حين نتخلى عن النقد

النقد اليوم يعاني من سوء تقدير... ومن محاولة للانقلاب على دوره ومفهومه.
نبيل مملوك
بيروت

مخيف بات التعاطي مع مُفرَدة بحجم "النّقد" لا من ناحية النماذج المسمّاة نقدًا سواء كانت مقالات أو كتب أو دراسات٬ بل من ناحية تأويلها أو تفسيرها إلى حدّ السطحيّة وتحت مسمّى الحداثة والعصريّة في زمن الـmultimeadia والذكاء الاصطناعي.

ومخيفٌ أكثر صمت الجمهور العربي تحديدًا الذي يفتقر إلى ملكة القراءة أو احتراف انتقاء الكتاب وبالتالي يغيب التلقي وتتشتت القراءة٬ ومن هنا يطرأ السؤال: كيف تخلّينا عن النقد حين لعبنا دور النقاد المتفردين بالنص والمتفرد بنا؟ وكيف جنحنا نحو اللاشيء حين تم تذويبنا كجمهور يصفق للاسم أو المدونة أو كليهما؟

الناقد والنقد... جدلية أو معادلة واحدة؟

تبدأ القصة مع تعريف ابن خلدون للنقد من خلال توصيف الناقد في مطلع مقدمته الشهيرة "والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم". لعل هذا التعريف أو التحديد الصريح لمهمة الناقد الأساسية أتى دافعًا لتمسك العرب القدامى بتعريف لغوي محدود للنقد على أنه "تمييز بين الغث والثمين..." لكن هذا المناخ الانطباعي المسيطر على النقد سرعان ما سقط مع سقوط رفوف المكتبة على الجاحظ أحد النقاد الانطباعيين وربما البنيويين في بعض النواحي (رغم ظهور البنيويّة بعد قرون عدّة)، فالناقد المقبل على النص بغية المدح الكلّي أو الذمّ الكلّي أو الاقتصار على المزاوجة ما بين السلب والإيجاب انطلاقًا من تحديد ابن خلدون الإنف الذكر ما هو إلا محاولة لاجترار القديم وتقييد جائر للنّص وسياق لن يأتي للجمهور بجديد وسيزج المتلقّي في خانة التعرف إلى مشاعر الكاتب تجاه النصّ...

والحقّ أن الثورة الفلسفيّة والحركة الأدبيّة المتحوّلة في الغرب لاسيما في ألمانيا مع نشوء الماركسيّة وتفرع أجيال فلسفيّة ومذاهب فكريّة منها وخروج بعضها عنها أعطى شكلًا جديدا للنّقد يتجسّد بجعله مثلّثا يتكوّن من نقاط ثلاث التحليل (في القمّة )/ التفسير (في القاعدة) والانطباع (في الجانب الآخر من القاعدة) وبالتالي اتّخذ النّقد طابعًا فلسفيًا بدأ مع مناهج خارجيّة تمثّلت بالاجتماعيّة والنفسيّة والتاريخيّة والتربويّة ... لتأتي البنيويّة وموت المؤلف المولودة ميّتة كنظريّة لتنفجر ومفاهيم النقد القديمة القائمة على الإثارة والتهجم أو التسويق والتملّق والتي تتكرّر يوميّا في بعض المقالات والدراسات العربيّة الخاليّة من أي تحليل والصاخبة بالانطباعات والتفسيرات النصيّة، ليتحوّل "النّاقد "-رغم بروز التفكيكيّة والبنيويّة والبنيويّة التكوينيّة والسيميائيّة وثورة ميشيل فوكو المعرفيّة الجامعة ما بين المنهجيّة الخارجيّة (السياسيّة/النفسيّة/الاجتماعيّة) والداخليّة (التأويليّة/ البنيويّة...) وهجمة بول ريكور الإنسانيّة التأويليّة لصقل السرد- إلى حكاوتيّ يروي قصة كتاب أو يبجّل صديقه الروائي أو الشاعر وكأنّنا في جلسة صباحيّة أو عصرونيّة منسوخة بأنساق خطيّة.

بناء على كلّ ما سبق فالنّاقد يبقى موازيًا لمفهوم النّقد في شكله الحالي "المودرن"، حيث يقول أحد الروائيين "الموضوعيّة ليست ضرورية... قول الكلام الحسن والإيجابي هو المطلوب والمرغوب برأيي على الأقلّ" هذا التحسيس والإخضاع الممنهج يبعدنا عن النقد ويجعلنا ننظر للنص النخبوي على أنّه نصّ متعب وبدلا من أن يكون الناقد إمّا متخصّصًا لصيقًا بالنقد مناهجًا وبثقافته وملكاته التحليليّة، فها هو يتحول إلى جزء من "كورال" يرتّل لغة تسويقيّة تعشقها دور النشر لما ينتجها من بيع وتكون بردًا وسلامًا على نرجسيّة الكاتب المتلقي "للنقد" وتسلخ الناقد عن أدواته وتجعل صفته جدليّة مضادّة للنّقد.

الجمهور يقرأ على ليلاه...

حين صعد المتنبّي شعريًّا وخطابيًّا ليبني بيته الشعريّ الشهير: "أنام ملء جفوني عن شواردها / ويسهر الخلق جراها ويختصم" تهافت الجمهور ليجمعوا أن المتنبّي غير مبالٍ بنقد الآخرين لشعره... والثابت أنّ هذا التأويل قد يكون صحيحًا٬ لكن ما غاب ربّما عن البعض أنّه قد يكون بيتًا مؤسسًا لنظريّة موت المؤلف قبل قرون من ولادتها... صحيح أنّ النظريّة الغربيّة تعني خروج حياة المؤلف من النص والإبقاء على عناصره اللغويّة والفنيّة أو الشعريّة والبنيويّة... لكنّ المتنبي يتقاطع مع موت المؤلف حين ترك الجمهور يشتغل ويحلّل ويفكك ويستخرج دون إذن مسبق منه...

هذه الإشارة تعني أنّ النقد محاكمة تجعل الناقد محاميًّا يترافع عن النص المتّهم بالجماليّة أو الإخفاق أو الاثنين معا٬ المتهم بأفكاره وطيّاته... ليكون الجمهور قاضيًا يحكم لصالح قراءة النص أو لا... وهي مسؤوليّة تتقاطع مع مسؤوليّة الطبيب الذي قد يقنع المريض بتجرّع الدواء أو لا يقنعه...

والنّقد عمليّة قائمة على التغيير والتحوّل وما مارسه المفكر السوري جورج طرابيشي (توفي عام 2016) تجاه غريمه محمّد عابد الجابري من مدح مبدئي لتكوين العقل العربي معترفًا أنه نقله من الأيديولوجيا إلى المعرفة المنهجيّة ومن ثمّ التحول بكشف الثغرات بشراسة والتحليل وتقديم انطباعات قاسية وما أصر على حرب عليه من عدم تقديم الحلول واقتصار عمله النقدي على التفكيك، وكذلك اتجاه شريعتي في كتابه الإمام علي في محنه الثلاث لتقديم "بورتريه" خاصّ فكريّ للإمام علي بن أبي طالب يتقاطع تمامًا مع ما طلبه المتنبي بشكل مضمر في بيته الطافح بنرجسيّته لو قرأ بصيغة مباشرة...

لذا اليوم نرى الجمهور واستنادًا لغياب دور الناقد المنشغل وتحوّله التدريجي لقاص يكتب وفقًا  لجمهور يهوى القراءة على ليلاه رافضًا ثقافة الاختلاف لغة وأسلوبًا ونهجًا وأخيرًا رأيًا... يضعنا أمام تشويه للنقد بصيغة جماعيّة هائجة... تجعل النقد وجبة fast food نتناولها سريعا لننتقل إلى الأكثر إيجازًا.

يعاني النّقد اليوم من سوء تقدير... ومن محاولة للانقلاب على دوره ومفهومه... صحيح المساحات شاسعة للتعريف، لكن أن نبني أشكالًا كتابيّة تحصّننا فقط لأنّنا شعراء مشهورين أو روائيين كبار نتقاعد عبر كتابة ما لا يشبه النّقد أو شباب نحاول تقليد فلان أو الإذعان لرأي فلان.