداخل بينها. وفي هذا السياق، أثار بعض المتدخلين النقاش فيما يخص العلاقة بين السيرة الذاتية والشعر، التي حللها الناقد عبداللطيف الواري وجعلها أحد إشكالات كتابه الأساسية. فالمكون السيرذاتي أصبح يحتل مكانة جلية وواضحة في الشعر الحديث والمعاصر، وتجاوز الإخبار والتوثيق إلى الإبداع والبوح بخفايا الذات ومكنوناتها. غير أن توظيف هذا المكون في الشعر وما يقتضيه من خرق للقواعد التقليدية للسيرة الذاتية مثل الميثاق السيرذاتي والواقعية وتسلسل الأحداث، كان يفرض طرح أسئلة متعلقة بمدى إمكانية الائتلاف بين السيرة الذاتية والشعر، وبأي شكل وأي معنى يمكن تحقيق هذا الائتلاف؟ وإلى أي حد يحتمل الشعر الاشتغال بما هو "أوتوبيوغرافي"؟ وكيف يتجسد داخل القصيدة؟ وكيف يمكن كتابة الحياة نثرا وكتابتها شعرا؟

اقترحت الباحثة ثورية أسعدي في البدء قراءة سيميولوجية بليغة لغلاف الكتاب، تتمحور حول العلاقة المتصلة بين الذات والكتابة والعالم، وهو ما يشي بموضوعه الإشكالي، ثم قدمت بعض الإجابات التي يثيرها موضع العلاقة بين السيرة الذاتية في الشعر، ورأت أن هذه العلاقة موجوده في شعرنا القديم (عنترة بن شداد، طرفة، امرؤ القيس، المتنبي..)، وهي لا تنبني على الأنا المرجعي، بل هو أنا ذاتي تخييلي مجازي لا يكتفي بتوثيق الواقع بقدر ما يسعى إلى تجاوزه واستشراف الممكن والمحتمل والمتخيل، ليعيد الأنا تشكيل حياته وسيرتها من جديد. فالذات الشاعرة تحاول تحويل الذاكرة إلى فن عبر توسلها بالمخيلة، فالتحام الذاكرة بالمخيلة من خلال توظيف العنصر السيرذاتي يمنح أبعادا جديدة لرسم الصور الشعرية باعتماد المجاز والرمز والأسطورة والانزياح. كما تطرقت الباحثة إلهام زهدي إلى حضور المكون السيرذاتي في المنجز الشعري النسائي بالمغرب، وأشارت إلى أن هذا الأخير يزخر بنماذج يتعالى فيها صوت ذات الأنثى ليكتب سيرة انكساراتها وخيباتها من جهة، ويستشرف سيرة الممكن والمحتمل من أحلامها ورؤاها من جهة أخرى، عاكسا خصوصية الأنثى وبصمتها في الشعر السيرذاتي. وقد استدلّت على ذلك بنماذج من شعر ثريا ماجدولين، واستخلصت أن الأنا في سيرتها الشعرية كان يتغير على الدوام، وكتبتها بلغة شعرية استطاعت أن تشخص عبورها في الزمن من عذاباتها ومعاناتها نحو الخلاص والحرية والاستشفاء بالكتابة والحياة.

مشروع أكاديمي

تابع أطوار اللقاء حضور نوعي يتألف من أساتذة ومهتمين وطلبة يتابعون دراساتهم العليا في سلكي الماستر والدكتوراه، وعقّب على مداخلات الأساتذة الباحثين بأسئلته واستفساراته المفيدة.

وقد اختتم اليوم الدراسي بكلمة عبداللطيف الوراري، الشاعر وأستاذ الأدب الحديث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، الذي أجاب من خلالها عن بعض إشكالات السيرة الذاتية وقضاياها الأساسية التي طرحها في كتابه النقدي (تأصيل الجنس، القواعد الأساسية، المرجع، التخييل الذاتي، الصدق، الحقيقة، السيرة الذاتية في الشعر، إلخ). كما تحدث عن شغفه المبكر بالسيرة الذاتية، منذ أن شاهد حلقات "دفاتر الأيام" الذي كان يبثُّه التلفزيون المغربي في ثمانينات القرن الماضي، ومنذ أن عثر على كتاب طه حسين "الأيام" وظلّ قريبا لفترة طويلة، وقال "كنت أشعر كأنّ طه حسين، شاخصا على غلاف الكاتب بنظارته قاتمة السواد، يخاطبني ويهمس في أذني بعطف أبوي، ويضيء لي درب أحلامي في سيرة حياة شاقّة وصعبة"، وذلك قبل أن ينتقل هذا الشغف إلى انشغال أكاديمي ضمن مشروعه البحثي في السيرة الذاتية نثرا وشعرا: "ترجمة النفس: السيرة الذاتية عند العرب" 2019، و"سير الشعراء: من بحث المعنى إلى ابتكار الهويّة" 2020، و"السيرة الذاتية: النوع وأسئلة الكتابة" 2023.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الكتاب النقدي المحتفى به صدر عن منشورات سليكي أخوين بطنجة 2023، وهو ينتظم في بابين كبيرين: في الأول ناقش تأصيل السيرة الذاتية والبحث في نشأتها ومقولاتها وأنواعها، وفي الباب الثاني عمل على تحليل مجموعة من الأعمال السيرذاتية التي تنوعت بين السرد والشعر لأدباء عرب وأجانب (مثل رولان بارث، ميشيل ليريس، مو يان، عبدالمجيد بن جلون، إيمان مرسال، رشيد يحياوي، عبدالإله بن عرفة، عبدالمنعم رمضان، محمد علي الرباوي، إلخ). ويمكن للقارئ أن يتبين الطابع الإشكالي للكتاب وهو يتتبع تطور جنس السيرة الذاتية في حقل النظرية، ويحلل كتاباتها النصية المتنوعة، سواء في علاقتها بالأنواع القريبة أو المجاورة لها (السيرة، الرواية، التاريخ، الأرشيف الشخصي، التخييل الذاتي..)، أو في عبورها إلى الخطاب الشعري.