حواجز التفكير الاستقطابية صوب الإسلام

إذا أراد الباحث أن يعد دراسة علمية حول حملات التشكيك في الدين الإسلامي فلسوف يحتار كثيراً عندما يجد كماً هائلاً من الكتب والدراسات والمراجع والمواقع الإلكترونية التي تكيل التهم المتنوعة للعقيدة الإسلامية.
هناك ملاحدة على أخلاق، لكن لا يوجد إلحاد أخلاقي
الظواهر الثقافية تقف متعالية عن التركيب المادي الذي أسهبوا في تفسيره
المؤسسات الدينية الشرعية لا بد و أن تركز جهدها على توضيح كيف يفكر مليار مسلم

يخبرنا الأستاذ عباس محمود العقاد بحقيقة ماتعة مفادها أن قراءة كتب فلسفة الدين وتراجم العظماء تؤدي جميعا إلى توسيع أفق الحياة أمام الإنسان، ويؤكد على رهان لا يزال قائما وهو أن الكتب طعام الفكر وتوجد أطعمة لكل فكر، كما توجد أطعمة لكل بنية، ومن مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام، وكذلك الإدراك القوي الذي يستطيع أن يجد غذاء فكريا في كل موضوع.
وإذا كنا نندد بالنظرة السلبية للإسلام من جانب بعض مفكري الغرب لاسيما أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فعلينا أن نبحث جادين عن سبل وأساليب حقيقية لتوضيح رسالة الإسلام للغرب، لاسيما وأن المؤسسات الإعلامية الدينية لا بد وأن تعترف بفشلها في نقل رسالة الإسلام للغرب الذي يراه ديناً إرهابياً متطرفاً لا يتسم إلا بالوحشية.
وتجديد الخطاب الديني يكون بالفعل لا بالمؤتمرات التي أشبهها بسرادق العزاء، بل بفعالية المراكز الإسلامية المنتشرة بأوروبا، وإبراز التعاليم السمحة للإسلام كالتعايش والمواطنة والتسامح وتقبل الآخر وحرية العقيدة واحترام الأديان. وإذا كان الغرب يحاول دائماً أن يرجع الإرهاب والوحشية إلى الإسلام وأصوله، فعلى المؤسسات الدينية أولاً أن تؤكد سماحة الإسلام وفضائله. وإذا كان القاتل يجهز على ضحيته دون وعي بتعاليم الإسلام فهل تنتظر المؤسسة الدينية أن يسافر رجل الشارع البسيط ليوضح صورة الإسلام في الغرب، وأنه دين تسامح وتعايش وحرية اعتقاد.
إن هذه السطور في حقيقتها موجهة لكافة المؤسسات الدينية، لا الثقافية، لأن الثقافة تزحف تدريجياً نحو قبرها، فالمؤسسات الدينية الشرعية لا بد و أن تركز جهدها على توضيح كيف يفكر مليار مسلم، وأن تنقل ما في الإسلام من قيم تدعو للتسامح والعدل والتعايش، هذا إن كنا نريد أن نحيا، وعلى تلك المؤسسات أن تنتهج نهجاً جديداً في شخوصها، ومناهج الدعوة والحوار، وموادها التعليمية التي أصبح بعضها كالماء الآسن.
علينا جميعاً أن نفكر، بل أن نبذل أقصى ما في وسعنا كي نزيد من قدراتنا التفكيرية من تحليل وتفسير واستنباط وتوضيح، وأن نستهدف الحكمة والمعرفة خشية الضياع، عملاً بقوله تعالى "يؤتي الحكمة من يشاء. ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب". 
وعليك أن تكتب كلمة إسلام  باللغة الإنجليزية Islam  في أي محرك بحث إلكتروني باللغة الإنكليزية لتدرك حجم وقدر الهجمة الشرسة التي يوجهها أعداء الإسلام له، وإذا أراد الباحث الإسلامي أن يعد دراسة علمية حول حملات التشكيك في الدين الإسلامي فلسوف يحتار كثيراً عندما يجد كماً هائلاً من الكتب والدراسات والمراجع والمواقع الإليكترونية التي تكيل التهم المتنوعة للعقيدة الإسلامية.
والملفت للنظر أن الهجوم على الإسلام والقرآن الكريم والنبي ليس جديداً، بل بدأ منذ ظهور فجر الإسلام وحينما قويت شوكته ازداد الهجوم الضاري عليه، وفي هذه الآونة أصبح الغرب بصفة عامة مصابا بمرض الإسلاموفوبيا، بل إن زيادة دخول الغربيين في الإسلام شكل للبعض الآخر من غير المسلمين هوساً بالتفكير في هذه العقيدة الفريدة القادرة على الصمود والرسوخ في ظل استعار الرأسمالية، وانحلال القيم والآداب والتقاليد والأعراف.
هذه التقدمة التي تبدو طويلة بعض الشيء جاءت ضرورية، بل وأكثر واقعية وأنت بصدد إعادة قراءة كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" لعلي عزت بيغوفيتش الرئيس السابق للبوسنة وقائدها السياسي وزعيمها الفكري والروحي كما طاب هذا التوصيف للمفكر المصري الموسوعي الدكتور عبد الوهاب المسيري. وفكرة الزعامة الفكرية لبيغوفيتش أتت من كونه صاحب اجتهادات واسعة ومهمة في تفسير ظاهرة الإنسان في كل تركيباتها، وهو -علي عزت بيغوفيتش- كان أكثر الزعماء المهمومين بعلاقة الإنسان بالطبيعة، باحثا عن نظام فلسفي دقيق يحكم تلك العلاقة.
ولعل اجتهاد علي عزت بيغوفيتش نتيجة منطقية لجهاده المستدام، وشتان بينه وبين رؤساء آخرين مهمومين بتفكيك القوى العربية الكبيرة على حساب كيانات سياسية أكثر صغرا، في الوقت الذي كان فيه بيغوفيتش مرهونا بالدفاع عن قضايا بلاده، لذا استطاع بحق أن يصبح بيغوفيتش على توصيف الدكتور عبد الوهاب المسيري أن يحظى وحده بلقب المجاهد المجتهد، ويلعب منفردا دور الفارس والراهب، في التوقيت الذي لهث فيه كثير من الأمراء والحكام العرب آنذاك للتطبيع الصهيوني والمقامرة مع الإدارة الأميركية لتحقيق مآرب شخصية بل أسرية أيضا أي على نطاق الأسرة كما كان الحال مع التونسي زين العابدين بن علي.
وكتاب الإسلام بين الشرق والغرب للرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيغوفيتش لا يعد مهما كونه كتابا لرئيس دولة فحسب، بل لأنه كتاب رصد الملامح التي تحكم العلاقة بين الشرق والغرب والمحاولات التي تسعى ولا تزال للقضاء على الإسلام الذي يشكل صداعا كبيرا في عقول الموتورين في الغرب.
وجاء الكتاب نتيجة دراسة واسعة ومتعمقة للواقع الغربي لاسيما الأميركي الذي طالما يتفاخر بحضارته وإن صح التعبير بثقافته لأن الغرب لم يصل بعد إلى حيز الحضارة التي يمكن تسجيل ملامحها بالسنوات البعيدة، هذا الغرب المتفاخر دوما سجل أعلى معدلات الجرائم الأخلاقية كالاغتصاب والزنا واللواط بل أعطى لهم حقوقا لا تزال مشروعة هناك كالاعتراف بالمثليين، أيضا هذا الغرب المتباهي وسط فقرنا المعرفي عنه سجل أكبر معدلات للانتحار ليس نتيجة للرفاهية كما تزعم بعض وسائط الإعلام، إنما نتيجة حتمية للفراغ الروحي والخواء الفكري.
وكانت معرفة النظام الرأسمالي الذي يتحكم في أنماط الحياة الغربية شرطا رئيسا لفطنة التوجه نحو الإسلام والمسلمين لاسيما وأن الإسلام بطبيعته السمحة يعلي الجانب الروحي والفكري للإنسان مع اهتمامه أيضا بجوانبه المادية الأخرى ولكن بصورة أكثر اعتدالا. وكثيرا ما أشار علي عزت بيغوفيتش الى الثقافة الروحية، فهو يعلق على ذلك الملمح الرصين في حياة الإنسان بقوله " يمثل الدين والعقائد والدراما والشر والأخلاق والجمال وعناصر الحياة السياسية والقانونية التي تؤكد على قيم الشخصية والحرية والتسامح، يمثل كل هذا الخط المتصل للثقافة الإنسانية الذي بدأ مشهده الأول في السماء بين الله والإنسان".
وأجدر ما تنبغي الإشارة إليه في ثنايا كتاب الإسلام بين الشرق والغرب للرئيس البوسني الأسبق بيغوفيتش هو سؤال الدهشة المطروح حول أصل الإنسان، وفي هذا السؤال يفند علي عزت بيغوفيتش طروحات الماديين والعلمانيين حول التفسير المادي للإنسان، محاولا إيجاد ثغرات علمية تدحض هذا الزعم العبثي، فهو يحاول إثبات عجز النموذج الدارويني في التطور في تفسير ظاهرة الإنسان، وهو في سبيل ذلك يبين أنه من المستحيل تصديق أن الإنسان نتيجة تفاعلات كيميائية تمت بالصدفة وأدت إلى خلايا بسيطة ثم تطورت إلى أن أصبحت الإنسان.
جميل الكتاب ليس كونه سطورا في فلسفة الدين وأصل الإنسان وتركيباته النفسية والروحية والمادية وعلاقته بالكون والطبيعة، إنما جميله ومعروفه أيضا أنه طرح فكري صدر عن رئيس وزعيم فكري لشعب أصيل عانى وقاسى ويلات الاضطهاد والتمييز الديني، وجاء ليدحض مزاعم الغرب المادية ومدافعا عن هذا الهجوم الضاري صوب الإسلام الحنيف. وتبقى رصاصة الرحمة التي أطلقها علي عزت بيغوفيتش للفكر المادي قائمة حينما أعلن عجز رواد النظرية الداروينية في تفسير الظواهر الثقافية للإنسان لسبب بسيط وهي أن الظواهر تلك تقف متعالية عن التركيب المادي الذي أسهبوا في تفسيره بل وتقف بمنأى عن التبريرات المادية مفارقة لها.
رأى أعداء الإسلام من الملاحدة أنه يشكل خطراً جسيماً على الحياة العامة، وأنه يقف حجر عثرة في طريق التقدم الاجتماعي للمجتمعات المدنية، وأنه يكدرها ويعكر صفوها، لأنه يحرم على الناس شهواتهم ويقمع غرائزهم. والإسلام في حقيقة الأمر خلاف ما يزعمون، فهو يدعو إلى تقدم البشرية بصفة عامة، كما أنه يضع قواعد وضوابط شرعية في صالح البشرية. والرائي يستطيع أن يدرك مقاصد الشريعة الإسلامية من سمو الأغراض وشرف الغايات.
فالإسلام استطاع أن يستبدل الحاجات المادية التي تجعل المرء عبداً لها بروابط روحانية قائمة على مبادئ راقية وأصول ومرتكزات ثابتة أصيلة. والحقائق التاريخية تؤكد وتشير إلى الروابط الاجتماعية القوية التي سادت المجتمع الإسلامي منذ ظهور الإسلام الحنيف. كما أن الإسلام قد أقر مجموعة من الأصول والواجبات التي يقوم عليها الاجتماع والتعارف والمشاركة الحياتية العامة.
وعلي عزت بيغوفيتش يدحض مجددا الفكر المادي المسيطر على العقل الغربي حينما يؤكد أن الإنسان استطاع الارتقاء عن نظريات تفسيره المادية الضيقة من خلال مظهرين أساسيين له ؛ الدين والفن، وهو في ذلك يشير بقوة إلى الأخلاق المادية النفعية المسيطرة والمهيمنة على الشباب في دول الغرب، ويطرح فيجوفيتش تساؤلا مثيرا لدهشة التلقي والتأويل : لماذا توقف الإنسان عن تحسين كفاءته في الصيد ليقوم ببعض الشعائر التي لا معنى لها من منظور مادي نفعي ؟. السؤال نفسه يطرح أسئلة أخرى مثل ما الهدف من الوجود والبقاء ؟ هل هناك آليات لاستمرار بقاء روحي للإنسان ؟. ومثل هذا الطرح الفلسفي هو إعلاء وإعلان عن حياة روحية للإنسان أرقى من حياته المادية النفعية وارتباطه بقوة غيبية أعلى تلهمه الصواب وتمنحه قدرا كبيرا من التعامل الراقي مع الكون والطبيعة.
بل واستطاع الإسلام التوفيق بين المصالح الدينية للمجتمع، وبين مصالحه الدنيوية، بحيث تتكافل في إيصاله إلى كماله المادي والأدبي، ويمكننا إدراك هذه الحقيقة المطلقة من خلال حياة الصحابة الكرام، حيث استطاعوا بالإسلام وتعاليمه السمحة في التوفيق بين السمو الديني وروح العمل الدنيوي دون خلل أو نقص أو عيب.
ودون أن نخوض مع الخائضين في مسألة الدولة الدينية والدولة المدنية، التي يراها بعض العلمانيين متناقضتين تماماً، فإننا نؤكد أولاً أن ما خطر بأذهان هؤلاء الموتورين أن المدنية في معتقدهم تعني الملاهي والمراقص والفتن التي لا ضوابط لها، وأن الدين هو زهد وتقشف وحرمان، وهذا افتراء موجه للإسلام. فالإسلام تنطبق عليه المثل الأعلى للمدنية، ويزيد عليه سمواً، فهو يدفع الإنسان للتجرد من الأحوال البهيمية، والتخلق والتحلي بالأخلاق الإلهية في أسمى ما يتخيله العقل من نزاهة ورفعة روحية.
وكما فتح الإسلام للنفس البشرية باب الارتقاء الروحاني على مصراعيه، ووسع مداه إلى ما لا يصل إليه خيال المتخيل، فتح كذلك لها باب الارتقاء المادي، فلم يحرم عليها علماً نافعاً، ولم يضع للعلوم حدوداً، كما يشير فريد وجدي إلى أن الإسلام استنهض الهمم للشئون الصناعية، والإبداعات الفنية، وعد الارتقاء في هذه المجالات فتوحاً إلهية يثاب عليها الموفق لها ثواب العاملين على ترقية الإنسانية.
ويطرح علي عزت بيغوفيتش نظريات ثلاث حول وجهات نظر العالم التي تحكم تفسير الإنسان لطبيعته؛ فرؤية مادية ترى العالم مادة محضة، وهي نظرة تنكر أية تطلعات روحية للإنسان ولا شك أن هذه النظرة الضيقة هي التي أودت بالشباب الغربي إلى مهالك أخلاقية كالزنا والتحلل القيمي والانتحار وعمليات التحول الجنسي وغير ذلك من مثالب مهلكة.
ورؤية دينية مجردة تتسم بالروحية الخالصة باعتبار الدين تجربة روحية فردية تنكر كل احتياجات الإنسان المادية، ودلل على ذلك بالمسيحية.
أما الرؤية الثالثة والأخيرة حسب الطرح الفلسفي لبيغوفيتش فهي الرؤية الإسلامية التي تعترف بالثنائية المعتدلة للإنسان، التي تتجاوز الرؤيتين السابقتين عن طريق توحيد طبيعي بين المادة والروح، حيث إن الإسلام الحنيف استطاع أن يخاطب كل ما في الإنسان، وهو الديانة التي أقرت بأن الإنسان هو وحدة الروح والجسد.
ويقر علي عزت بيغوفيتش بأن هذه الثنائية باتت صعبة التفسير والتلقي لدى الغرب غير المسلم، وهذه الثنائية نجدها متقابلة باتفاق واضح في مصدري الإسلام القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة لصاحبها المصطفى صلى الله عليه وسلم. وراح المجاهد المجتهد بيغوفيتش يرصد كل ملامح ثنائية الروح الجسد في أركان الإسلام الخمسة وأيضا في مهارتي اللغة، القراءة والكتابة.
وإذا كان المفتتح عند أستاذنا العقاد، فعنده أيضا المختتم، فهو يرى أن الوصول بالعقل إلى معرفة الله هو أسمى درجات الإيمان وهو الأمر غائب الصلة والاتصال عن العقل الغربي المفرط في ماديته، والاكتفاء هنا ونحن بصدد الحديث عن الإيمان بتساؤل بيغوفيتش هل الأخلاق ممكنة بدون إله ؟ بالطبع لا، رغم أن هناك ملاحدة على أخلاق، لكن لا يوجد إلحاد أخلاقي، وهذا المسعى هو مطمح الغرب الذي يحاول إنتاج أجيال كاملة لا تذعن لقوانين الدين وضوابط العقيدة، ويبقى الدين هو الملمح الأصيل الثابت في حياة الإنسان الذي يقنن مثاليته ويجعله الحدث الأهم والأبرز في تاريخ الكون.