جمالية قسوة الشر التي كشفتني قاتلا في 'عمر الغريب'

مع سيرورة القراءة المندفعة بجنون الشغف اللامحدود كنت ألتهم العشرات من صفحات رواية سلمى مختار أمانة الله المشحونة برغبة التحدي والسخرية من حكم قيمة متسرع كاد يحرمني من لذة ومتعة رواية محكمة الصنعة والبناء الفني.

1 - ندم التلقي

وأنا أتصفح رواية "عمر الغريب" للكاتبة  سلمى مختار أمانة الله، كنت سأصاب بنوع من الندم القرائي، لو أنني لم أتحمل مشقة القراءة، خاصة وأن الصفحات الأولى من الرواية كانت مملة ومرهقة وغير محفزة بما يكفي. لم يكن المشكل في اللغة الجميلة، ولا في الشكل الفني، بل بسبب قراءتي لأعمال كثيرة جعلت تيمة " اللقيط" موضوعا لها. وكان آخرها الرواية الرائعة "نوميديا" لطارق بكاري. لكن رغم أن رغبة القراءة كادت أن تخبو تماما، فقد كلفت نفسي جهدا فوق طاقتها في الصبر على تكرار تيمة اللقيط. والتركيز على تقفي جمالية سحر السرد التي كانت لها كلمتها الحاسمة في الحوار السري بيني وبين الرواية. وهذه ليست المرة الأولى التي أجد فيها نفسي مورطا في مثل هذا الصراع بين العقل المنطقي المتسرع لركوب موجة الخسارة المولدة غالبا للندم الفكري والجمالي، وبين الحدس الجمالي لما تخبئه علامات أثر العمل الإبداعي في أعماقي من فرحة عارمة آتية لا ريب فيها، ونادرا ما كان يُخيب الحدس ظني في العمل المقروء. وما عليّ إلا أن أتماسك، وأواصل القراءة، وأنا واع بأنني  في موقف تفاعلي خلاق، حيث لا يمكنني التوقف،أوالتخلي عن القراءة، وما سينتج عن ذلك من خسران مبين.

ومع سيرورة القراءة المندفعة بجنون الشغف اللامحدود كنت ألتهم العشرات من الصفحات المشحونة برغبة التحدي والسخرية من حكم قيمة متسرع كاد يحرمني من لذة ومتعة رواية محكمة الصنعة والبناء الفني. ومسنودة بخبرة وتجربة في الشكل الروائي زادها عمقا وبهاء وسحرا أساسها المعرفي الفكري المشكل للرؤى، والمنظور السردي، والمنتج للخصائص المعنوية والدلالية والفكرية. ومع كل صفحة يسحبني سحر السرد، محاولا بوقاحة فنية متهورة الإجهاز على المسافة النقدية التي تبعدني عن التماهي، وتمنحني حق الاختلاف، الذي يخولني إنتاج المعنى وتوليد الدلالات.

هذا ماجعلني أستنفر كل جوارحي وحواسي في يقظة تامة، وأنا أدرك بوعي نقدي أن عودتي الى شاطئ  الذات، بعد كل قراءة، لا تشبه إطلاقا ما كنت عليه. و في هذا الاغتناء والإثراء المتبادل بيني وبين النص، و تبعا لهذا التفاعل المشبع بجدل الصراع عرفت بأن الرواية تقصدني وتعنيني، ولم يعد بإمكاني توهمالقدرة على الاختيار، بما يشبه الهروب أو  الانسحاب. وبكلمة واضحة لا تحتمل أي غموض أو تردد أو التباس في أنني صرت شريكا بشكل أو بآخر في الجريمة التي طالت الشخصية الرئيسية في الرواية. الشخصية الممسوسة والمسكونة بأشباح وأطياف قسوة الشر التي شكلت "عمر الغريب" ، عبر تاريخه الشخصي، المسيج اجتماعيا وثقافيا، بقواعد الضبط الأخلاقي الديني. ومنحته وجها وعمقا في غاية البؤس والتعاسة الحقيرة المقرفة، والباعثة على الغثيان. أمام هذا الموقف الصعب يتشكل سؤال التهمة في وجهي، وهو يسد كل ممرات البراءة، في التعاطف الكاذب، و الاكتفاء بمسحة الحزن والشفقة المؤقتة العابرة، وذرف دموع الخوف والرضا، على أنني نجوت من مثل هذه النهاية المأساوية التي عرفتها حياة الدكتور، الطفل المحروم، المنبوذ، غير المرغوب فيه، المرمي من الوجود فيعراء العدم ، كشيء نجس و مدنس ينبغي التخلص منه، في أسرع وقت ممكن ،حماية للنظام الأخلاقي الرفيع المزعوم.

2 - سحر السرد

ليس سهلا أن يتخلص القارئ من رواية محكمة البناء الفني والجمالي، وهي ممسوسة بسحر السرد، كطابو تصيب عدواه كل من سولت له نفسه الدخول الى محرابها الجميل الساحر الأخاذ. الذي لا يكتفي بهدم المسافات، في دعوة مفعمة بإغراء  تمرير السائل المخصب بين عمق طيات النص وفاعلية القراءة. بل يتجرأ سحر السرد على نصب فخاخ الاستيعاب والاحتواء الرهيب للقارئ، بنوع من التماهي القاتل للمسافة النقدية. فجمالية القسوة التي تتلبس جسد الرواية، كشر محتوم لقدر، اجتماعي إنساني، لا مفر منه، تجعل القارئ معنيا كشريك،بتتبع محنة الترحال الشاق لعمرالغريب،الطفل المجهول النسب والأصل. و قد جد نفسه متروكا، منبوذا، مرميا في العراء منفاه الأقرب الى العدم. هكذا  في لحظة صغيرة في الزمن، كومض البرق، قررت اللعنة البشرية،الحريصة على مكارم الاخلاق والشرف الرفيع، مصيره، دون أن يكون له فيه هذاأدنى اختيار،في اعتباره طفلا غير مرغوب فيه، خلفته اللذة المشؤومة المحرمة. وضعه القدر البشري على عتبات المسجد المقدسة،المزاد السري والعلني لنفاق خير أمة أخرجت للناس تأمر بالوصم السيء لمن لم يكن له ذنب ولا اختيار في عيش ويلات الخطيئة على حافة جدل اللذة والألم للجنس المحرم الذي لم تحلله( من الحلال) شهادة عدلان.قُذف به ظلما في فوهة بركان الحياة الذي يحرقه باستمرار، دون شفقة ولا رحمة تتبادله الحمم جسدا وروحا. ولا تقبل منه طهارة من رجس الحرامالذي لوثه الى الأبد. فلوثة اللعنة المقدسة في اعتباره طفل الحرام،وشمته بالحرمان و النبذ والاقصاء الذي يسري في الدم غير الشرعي، الممزوج بعدوى ولعنة الفضيحة، وبشاعة انتهاك المحظور الجليل الأعظم. والمس بمقدس النظام الأخلاقي للجماعة في النكاح والتسري.

سحر السرد يلعب لعبته الرهيبة، وهو يضعنا أمام مأساة طفل لقيط متخلى عنه، بطريقة بشعة لا إنسانية. كان فيها لتفاهة الشر الأخلاقي وراء محنته المؤلمة النصيب الأكبر، في الزج بالطفل في محرقة الحياة. من محنة مروعة لأخرى، كانت تتقاذفه الأقدار الملعونة، وهي تفتح في وجهه فوهات العذاب الأليم. فتشرّب في نفسيته الحقد والعدوانية والانتقام، وعشرات الاختلالات والاضطرابات التي مسخت شخصيته وسلخت قيمته الإنسانية، في كونه غير محبوب، وبالتالي غير موجود. وهذا يعني أنه مهدد في أي لحظة بالقتل المقنع بجريمة الانتحار الذاتي.

هكذا عاش تجربة آلام الحرمان وعذابات النبذ، كما عانى من ويلات الاغتصاب في محراب المسجد على يد الفقيه، أحد حراس الفضيلة ومكارم الاخلاق. فاستبطن في نفسيته العميقة، المفككة والممزقة، كالأشلاء المروعة، كل ألوان بشاعة القهرو الحرمان، والنبذ والهجر والاعتداء الوحشي البشع. ورأى بأم عينه وجسده الحي البريء، في بيت الله، كيف كان الفجر والله توأمان يشهدان جريمة الاغتصاب، التي بذرت في دواخله الواعية وغير الواعية العدوانية والسادية والحقد والكراهية. وكل مختلف أشكال التناقض الوجداني، وصور النبذ والعزل والاقصاء، التي حرمته من امتلاك هويته الذاتية وتاريخه الشخصي في الانتماء والوجود. وهدرت نرجسيته المجروحة، بمدية الضبط الشرعي الأخلاقي الزائف. كان ذلك واضحا في وضعه العلائقي مع عائلة السي علي التي احتضنته كواحد من أبنائها، وقد وجد في الجدة بعض صور الأم في الحنان والعطف والحماية. كما وجد في ابنهم محمد الأخ الذي لم يحلم به يوما ما. لكن ساديته الدفينة التي ولدتها في دواخله قسوة الشر جعلته عدوانيا، وهو يضطهد في كل صغيرة وكبيرة تعلق محمد به كأخ عزيز. والوضع العلائقي نفسه عاشه معه زوجته أحلام، الى حد زرع رعب كراهيته في أعماقها، وتنكرها لأبوته لجنينها في الرحم. مفضلة عقوبة الخيانة الزوجية، وما يرافقها من فضيحة أخلاقية، ضد أي ارتباط به من جديد. فقد كان يعامل محمد وأحلام بعجرفة اضطهادية مفعمة بسادية ذات ممسوخة، مشوهة، خربتها ثقافة الوصم السيء الذي وشمته به مكارم الاخلاق، في كونه ولد الحرام. الطفل المجهول، بدون أصل، والمقطوع من شجرة خبيثة ملعونة الى يوم الدين.

ومع جنون القراءة التي يدبرها بحكنة سحر السرد، نجد أنفسنا وجها لوجه أمام تفاهة الشر، النابعة من أعماقنا، في تمثلاتنا وتصوراتنا، و قيمنا الثقافية والاجتماعية، المتجذرة في معتقداتنا. قسوة الشر هذه معكوسة على مرآة جسد الرواية، الممعنة في فضحنا وتعريتنا، بشكل فضائحي لا يخلو من صنعة أدبية، أتقنت نسيج عنكبوت جمالية القسوة في وضع الأصبع على الجرح. ودون شفقة يمسكناالشكل الروائي بفنيته الأدبية الرائعة من الأعماق العطنة المتخلفة، التي تؤلمنا ونحن نتستر عليها بمسوغات دنيئة وبذيئة، وغير أخلاقية في حماية الشرف الرفيع، والنسب الأصيل. تنشر الرواية غسيلنا القذر، في الوقت الذي نعتقد فيه أن الأمر ليس أكثر من سيرة جثة غارقة في دماء وحل الخطيئة، جزاء بما اقترفته لذة الحرام، من فحش مشؤوم.هكذا كانت تخبئ المسارات والمحطات الرهيبة والمؤلمة التي مر منها وعاشها عمر الغريب، صدمة الرعب والذهول، في كوننا أصل ومصدر الجريمة التي هدرت قيمة الإنسان، في كونه بريء مما اقترفته اللذة المجنونة للوالدين المجهولين.

 جمالية قسوة الشر تتحايل علينا بفنية ساحرة وهي توهمنا على أننا مجرد قراء وشهود أحرار في الاعتراف بالعذابات والحمم الحارقة التي مزقت الانسان في أعماق الطفل اللقيط، و الشاب العنيف المتمترس وراء ذكاء تدبير الحال، بآليات الكذب والخداع. هذا هو القانون الأساس الذي نهض عليه الدكتور المشحون بالحقد والانتقام والعدوانية القهرية، التي فجرتها عقدة الحرمان و النقص والاضطهاد، المولد لعذابات عقدة الذنب والتأثيم. إنه المجهول غير المحبوب، و المتناثر الهوية،  والمتشظي الذات كالمزق النتنة البالية. هكذا مسخ قيمته الانسانية سر الولادة الحرام، كما أراد له النسق القيمي الثقافي الاجتماعي، أن يكون ويصير. ودمر الفقر والحرمان والكراهية ما تبقى من فتات كيانه المهدور.كمشروع وجودي أجهض قبل الأوان. فكان طبيعيا في محنة جهنم الفقدان هذه لحق الوجود التي وشمته بعذابات الهجر و النفي والاقصاء أن يتنكر، ويدير ظهره للجميع، مسلحا بحس انتقامي عدواني في قلب الطاولة تجاه ماضيه القريب والبعيد. بما في ذلك أسرة سي علي التي احتضنته وفتحت في وجهه سبل التعلم واعتلاء المكانة الرمزية والمادية الرفيعة التي جعلته دكتورا في الطب. وتحت وطأة عبء المظلومية، الحافرة في نفسيته العميقة، كان انتقاميا بامتياز كبير في علاقاته بالآخرين، خداعا وتدليسا وتهديدا واستغلالا، بصورة ساخرة، لما يخفيه الشرف الرفيع المزعوم، لذوي النسب الأصيل الشريف. كما حدث ذلك في علاقته بأم صديقه في كلية الطب.

ومع توالي محطات سيرة الدكتور تنفتح أمامنا مواقف ولحظات مرعبة ومؤلمة. كما تتناسل بناء عليها الكثير من الأسئلة حول التجربة الوجودية القاسية والرهيبة التي عاشها طفلا وشابا ورجلا، ثم أبا مقتولا بقسوة الشر الساكن في الأعماق، كاحتلال وحشي غريب. حرمه من حق الوجودي الإنساني، في عيش الحياة بأقل قدر ممكن من العقد والمكبوتات والدونية، والاضطرابات، المفعمة بالوسواس القهري، التي يمكن أن تواجه أي فرد في تاريخه الشخصي، دون أن تدمر هويته ، وتخرب نرجسيته العميقة التي تشكل نواته وحرمته الإنسانية.

ومع تعاقب محطات سيرته،في جدل جميل محكم الصنعة والبناء بين القصة والخطاب، نرافق سير الأحداث التي تتحكم في نسيجها المعقد جمالية قسوة الشر، معلنة أننا أمام رواية مذنبة. نتعرف فيها خطوة خطوة، عبر سيرورة القراءة، على الشر القاتل المخبأ في قيمنا وثقافتنا وانتظامنا الاجتماعي  الإنساني. وندرك بشاعة التمثلات والاحكام والمعايير الأخلاقية التي تمفصلت وتضافرت وتركبت في صورة رؤية للذات والأخر والعالم. عندها نصاب بصدمة الذهول المروع على أننا مجرد قتلة، قادنا فضول وشغف القراءة الى المقصلة. لأن كل ما يشكلنا في وجودنا القيمي الثقافي الاجتماعي والأخلاقي هو ما خلق عمر الغريب، وأطرنا الاجتماعية الثقافية هي التي نفخت في روحه لوثة الحرام والدنس والرجس الملعون، الى حد حرمانه من حق الوجود الإنساني.

وبالتالي صار الأمر واضحا أم حرقة السؤال الرهيب الذي رمى به الدكتور في وجوهنا" قتلني عمر". فمن هو عمر؟ وهل غيرنا كان، عمر الغريب، في هذه السيرورة الجهنمية للقصة والخطاب،التي ورطتنا فيها جمالية تلقي قسوة الشر الذي اجتافه و استبطنه الطفل/الدكتور في الأعماق، فحال بينه وبين حق الحياة؟

هكذا تتحول جمالية قسوة الشر في متعتها وسحرها السردي ونحن نتتبع سيرة اللقيط كإضاءات للظلال المعتمة التي تخفي آثار القاتل. تتحول الى نور ساطع يكشف حقيقتنا الزائفة على أننا لسنا مجرد شهود حقيقة أو زور، بقدر ما نتعرف على أن عمر الغريب الذي قتل الطفل اللقيط الذي صار دكتورا، هذا العمر الغريب الذي تلبس شخصيته وإنسانيته البريئة:  هو أنا، أنت ، نحن....

فهل نقوى عل الاعتراف بالجريمة التي كنا فيها قتلة أبا عن جد ولا نزال نأتي على حياة الكثير من هؤلاء الأبرياء باسم الشرف الرفيع ، والنسب الأصيل، والنظام الأخلاقي الكاذب لملة مكارم الأخلاق؟ لا لشيء ولا لذنب ارتكبوه، بل فقط نقدمهم كقرابين لوحش مقدس يوهمنا بالمناعة والحصانة والمكارم الأخلاقية، والشرف الذكوري  البئيس.

3 - عنف المقدس

الكثير من الأنظمة الأخلاقية، الاجتماعية الثقافية والدينية، تحتاج في قمعها وضمان سيطرتها وديمومتها الى قرابين بشرية. تحمي نفاقها القيمي والأخلاقي وسطوتها الاجتماعية السياسية، من خلال توسط مادي/العنف الصريح، أو رمزي/القانون في الضبط والقهر. الرواية انطلاقا من فنيتها الأدبية الرائعة، واعتمادا على جمالية قسوة الشر، تسائل نظام عنف المقدس. تعري خلفياته الرهيبة في التستر على الفضيحة والخطيئة الحقيقية، من خلال البحث فنيا في آلية اشتغال النظام الأخلاقي. الذي يكون همه الوحيد التغطية على هشاشة وعدم شرعية المكبوت والمقموع، باعتمادهآلية كبش الفداء، وتقديمه قربانا مروعا في وجه كل من سولت له نفسه انتهاك المحظور، والتجرُّؤ على الممنوع. أو التمرد على النظام الاجتماعي الأخلاقي المتحكم في الانسان والرغبة والجسد...

لذلك يلجأ الى الوصم السيء" اللقيط" خوفا من انفلات التحكم في العقول والقلوب والاجساد...

من هذه الزاوية في التحقيق والبحث عن القاتل تسائل الرواية المسكوت عنه والمقموع في النظام الاجتماعي الأخلاقي. تضع بين أيديا الملفات الملموسة التي شكلت سيرة المنبوذ الابن المجهول المسمى اللقيط. تنقلنا عبر المسارات والوضعيات الحارقة المؤلمة. تدفعنا لاكتشاف السؤال: من هو عمر الغريب؟ وقد منحتنا ما يكفي من المعطيات في البحث والتنقيب في المستنقعات الآسنة التي شكلت وبلورت هذا الشبح الرهيب الكاره لبراءة الانسان في وصفه الابن المجهول باللقيط، باسم الشرف الرفيع والنسب الأصيل. بل وأكثر من ذلك تميط لثام الحشمة والوقار والحياء المزعوم لما رسبناه ورسخناه في جوف الطفل المجهول، من حقد وعدوانية وانتقام وبشاعة مفزعة. وكنا حريصين على أن يتشرب كل ذلك العفن مع مرارة وليس مع حليب الطفولة المفقود.

وراء ترهات النظام الأخلاقي الديني تتستر التقوى والشيخ الورع/الفقيه. كما تنتفخ أصلا وشرفا أمُّ صديق الدكتور. وعشرات من مثلهما كثير. والرواية تقول بعناصرها الفنية أنت أيها القارئ، بناء على البحث والتحقيق الدقيق، عمر الغريب الذي استوطن النفسية العميقة، والنواة الداخلية الحميمة للطفل/ الدكتور. هذا الأخير الذي لا يتردد في القول قتلني عمر الغريب. وهذا يعني في هذه الجريمة أننا قتلة. وحتى لا  يتكرر ما حدث ويحدث، علينا ممارسة الاعتراف بوصفه عدالة الآن هنا ومستقبلا.

ودعما لهذه الفرضيات في القراءة والتأويل، سلط السارد الكثير من الأضواء على المسارات والمحطات التي احتضنت الضحية. مبينا المصاعب والاكراهات والتحديات، والآلام و العذابات المرعبة الرهيبة التي شكلت حياته العقلية والنفسية، الواعية وغير الواعية والعلائقية. كما نتعرف خلال تلك الاضاءات التي تكلف بها السارد حول سيرة الضحية على نوع من التجربة الوجودية التي عاشتها. وما رافقها من محن أنتجت ديناميات نفسية قلقة تدميرية وعدوانية وانتقامية.

تولدت كل هذه الآلام في دواخل الضحية من خلال إدراكه الملتبس للهوية والذات. باعتباره ابن شبهة عابرة، وولد الحرام المنزوع القيمة الإنسانية. هذا يعني أنه الفرد غير المحبوب، وغير المرغوب فيه داخل دائرة الهوية والانتماء المجتمعي. فهو جسم ملوث نجس ينبغي سحقه وبتره ونبذه وإقصاؤه من حق الوجود والانتماء للعلاقات الاجتماعية.  فصورة الذات وهوية الضحية، وكيانها النفسي الاجتماعي، هي صناعة مجتمعية تحول بينه وبين الوجود الإنساني في تحقيق الذات الفاعلة الحرة المستقلة، عن اكراهات سيف المحرم. والقوالب النمطية التي سيج بها المجتمع نواته الداخلية الى حد دفعه الى حافة التآكل الذاتي، والانهيار، ثم القتل في صورة الانتحار.

بلغة جميلة ساحرة، وسرد رفيع أخاذ تضافرت الخصائص المعنوية والفكرية للرواية في شكل روائي رائع ومتين في صوره واستعاراته العميقة المعاني والدلالات. وهذا ما جعلنيأعتقد خلال تفاعلي مع النص أنني معني ومقصودبجمالية قسوة الشر التي كشفتني قاتلا.

4 - استدراك.. خيب أمل المتخيل الفني للرواية

في آخر الرواية نجد استدراكا دخيلا لا علاقة له بعنفوان الرواية ونبضها الفني والجمالي الحي.

لذلك لا أعرف ما الذي جعل الكاتبة تتجرأ بوقاحة إيديولوجية، وتقوم بتشويه رواية رائعة بهذا الشكل الروائي الجميل؟ ما الذي دفعها الى خدش هذه الصنعة الفنية الساحرة، وتضييق خناق متخيلها الفني والجمالي، بهذا الاستدراك الدخيل الذي قزم عمق النص، وخيب أمل متخيل الرواية. في انتصار لرؤية أحادية في تأويل الأبعاد المعقدة لأمل النص في التعدد والاختلاف، في كونه مضيافا للعديد من المقاربات والرؤى التي لا يمكن أن تستنفذ ثراءه وغناه؟ لا أعرف ما الذي دفعها الى تزوير تجربتها الأدبية بهذا التدخل الجائر الخارج عن المنطق الداخلي للكتابة الروائية، وآلياتاشتغالها. والقارئ الممسوس بجنون شغف القراءة لن يتردد طويلا في تمزيق هذا الاستدراك المتطفل على لحظة الإبداع في سيروراتها الصعبة والمعقدة.

يتبع...