حياة حافلة بالابداع لرابع أديب أفريقي يفوز بنوبل

الكاتب الشاعر والمترجم د.عبد المقصود عبدالكريم يلقي في مقدمته لترجمة رواية 'الرجل البطيء' الصادرة أخيرا عن مؤسسة هنداوي الضوء على جوانب مهمة من حياة جون مكسويل كوتسي وأعماله الإبداعية في الترجمة والنقد والقصة والرواية.

جون مكسويل كوتسي، أو ج. م. كوتسي روائي وناقد وأكاديمي من جنوب أفريقيا، حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 2003 ليكون رابع أديب أفريقي يفوز بالجائزة بعد النيجيري وول سونيكا (1986)، والمصري نجيب محفوظ (1988)، والجنوب أفريقي نادين جرديمير (1991).بَدأَ كِتابَة القصةِ في 1969. ونشر كتابه الأول، الأراضي المُعْتِمة، في جنوب أفريقيا في 1974. فاز في قلبِ البلادِ (1977) بجائزة أدبية رئيسية في جنوب أفريقيا، جائزة سي إن أيه، ونُشِرَ في بريطانيا وأميركا. وحظي "في انتِظار البرابرة" (1980) باهتمام عالمي. وتأكَّدَت شهرته مع حياةِ مايكل كْ. وأوقاته (1983م)؛ حيث حصل على جائزة بوكر البريطانية. ثم توالت أعماله: "فو" (1986)، "عصر الحديدِ" (1990)، "سيد بطرسبرغ" (1994)، و"العار" (1999)، وهو العمل الذي فاز بجائزة بوكر.

يلقي الكاتب الشاعر والمترجم د.عبد المقصود عبدالكريم في مقدمته لترجمة رواية "الرجل البطيء" الصادرة أخيرا عن مؤسسة هنداوي، الضوء على جوانب مهمة من حياة كوتسي وأعماله الإبداعية في الترجمة والنقد والقصة والرواية، يقول "وُلِد كوتسي في التاسع من فبراير 1940، في كيب تاون حيث قضى معظم حياتِه المبكِّرة، ينحدر من أسرة هولندية استقَرَّت في جنوب أفريقيا في القرن السابع عشر، كانت أُمُّه مُعلِّمة في مدرسة ابتدائية. وتدرب أبوه في المحاماة، لكنه لم يزاول المهنة إلا بشكل متقطِّع؛ خَدمَ في قوات جنوب أفريقيا في شمال أفريقيا وإيطاليا (1941 ـ 1945). ومع أن أبويه ليسا مِنْ أصول بريطانية؛ إلا أن الإنكليزية كانت لغة الحديث في البيت مع والديه، وكانت الأفريكانية لغة الحديث مع أقربائه الآخرين، يُصوِّر كوتسي نفسه، في سيرته الذاتية المكتوبة بشكل روائي، الصبا (1997)، ولدًا عليلًا مُولَعًا بالكتب، ويُعبِّر عن إعجابه بأمه التي تعشق الحرية، تَقُولُ: لَنْ أكُونَ سجينة في هذا البيتِ. سَأكُونُ حرَّة.

التحق بكليَّة القديس يوسف، وهي مدرسة كاثوليكية في إحدى ضواحي كيب تاون، ثم التحق (1957) بجامعة كيب تاون؛ حيث درس الرياضيات واللغة الإنجليزية، حصل على بكالوريوس الآداب بمرتبة الشرف في اللغة الإنجليزية (1960)، وبكالوريوس الآداب بمرتبة الشرف في الرياضيات (1961). وبعد التخرج انتقل إلى إنكلترا؛ حيث عمل مبرمج كمبيوتر (1962-1963) في لندن، وكان يُعِد في الوقت ذاته بحثًا لرسالة عن الروائي الإنجليزيِ فورد مَدُكس فورد. وفي 1963حصل على ماجستير في الآداب؛ وقد سجل تجاربه هناك في الشباب (2002)، المجلد الثاني من السيرة المَكتوبة بشكل روائي.

ويتابع عبدالكريم أن كوتسي تَزوَّج في 1963 من فيليبا جوبير (1939–1991). رُزِقا بطفلين، نيكولاس (1966–1989) وجيسلا (وُلِدَت عام 1968). مات ابنه في الثالثة والعشرين إثر سقوطه بشكل غامض من شُرفة عالية. ويستعرض كوتسي الحدث في روايته"سيد بطرسبرج" (1994). وتَوقَّع أصدقاؤه انفصاله عن زوجته قبل الطلاق، ووصَفَه كثير منهم بأنه رجل انطوائي مُنعزِل. وتأكَّدَت هذه السِّمة حين لم يسافر إلى لندن لاستلام جائزة بوكر (1984) عن روايته حياة مايكل ك وأوقاته، أو حين حَظِي بهذا الشرف مرة أخرى (1999) عن رواية العار، وهو المؤلف الوحيد الذي حصل على الجائزة مرتين.

حصل كوتسي عام 1969على دكتوراه الفلسفة في اللسانيات من جامعة تكساس في أوستن، وكانت أطروحته عن التحليل الأسلوبي بالكمبيوتر لأعمال صموئيل بيكيت. بعد أن تَرك تكساس قام بتدريس الإنجليزية والأدب في جامعة ولاية نيويورك في بفلو.وفي بفلو بدأ كتابه الأول الأراضي المُعْتِمة (1974م) ويضم روايتين قصيرتين مترابطتين، واحدة عن أميركا وفيتنام، والأخرى؛ قصة جاكوبوس كوتسي، تدور أحداثها في ستينيات القرن الثامن عشر، حاول كوتسي في 1971 الحصول على إقامة دائمة في الولايات المتَّحدةِ، ورُفِض طلبه لمشاركته في احتجاجاتٍ ضد حرب فيتنام. فعادَ إلى جنوب أفريقيا حيث شغل مِنْ 1972 حتى 2000سلسلة من المراكز في جامعةِ كيب تاون، آخرها أستاذًا فخريًّا في الأدب. وفي 1984 و1986 عَبَر البحار مرة أخرى ليعمل أستاذًا في جامعة ولاية نيويورك في بفلو. وبين عامي1984و2003 قام بالتدريس كثيرًا في العديد من جامعات الولايات المتحدة، وكان على مدار ست سَنَوات عضوًا في لجنة الفكرِ الاجتماعي، وبعد أن أُحِيل إلى التَّقاعُد في 2002، انتقلَ كوتسي إلى مدينة أدليد في جنوب أستراليا؛ حيث عمل باحثًا فخريًّا في قسمِ اللغة الإنجليزية في جامعةِ أدليد، حيث تعمل رفيقته، دوروثي دريفر. وقال في مقابلة: إنَّ مغادرة البلاد تشبه، من بعض النواحي، انهيار الزواج، إنها مسألة عميقة.في 6 مارس 2006 حصل كوتسي على الجنسية الأسترالية وصار مواطنا أستراليا في مراسم تَرأَّسَها وزير الهجرة الأسترالي أماندا فانستون، وبعد المراسم قال كوتسي: شدتني روح الناس، الروح الحرة العظيمة، وجمال الأرض وعندما رَأيتُ أدليد أول مرة، شدتني بنعمةِ المدينةِ التي أتشرفُ الآن بأن أدعوها وطني.

كَتبَ ريان مَلَن عن كوتسي: إنه رجل منضبط ومتفانٍ في عمله بشكل رهباني تقريبًا. لا يَشْربُ، ولا يُدخِّنُ ولا يَأْكلُ لحومًا، يَرْكبُ درَّاجة مسافات طويلة للحفاظ على لياقته، ويَقضي ساعة على الأقل على طاولةِ الكِتابة كُلَّ صباح، سبعة أيامٍ في الأسبوع. ويدَّعي زميل عَملَ مَعه لأكثر من عقد أنه لم يره يَضْحكُ إلا مرَّة واحدة فقط. حَضر شخص أعرفه عِدَّة حفلات عشاء لم يَنطِقْ كوتسي فيها بكلمة. ومع ذلك انتشرت كُتُبه في كل أنحاء العالم.

ويرى عبدالكريم أنه لا يُمْكن تصنيف أعمال كوتسي في إطار أحد التيارات الثقافية لِمَا بعد الحداثة. تَكْشفُ مقالاتُه عن اهتمام باللسانيات والنحو التوليدي والأسلوبية والبنيوية والسيميوطيقا والتفكيك، وترتكز معضلات رواياتِه على واقع جنوب أفريقيا، لكنه قدَّمَ غالبًا بلا زمن في شكل سرد السرد متعدد المعنى. فَحصَ كوتسي تقاليد البلاسرومان في جنوب أفريقيا، أَو رواية المزرعة في "في قلبِ البلاد" (1977)، حيث الشخصية المركزية ابنة راعٍ متمردة، وتعاني من حرمان جنسي. تتساءل مشاهد التعذيبِ المكتوبة بشكل هادئ في "في انتِظار البرابرة" (1980) عن طبيعة المشاهدةفي القصة. يشير عنوان الروايةِ إلى قصيدة لقسطنطين كفافي: والآن، ماذا سَيَحْدث لنا بدون/البرابرة؟/كان هؤلاء الناس نوعًا مِنَ الحَلِّ.

ويقول "في "حياة مايكل ك وأوقاته" (1983) يشبه بطل القصَّة شخصيات فرانز كافكا، الذين لا يَكتشفونَ معنى معاناتهم أبدًا. مثل ضحية المقصلة في القِصَّة القصيرةِ "في دير سترافكولوني"(1919)، يَنتهي مايكل ك في النهاية في أحد معسكرات الاعتقال. كَتبتْ سينثيا أوزيك عن الكتاب: إنه رثاء مستر كوتسي الهادئ المُتعجِّل لأحزان جنوب أفريقيا التي جَعلتْ من أبنائها، السود والبيض، أتباعًا ومُتطفِّلِين وسجناء. وتتداخل "فو" (1986) مع الرواية الكلاسيكية روبنسن كروزو. في القصَّة امرأة، سوزان بَرتُن، تعيش في الجزيرة مع روبنسن كروزو وفرايداي. "أُتْرَك. وحيدة"، تقول ولا تحظى بأي عطف مِنْ كروزو، المستَبدِّ القاسي في إمبراطوريتِه الصغيرة. بعد إنقاذهم، تُقابِل سوزان فو دانيال وتُصبحُ إلهامَه، الذي يَنْساه. يبقى فرايداي صامتًا، يُقْطَعُ لسانه، ولا يسمح له أبدًا بسرد حكايته.

أما البطل في "سيدِ بطرسبرج" (1994) هو الكاتب الروسي الشهير، فيودور دوستويفسكي، الذي يُحاولُ فَهْم موتِ ابنِ زوجته، بافل أليكسندروفتش إيزايف. وفي حُزنِه يَأْخذُ دورَ أورفيوس: "يُفكِّر في أورفيوس يسير للخلف خطوة فخطوة، يَهْمسُ اسمَ المرأةِ الميتةِ، يُخرجها من أحشاءِ الجحيمِ؛ والزوجة في الكفنِ وعيونها العمياء الميتة تتبعه، يمُدُّ أمامها يدين هزيلتين مثل رجل يمشي نائمًا. لا ناي ولا قيثارة، الكلمة فقط، الكلمة الواحدة، مرارًا وتكرارًا". ولا ننسى أن كوتسي نفسه فَقَد ابنَه في حادثة غامضة. قبل كتابة عصر الحديدِ (1990م) عَانى كوتسي أيضًا مِنْ مأساة شخصية؛ ماتت زوجته السابقة بالسرطان.

و"مع الصبا: مشاهد مِنَ الحياةِ الإقليميةِ" (1997) بَدأتْ سلسلة كوتسي المتعلِّقة بالسيرة والمكتوبة بشكل روائي، واستمرَّت في الشباب: مشاهد مِنَ الحياةِ الإقليميةِ (2002). والعملان مكتوبان بضمير الغائب. كَتبَ وليام دريسيويتش في النيويورك تايمزِ (7 يوليو/حزيران، 2002): لَيست الصبا والشباب، مع ذلك، سجلًّا موضوعيًّا مِنْ حياةِ كوتسي الشاب. وفي "إليزابيث كُسْتِلُّو: ثمانية دروس" (2003)، ابتكر كوتسي أناه النسائية المُغايِرة، كاتبة مشهورة، تُسافرُ في جميع أنحاء العالم وتُقدِّم أحاديث ومحاضرات أكاديمية. تُناقشُ قصَّة قرد كافكا في الولايات المتَّحدةِ وتحللها "تقرير إلى الأكاديمية" (درس 1)، في إنكلترا في كليَّةِ أبليتون الخيالية رسمت توازيًا بين غرفِ الغاز وتربية الحيواناتِ للذبحِ (درس 3)، وفي أمستردام كان موضوعها مشكلة الشرِّ (درس 6). استخدم كوتسي محاضراته الأكاديمية الخاصة كمادة، لكنه في الوقت نفسه يَعرِّي الأسلوب الثقافي في حياة كُسْتِلُّو، برغم حججِها الجديدة والمغرية دائمًا، نتيجة كل تنظيرها إلا أنها تُشْبِه أكثر فأكثر نسخة من كبير أساقفة كافكا، الذي تتعارض ميوله الأساسية وأفكاره الأخلاقية مع العالم الواقعي.

في رواية "الرجل البطيء" يصطدم "بول ريمنت" بسيارةٍ مسرِعة أثناء قيادة دراجته في أحد الطُّرق السريعة بمدينة أدليد بأستراليا، وما إن أفاق في المستشفى بعد فقدانٍ للوعي، حتى طُلِب منه التوقيع على بَتْر ساقه؛ ومنذ هذه اللحظة تبدأ مرحلة جديدة في حياة "ريمنت" قوامُها الوَحدة والعجز، لكنه في الوقت نفسه يعيش تجرِبة شعورية جديدة مُفعمة بالحب والسعادة والمتعة مع الممرضة "ماريانا" التي تقيم معه لتتولَّى مهمة تمريضه ومتابعة إعادة تأهيله، لكنها متزوِّجة ولديها أبناء وتعيش في استقرار أُسري. تتعرض أُسرة "ماريانا" لعواصفَ شديدةٍ بسبب هذه العلاقة الجديدة، وتدخل الكاتبة "إليزابيث كُستِلُّو" عالَم "ريمنت" و"ماريانا" ليبدأ انعطافٌ جديد في السَّرد نعيشه مع هذه الرواية الشائقة.

تدور أحداث الرواية في أستراليا، في الجنوب، وبالتحديد في مدينة أدليد، عاصمة ولاية جنوب أستراليا، وخامس أكبر المدن الأسترالية، المدينة التي اختار كوتسي العيش فيها بعد هجرته إلى أستراليا. وباستثناء الحادثة على طريق مَجيل والإقامة في المستشفى لبعض الوقت وجلستين على شاطئ نهر تورنس، الذي ينبع من هضاب أدليد ويجري باتجاه الغرب، وزيارة خاطفة إلى منو بارا، حيث تسكن ماريانا، على أطراف مدينة أدليد، وزيارة أخرى خاطفة إلى المكتبة، وزيارة ثالثة إلى رندل مول، باستثناء ذلك تدور معظم الأحداث في شقة بول ريمنت، بطل الرواية، في ممر كنستون. وحيث إن الرواية تدور في أستراليا، تأتي الرواية على ذكر أماكن أخرى في أستراليا.

مقتطف من الرواية

تطيح به صدمة من اليمين، حادة ومفاجئة ومؤلمة، كصعقة الكهرباء، ترفعه بعيدًا عن الدراجة. اهدأْ! يُحدِّث نفسه وهو يطير في الهواء (يطير بأَيسر ما يكون!) ويشعر بساقيه طَيِّعَتَين. يُحدِّث نفسه: دُرْ كقطٍّ، واقفِز على قدميك؛ استعدادًا لما يأتي. تبدو في الأفق أيضًا الكلمة غير المألوفة لمبر بإي آر أو لمبر بآر إي.١

إلا أن الأمور لا تجري على ما يرام. إما لأن رجليه تعصيانه أو لأنه يُصعَق في لحظة (يسمع صوت ارتطام جمجمته على الأسفلت أكثر مما يشعر به، بعيدًا، خشبيًّا، مثل طرقة المطرقة)، لا يقفز على قدميه إطلاقًا، وعلى النقيض يتدحرج مترًا وراء متر، ويستمر الحال، حتى يخمده التدحرج تمامًا.

يستلقي ممددًا في سلام. صباح رائع. للشمس لمسةٌ حنون. يوجد ما هو أسوأ من استرخاء المرء، في انتظار أن تعود له قوته. وقد يوجد ما هو أسوأ من أن تنتاب المرء غفوة خاطفة. يغلق عينيه؛ يَترنَّح العالم تحته، يدور؛ يفقد الوعي.

يفيق بعد برهة. ثَقُلَ الجسدُ الذي طار خفيفًا في الهواء، ثقل حتى إنه لا يستطيع أن يرفع إصبعًا لينقذ حياته. يلوح فوقه شخص يحجز الهواء عنه، فتًى بشعر ناعم وبُقَع على طول الجبهة. "دراجتي". يقول للولد، ناطقًا الكلمة الصعبة مقْطعًا مقطعًا. يريد أن يسأل عما جرى لدراجته، ما إن كانت في الحفظ والصون، حيث، كما هو معروف جيدًا، قد تختفي دراجة في لمح البصر، ولكنه غاب عن الوعي من جديد قبل أن تنطلق هذه الكلمات.