خيرالله سليم يحتمي بمنجزه درءا من خراب الوجود

التشكيلي السوري لا يتجنب المخاطر متطلعا إلى حداثة قادرة أن تظهر خصوصيات ألوانه، وقادرة أن تستوعب تطلعاته ومقارباته.

إن قراءة أعمال الفنان التشكيلي خيرالله سليم السوري المولد (حمص 1953)، والفلسطيني الجنسية في ضوء نهوضها، وتشكلها وكيفية بنائها لا بد من التفطن لكل ما يمكننا من احتوائها، فهي منخرطة في الزمن الميقاتي/الحاضر لا بوصفها مرجعيات عينية له، ولا بوصفها كيانات مقفلة عليه، بل بوصفها جهات تحمل في صميمها بوصلتها بها يهتدي إليها وإن لم يكن تماما فإلى صداها التي تعلن عن نفسها بإلحاق هذه النفس بجموح ما يجاهد من أجله، فينفتح الباب على المواجهة ما بين الواقع في لحظة التقاطه، وبين الخفي المحجب منه الذي قد يكون غلوا في وصفه، أو مبالغة في نقل هديره.

والحال هنا أن الأعمال لها مقدرتها على الفعل فينا، والبقاء في دائرة ترحالنا فيها تاركة مجراها في حالة من التدفق حتى وهي في لحظة المكاشفة عن نفسها، أو في اللجوء إلى رؤية بيانية تتم بالاعتماد على ما يمكن تسميتها بالمضمرة المتكتمة على نفسها، إن كان في صمتها الذي يتجلى في أشكال واعية منها يتسلل مجمل آرائه، أو في تحولاتها في صميمها كقوة جذب لا تحد من اندفاعاته فحسب بل تحرضها كصياغات لمعاني الغرض منها المضي بها إلى ذروة التناغم الإيقاعي الدلالي، وإجراء ما ينظم ذلك.

وهذا أمر لا يحصل إلا إذا كان المعتاد مكسورا لديه والدروب الجديدة مفتوحة له وفق متطلبات جديدة وهامة ستلح عليه للسير فيها بعيدا أو قريبا من كل ما قد يتراءى له من الماضي أو ما يمكن أن يشده إليه، وما صياغاته اللونية إلا إشارات لرؤيته لهذا العالم، وطريقته في إقامة تصوراته كضرب من النسيج المستمد قوته من قدرته على الفعل في المتلقي واستنهاضه وحفزه وإثارته، وعندها من الطبيعي ألا تغيب عنه أسرار تمعنه وتربصه في الإبهام الذي قد يظهر في لحظة تشكله لذاته.

ويكفي هنا أن نستحضر العديد من أعماله التي تضج بوجوه نسائية لكل منها حكايتها ووجعها تسردها لنا كإستيهامات ذاتية متباعدة حينا، ومتقاربة في حين آخر تحول مقاديرها لا من محض صدفة زخرفت تداعياتها بل كتعبير مأهول بالرغبة إلى ينابيع صارخة بالقلق وهي تقترب بتدفقها من جماليات المصب/المأوى دون أن تعجز في الجريان والذهاب في المسافات من قسوة الحياة والواقع إلى فظاعة الزمن ومرارته، لا يتجنب المخاطر التي قد تكون بوابة لإبراز المنفعة المعرفية بخصالها الكثيرة التي لا حدود لدوائرها، والتي قد تفي بحاجاته من جانبيه الجمالي والدلالي معا.

نعم لا يتجنب المخاطر متطلعا إلى حداثة قادرة أن تظهر خصوصيات ألوانه، وقادرة أن تستوعب تطلعاته ومقارباته، وما لم يجاهر به بعد، فهو يحتمي بمنجزه درءا من خراب الوجود، ومن دبيب الإنسان على هذه الأرض وضوضائه، وكأنه يتمسك بالزمن على طريقته، بلحظات محددة يغرسها في أديمه، لا رغبة في الإبهار، ولا استسلاما لإغراءات اللون، بل حالما بمغادرة الرعب ومداراته، وبفض كل ما هو مكدس فيها من صور ومجازات وأحابيل، حالما بمعاودة الحنين ولوعاته، وبكل ما يزدهي حولها من إستيهامات بجدوى السبيل إلى كل ما يجمع المكان بمفرداته كلها.

وبالاستناد إلى ذلك الحيز الممتد من رحاب حركاته وما يجسدها في وجوه وأوجاع إلى عتبات أحداث تقتطع من مقولاته الكثير فاعلاً في ملامحها سبلاً مؤدية إلى استنساخات موغلة في البعيد، فيقوم باستنهاض البعد المحجب من الواقع ذاته بتلك الذاكرة الممعنة في التخفي، المأهولة بالرغبة في السطوع حتى يضيع الفارق بين الحدود ليشرع في اختزال المسافات بمقدرته وسطوته على الاندساس في الممارسات التي يحرص على تخطيها إلى منجز لا يعجز عن الصعود إلى تغريبتها وما تحمله من حكايات لها التواءاتها ومفاجآتها، لها وعيها الحداثي بكل ما يجري من مناورات في جملها ليس توثيقا بل تعبيرا عن رفض لبراثن باتت تفتك بالمكان وبالزمان، عن رفض لكل صخب الحياة، لكل الويلات والمحن مكتفيا بذاته، بابتداع صور طافحة بمدركات هي التي تسمح له بإعادة إنتاج الواقع بلغته هو. 

أحرص في مقاربتي هذه لمنجز خيرالله سليم أن أكون بطاقتي الإيجابية، فالميدان الذي أجول فيه معتم وفيه من التمرد ما يمكنه من محاصرة بعض الملامح بآمالها وخيباتها وحيراتها، بل برموزها وبكيفية توظيفها في النص حتى يكون لها وقع التغيير وإبرازه، ملخصا مرحلة من المواجهة الذاتية له، مرحلة تعلن عن نفسها في شكل إخفاق أو انكسار، في شكل تنديد أو تشهير، أو في سجال قد يشهد على الانحدار الكبير للواقع نحو القاع، الواقع الذي بات مقبرة للآمال والأحلام، فيها تتراجع حركة الإحياء وما يدور في عمقها مما تبقى من أصداء الوجود إلى الشروع بالأسئلة المرتدة التي تمضي مع الإيقاع إلى المنتهى، إلى حتفها، والتي قد تشكل فيما تسمى مرحلة الإنسان والصراع وتناقضات الحياة، فمهما تبرأت هذه الحياة منه، من الإنسان فهي ذاتها التي تورطه في اللجوء إلى إبعاد الإضافات التي قد توهمه بالخذلان، والاكتفاء بعصارتها في مكونات طافحة بالجميل، فلا جدوى من تقديم صك البراءة، فمهما كان يرمي الملامح في الزوال فهو منخرط بالبحث عن تفاصيلها بمفرداتها الدقيقة في حضرة لحظة المكاشفة، اللحظة التي تطال الموجودات كلها قبل أن يطالها التشيؤ.

سليم لا يعلن الخذلان الذي بات سمة العصر وزاده، بقدر ما ينهض بما هو مستبطن من وعي درامي قادر على الانقلاب والمطالبة بتبرئة الوهم من الدفاع عن السراب، فيلجأ إلى استحضار إضافات مفتتنة بذاتها وتسري في مفاصله أقصد في مفاصل المنجز بطيئا ثقيلاً وكأنها تمتثل لضرورات هي أقرب للتعبيرية الشعرية التي ترزح تحت ثقل لاوعي درامي قد تسمح لرؤيته ورؤياه بتوسيع مجالها وكأنها تكتسح المجهول لتضع على عتباته التيه، أو ما يصاغ من متطلباته الطافحة بالشجن، فماذا على خيرالله سليم أن يفعله أمام هذا العصف الكبير غير الإلحاح على أن الخطر كبير ومخيف، له مظاهره وأولياته التي لن تفي كل النبرات التبشيرية الحماسية التخفيف من آثار الخراب التي أصابت الروح من نقي شهقته.