تحركات أميركية في ظروف خطرة

غياب السيطرة وفقدان الرقابة على النظام العالمي يغريان بالدفع باتجاه العنف وإشعال صراعات وحروب وأزمات جديدة.

الحقيقة أن التصرفات الأميركية المتكررة في الآونة الأخيرة بشأن تايوان لا يمكن رؤيتها بمعزل عن بعضها البعض، ولا يمكن وصفها بالعفوية، بل إن التوصيف المفاهيمي الأدق لها أنها سلوك إستفزازي يصب الزيت على نار التوترات الدولية المتفاقمة، ما يطرح تساؤلات جدية حول نوايا واشنطن وأهدافها من وراء هذه الممارسات.

بالأمس القريب، أعتقد الكثيرون أن زيارة نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب الأميركي لتايوان أوائل شهر أغسطس الماضي، قد جاءت من دون تنسيق أو ضوء أخضر من الرئيس جو بايدن، وذهب البعض في تفنيد مبررات الزيارة إلى حد إعتبارها تصرفاً شخصياً من كبيرة المشرعين الديمقراطيين في مجلس النواب الأميركي، لتنتزع لنفسها مكسباً سياسياً نوعياً قبل إنتخابات التجديد النصفي للكونغرس باعتبارها أعلى مسؤول أميركي يزور الجزيرة منذ 25 عاماً، ولكن توالي زيارات أعضاء الكونغرس الأميركي عقب تلك الزيارة، بأيام قلائل يستحق التوقف عنده ملياً، لاسيما أن الأمر لم يقتصر على تلك الزيارات بل شمل مرور قطع بحرية أميركية عبر مضيق تايوان، في خطوة قوبلت بغضب صيني، بينما وصفها الأسطول السابع الأميركي بأنها تأكيد على إلتزام أميركي بحرية المرور في المضيق!

هذه التحركات الأميركية، التي لا يشك أي مراقب في كونها محسوبة بدقة شديدة، لا تصب بالتأكيد في مصلحة الأمن والإستقرار العالميين، لأن من الصعب أن تتكرر هذه الممارسات وتنتظر واشنطن الإستجابة الصينية نفسها، وهي ضبط النفس والتعاطي الحذر مع الموقف؛ فالصين ليست كما كانت قبل عقدين أو حتى عقد واحد من الزمن، بل راكمت ـ ولا تزال، عناصر القوة الشاملة، بشكل تدركه الولايات المتحدة جيداً، وبالتالي من الصعب الرهان على الصبر الإستراتيجي الصيني في إدارة مثل هذه الأزمات، لاسيما أن هناك التهديدات الصينية المتكررة لم تعد تؤتي أكلها مع الإصرار الأميركي على تصعيد الضغوط على بكين، والتشويش على صورتها النمطية وسمعتها كقوة دولية صاعدة.

هناك فارق واضح بين الضغوط المحسوبة التي كانت تمارسها الإدارات الأميركية السابقة، بما فيها إدارة ترامب، والمجازفات غير المحسوبة التي تقوم بها الولايات المتحدة في عهد بايدن، وباتت هناك قناعة دولية متنامية بأن السياسة الخارجية الأميركية باتت تتسم بقدر كبير من الإندفاع والتهور بشكل ربما يفوق ما كان يؤخذ عليها خلال عهد ترامب، والمثال على ذلك في الدعم العسكري المتواصل لأوكرانيا بموازاة التضحية بمصالح الشعوب الأوروبية، التي تواجه أسوأ أزمة طاقة في العصر الحديث، وكذلك في ممارسة سياسة حافة الهاوية بشكل مبالغ فيه في الملف التايواني رغم كل ما يحيط بهذا الملف من حساسيات وسوء توقيت وبيئة دولية لا يمكنها تحمل أي حرب أخرى من العيار الثقيل!

معلوم أن أحد بعض الدوائر الأميركية تسعى إلى تسريع وتيرة المواجهة الإستراتيجية مع الصين، أو دفعها إلى التراجع على الأقل عن دعم روسيا، وإستغلال رغبة الصين في مواصلة مسيرتها التنموية من دون التورط في فخ الإستدراج الذي يحاك لها، فالحقائق تقول إن تأجيل المواجهة مع الصين يصب في مصلحة الأخيرة ويضعف فرص الولايات المتحدة في مواصلة دورها كقوة دولية مهيمنة، وبالتالي فإن زيارة بيلوسي وغيرها من التحركات ليست سوى مقدمات لإستفزاز التنين الصيني للتخلي عن حذره والتورط في صراع عسكري يستنزف قواه المتنامية مبكراً، وهذا ما يفسر إستمرار هذه التحركات خلال المدى المنظور.

من الواضح أنه لا يمكن القول بأن إدارة الرئيس بايدن لا تتفهم جيداً الظروف الدولية الراهنة ومدى حساسيتها، فهو من دشن ولايته الرئاسية بالإعلان عن عودة أميركا، ولكن يبدو أن لديه تفسير ذاتي مختلف لهذه العودة، حيث تعود الولايات المتحدة بالفعل ولكن لإثارة الأزمات والدفع باتجاه إشعال الحروب والصراعات لا تهدئتها. في مقابل ذلك، نجحت الصين حتى الآن في إدارة أزمة زيارة بيلوسي وغيرها لتايوان، وأمسكت بزمام المبادرة ولم تندفع وراء الإستفزازات، وهذا أمر بديهي في الثقافة الصينية، وهذه الحكمة الكونفوشيوسية جنبت العالم أزمة أخطر وأشد تأثيراً وعمقاً من الأزمة الأوكرانية.

ما يجب أن تنتبه له الولايات المتحدة جيداً أنها تخسر بشكل سريع رصيدها العالمي، والأمر هنا لم يعد يتعلق بكونها قوة مسؤولة تتصرف في إطار القانون والمبادئ الدولية، بل وتصنف ـ ولو نظرياً ـ كقوة ضامنة لهذا القانون وتلك المبادىء، ولكن بإنزلاقها تدريجياً إلى موقع يجعل منها في نظر الكثيرين، مصدر تهديد للأمن والسلم الدوليين، وهذا الأمر يسهم بل يعجل بنشر الفوضى والإضطرابات في مختلف أرجاء العالم، ولعل ما نراه في دول ومناطق شتى من تفاقم للصراعات والأزمات يدق أجراس الخطر من خطورة المرحلة المقبلة في العلاقات الدولية، وينبه الجميع إلى أن التهديدات المحتملة لم تعد تقتصر على المصادر التقليدية وغير التقليدية، التي يدركها غالبية المتخصصين والمعنيين، بل باتت تطال غياب السيطرة وفقدان الرقابة على النظام العالمي بما يغري الكثيرين حول العالم بالدفع باتجاه العنف وإشعال صراعات وحروب وأزمات جديدة.