حسين عبدالكريم ينزع عن الزمن أفقه الهارب

الفنان العراقي يواجه بلغة تعبيرية واقعية مخاوفه الإنسانية العامة.

ونحن نخطو نحو محراب حسين عبدالكريم (كركوك – 1957) تصاحبنا اختيارات لأنواع مختلفة من الموسيقى، تتداخل لتزيد من احتمالية أن نقرر الذهاب إليه والاستماع إلى ما يلائم تفضيلاته الجمالية باستجابات تلعب الدور الفاصل مع ما ينبعث منها من مستويات مماثلة من الاستثارة وما تحمله من التأثيرات الخاصة التي تجعلك تسمع بالضرورة لهدير موسيقاه وما ينتمي إليه، فمحرابه محفوف بروابط روحية وعاطفية وإنسانية ممتدة إلى اللا نهاية.

يعبر حسين عبدالكريم عن الحرية المفقودة والبحث عنها وحده يوصلك إلى الحقيقة، فالمسار الذي يسلكه على نحو خاص مليء بالارتفاعات والانخفاضات، بالمتاهات والتداخلات. ويوحي بمزاج الحزن والانكسار حينا، وحينا آخر بالطموح والأمل، وكل ذلك قد يكون ضمنيا مستترا يمكن الكشف عنه من خلال التماثل والخطوط المركبة التي هي مزيج من خطوط بسيطة، فالهروب المؤقت من قبضة الأنا هو تحرير لخياله وانفعالاته، تحرير للقوى الحيوية الخاصة به وهذا شعور يجعله يؤمن بالتفريق، أو بالاتحاد بين الذات والعالم، أو المعايشة بينهما وهنا ينبغي عليه العودة بمعانيها المختلفة إلى عملية المزج الفطري لديه بين وعيه الخاص بطفولته ودورها الجوهري في العملية الإبداعية وتذوقها، وبين التصورات الجمالية التي تتداعى في لاشعوره لحقب زمنية تاريخية ما زالت لها تأثيرها فيه وفي الثقافة المعاصرة القائمة على جوانب كثيرة منها التعبيرية التلقائية التي سيطرت على المسار الجمالي لعقود.

أقول ونحن نخطو نحو محراب حسين عبدالكريم لا بد أن يسيطر علينا نوع من الاهتمامات التي ترفع من سقف التركيز لدينا على المحتوى وكذلك على الشكل، على بنية اللا شعور وعلى بنية النص. وهذا يحرض على ولادة نوع من التعبير الذي تحالفه الأفكار عميقا وبدرجة كافية، فإذا كنّا نعرف أن عبدالكريم تعرف على الرسم وأدواته وهو صغير، لم يكن يتجاوز التاسعة من عمره، حينها كان يرسم يوميا ويقلد الرسومات والإعلانات السينمائية – حسب قوله – وفي حجم الهامش الصغير المتاح له ولتلقائيته فكان يتحد مع ذاته ومع مناجاته الطويلة لخطوطه ورسوماته ليدلف حب الرسم إلى داخل تلك الذات ويقوده إلى الحقول الجميلة التي تنتظره بتوقعاتها المختلفة، فهو في سن تسمح له بالاستجابة للمشاهد الطبيعية بتبايناتها العديدة.

هو من ذوي الإحساس الشديد بذاته، ومن الذين سيبحثون لاحقا عن أشياء خارج تلك الذات، وهذا عرض لمسار طموحاته ومثابرته للارتقاء بذاته، وهو مؤمن بأفكاره الخاصة وبأن له تفرده وخصوصيته وتكامله الخاص متسما بصدق ريشته، وبخياله المتحرر من النمط والقوالب التي تكاد تقتل المبدع والعملية الإبداعية معا. وهو يهتم بالاندفاعات التي تغلي في داخله، ويتسامى بها حتى تتحول إلى عمل فني يحمل الخصائص الجمالية بتفاعلاتها وتلميحاتها التي تنمو في أنماط من المشاعر التي تتخذ مسلكا في التعامل مع آماله وإحباطاته وأشكال معاناته التي تنتمي إلى الماضي، بل وإلى الحاضر أيضا.

يمكن أن نجد علاقة التركيب الفني عند حسين عبدالكريم مرتبطة بالخلفية المتصلة بلا وعيه حيث يأخذ الزمن عنده طابعا مفتوحا كجسد لم تغادره اللوعة بعد، وكل شيء عنده يغرق في تجربة قاسية ينزع عن الزمن أفقه الهارب إلى غد مشطوب تأويلا حتى يأخذ بعده الحامل للا مرئية الأشياء نسيجا لرؤية يمكن أن تتم مع تصور ما للعالم الذي يحيط به. وهذا يقوده إلى موقع آخر من المشهدية البصرية التي يشتغل عليها، موقع المؤثر والمتأثر في آن معا، وما يهمه هنا هو رصده لبعض الترابط الزمني في السياق ذاته وملاحقة بعض خطوط التحول والتأثير الرئيسية فيها، ومحاولة القبض على ملامحها لبناء مشهد محكم شكلا ومضمونا.

وهنا تبدأ نقاط الاختلاف والتوافق بالولادة والظهور بوصفها شكلا فنيا جديدا نسبيا، شكلا حاملا لنقاط التمايز وإن كان يعود أحيانا إلى اقتباس بعض التفاصيل فيه من الحياة وقضاياها ومن اتساع خبرته وتجربته فيها، فكان لا بد من حضور بعض التأثيرات على لغته البصرية التي لها دور شديد الأهمية في تحريك بنية تلك المشهدية التي أشرنا إليها وانفتاحها على أساليب وتقنيات وأدوات تعبير جديدة يعتمدها خاشعا مسحورا بها بوصفه الفنان الجمالي المتحمس لقضايا الحدس والحلم في الخلق الفني في زمن بات كسلسلة من التأثيرات والاستلهامات التي لا ترابط بينها.

وفي وسع حسين عبدالكريم أن يقرأ كل ذلك بالشكل الذي تمليه عليه تجربته، فهو بهذا الصدد قادر على أن يستعيد بوضوح شكل التدفق لحالاته بمعاييره هو، مؤكدا أن اللحظة الإبداعية ليست توظيفا للماضي وبلورته، بل منحه المزيد من العمق وهنا تكمن قوة الحاضر ومرونته في الآن ذاته في تحقيق الصور التي لا تمثل الأشياء ذاتها بقدر ما تمثل سردا روائيا لها ولمشهديتها التي ستبدأ بالحضور في سياقات صاعدة باستشراف ما يوجز تجلياته بدقة. وهنا لا تقتصر مهمته على استعادتها على النحو الأكثر ملاءمة، بل على النحو الذي ستترك أثرها على المادة الإبداعية لديه، فتبدأ القيم الإبداعية الرفيعة التي حققها بالظهور والبروز متوازنة مع الحركة الخالصة لمشروعه الجمالي والافتتان بها.

يحرص حسين عبدالكريم على أن يبذل جهده ويكرس نتائج هذا الجهد في دفع مشهده البصري نحو التحرك في الفضاء المتخيل ذاته، فتتحرك شخوصه الخاصة ذاتها وكأنها تتبرج بصورها الجديدة الفريدة وحدها، فتتماثل الخيالات معا لتكمل مشهده المصور، وتنداح منها ومعها الأسئلة التي تساعد على دفع خطابه الفني في اتجاهات عدة.

وهذا يساعده كفنان باحث على جعل ذلك الخطاب حصينا وبعيدا عن الترهل، ويمضي به في اتجاهات غير مفترضة، اتجاهات تحمل خيارات مفتوحة قد تأخذه إلى فضاءات أخرى هي مفتوحة أيضا وإن كانت ترتبط بموضوع بحثه الرئيسي، فهذه الأجواء التي يتحرك فناننا ضمنها وبوسائطه الخاصة تنشده الأمانة في التنقل والتحول من سرود بصرية إلى أخرى، مع الميل حينا إلى خلق تجليات داخل السرد ذاته، تتقاطع مع التفاصيل التي تفرضها ضرورات بحثه، وضرورات الحالة الإبداعية بوصفها حالة تأسيس العلاقات في المقاربات الجمالية. وصحيح أنه يلقي بعض الضوء الباهر على جوانب أساسية من الوجع الخاص/العام التي تضج به وبمحيطه، إلا أنه لا ينزلق ولا ينحدر إلى الصور المباشرة التي تتضح فيها كل شروحات الموضوع، بل ثمة أسئلة بمعطياتها وإحداثياتها وتجلياتها تزرع في دواخل متلقيه الذي يبدأ بمتعة عالية البحث عن أجوبتها بمفردات مكتوبة في خياله تدفعه إلى لحظات الصمت الجميل والتأمل في الذات كإضافة جديدة هي بالدقة حوارات وحكايات أراد الفنان أن يعيشها في صمته وهو غارق في جوهر فضاءاته وإطاراتها الكبيرة.

إذا كنّا نعلم أن حسين عبدالكريم خسر اثنين من إخوانه في الحرب العراقية – الإيرانية أو حرب الخليج الأولى كما كانوا يسمونها (1980 – 1988)، وخسر الكثير من أقاربه في عملية الأنفال (1988) إحدى أسوأ عمليات الإبادة الجماعية ضد الكرد والتي قام بها النظام العراقي السابق حيث دمر النظام البائد ما يقارب 2000 قرية، وقتل الآلاف من المواطنين الكرد ودفنهم في مقابر جماعية، أقول إذا عرفنا كل ذلك عن حسين عبدالكريم فلن نستغرب حين نرى أعماله مستمدة من حياته، وأنها غارقة في وجع الإنسان الكردي، لا نستغرب حين نمعن في بقايا عظام من هياكل وجماجم بشرية وهي تروي سيرة الوجع لديه، السيرة الأشبه بأسطورة مرتبطة بالموت وعوالمه، وهي محاولات موفقة لفهم الانفعالات والأفعال الغامضة، هي محاولات لفهم هذه الجوانب الغامضة والمخيفة المرتبطة بواقع سيطرت عليه أحداث ووقائع تاريخية لا يمكن أن تنسى.

بلغة تعبيرية واقعية يواجه عبدالكريم مخاوفه الإنسانية العامة، وهي فرصة له ليقدم حكاياته المؤلمة من خلال طقوس خاصة لمواجهة مخاوفه الخاصة، المواجهة التي ستكون أكثر فاعلية لأنها تمسه من العمق، فوجود حالات من القلق المكبوتة لديه ستظهر كمظاهر رعب حقيقية تتجسد على نحو حر في مساهماته لخلق مؤثرات بصرية تمزق الأوصال وتشع من أعماله.

وأخيرا من الجميل أن نذكر بأن معرضه الفردي الأول كان في كركوك عام 2005، وله الكثير من المشاركات الجماعية، وهو عضو في كل من جمعية الفنانين العراقيين وجمعية فناني كردستان، وجمعية الخطاطين العراقيين.