دراسة تضيء على الصور الشخصية للملوك البطالمة في الأسلوب المصري

ترجمة هذا المؤلف القيم تعد إسهاما مؤثرا يفيد القارئ العام والمتخصص وكذلك الباحثين في هذا المجال الهام من تاريخ الفن المصري القديم.
صبحي عاشور
حلوان

تعد دراسة الفن المصري في نهاية عصر الأسرات الوطنية وكذلك خلال عصر الاحتلال الأوروبي الأول (الإسكندر الأكبر وخلفاؤه) واحدة من أواخر الحقول التى لاقت اهتماما حقيقيا من العلماء، فحتى 1960 لم يكون هناك جهد منظم لفهمها قبل كتاب B. Von Bothmer, Egyptian Sculpture of the Late Period 700 BC-100 AD, Brooklyn 1960، وكما يبين من عنوانه، فهو سجل لدراسة المنحوتات المصرية في العصر المتأخر بين 700 ق م وحتى 100 م، حين توقفت ورش النحت المصرية عن إنتاج هذه التماثيل تقريبًا، إلا في حالات معدودة بالنسبة للملوك والأفراد، بينما استمر إنتاج المنحوتات يونانية الأسلوب حتى انتشار المسيحية.

يمثل كتاب بول ستانويك Portraits of the Ptolemies Greek Kings as Egyptian Pharaohs, The University of Texas Press © 2002 s  إسهاما علميا مهما في الحقل من الدراسات الفنية المتخصصة أيضا. 

كما أن ترجمته إلى العربية تعد أمرا مرحبا به من ناحية الموضوع: وذلك لقلة الكتابات باللغة العربية أو الأجنبية عن الفن المصري خلال العصر البطلمي خارج دائرة الدراسات الأكاديمية. وهي ترجمة قام بها الدكتور جلال الرفاعي وهو نائب مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، وحاصل على درجة الدكتواراه من جامعة روما لاسابينسا في مجال الفن المصري خلال العصرين اليوناني والروماني، لذا فهو مؤهل للقيام بهذه المهمة على أكمل وجه. كما راجعه أستاذ كبير في علم الآثار المصرية هو الحسين عبدالبصير، وله مؤلفات عدة عن الفن المصري وكذلك أعمال أدبية مرموقة تستلهم تراث مصر القديمة.

كما تعد ترجمة هذا المؤلف القيم إسهاما مؤثرا من المركز القومي للترجمة بإخراج هذا الكتاب ضمن المشروع القومي للترجمة، بما يفيد القارئ العام والمتخصص وكذلك الباحثين في هذا المجال الهام من تاريخ الفن المصري القديم.

كان هذا العمل في الأصل أطروحة دكتوراه تم نشرها فيما بعد، تناولت المنحوتات الملكية مصرية الأسلوب. وتميز الكتاب بشمول المنهج ونفاذ الرؤية إلى مفهوم السياق بشكل موفق، فيناقش الباحث السياق السياسي للصورة الملكية المنحوتة، وكذلك سياقها الديني والحضاري. ويقدم إسهاما حقيقيا حول تصنيف هذه الصور الملكية والتعرف على أصحابها وتأريخها، وتقنيات نحتها وهو القلب من إشكاليات دراسات الفن القديم عموما.

وربما يزيد من أهمية الكتاب هو الفهم المتعسف للتفاعل الحضاري في هذه الفترة من تاريخ مصر القديمة، فبالرغم من وجود حكَام أجانب إلا أن الحضارة المصرية كانت هي الأقوى تأثيرا على المدى الطويل، حيث تقف الفنون والمباني المصرية في هذه الفترة دليلًا مهما على حركية وديناميكية الحضارة المصرية وصلابتها، إنه مشهد الختام الفرعوني الذي قد يتصور البعض أن أسلوب حياة المصريين من عبادات وملبس ومأكل وفنون قد تحول تماما إلى اليونانية لكن الحقيقة التاريخية تشير إلى العكس من ذلك تماما. فقد توجب على الحكام اليونايين أن يقدموا أنفسهم بهيئة الفراعنة الوطنيين إلى جموع المصريين، وأن يظهروا كرعاة للتقاليد الدينية المصرية تماما مثل اليونانية. وبعد فترة لا تتجاوز قرن واحد من الزمان يظهر حضور طاغ للتقاليد المصرية في سبيكة الحضارة الرائجة في هذه الفترة. حتى أن خامس الملوك توج في منف "عاصمة المصريين الخالدة" احترامًا للمصريين وتقاليدهم، وقد يفسر ذلك لماذا كانت كليوباترا السابعة تتكلم المصرية بطلاقة.

لا ينصرف موضوع هذا الكتاب إلى دراسة هذه التحولات الكبرى في مسيرة الحضارة المصرية مجتمعة، لكنه لحسن الحظ يقتطع "الصور الشخصية الملكية المنحوتة" فقط، كأحد جوانب هذه التفاعلات والتحولات، لكنه في نفس الوقت يدرسها فى ضوء فهم مُحَدَثْ وعميق لكل هذه الخلفيات الحضارية. ويكمن ذلك من خلال كل المادة الأثرية المتاحة وكذلك المادة المكتوبة، ورصيد كبير من الدراسات والمراجع السابقة في الموضوع.

يأخذ الكتاب بيد القارئ المتخصص وغير المتخصص ليعرفه ماذا يعني تمثال/صورة بالنسبة لليونانيين والمصريين ويبحث في خلفيات المسميات والتقاليد النحتية، وكذلك أهميتها من ناحية الفكر السياسي والديني المصري. ويستعمل كل الاستنتاجات التي يمكن الوصول إليها من المنشورات الملكية والقرارات الكهنوتية مثل لوحة الاحتفال بالانتصار في رفح أو اجتماع الكهنة في ابي قير 238 ق م، أو حتى حجر رشيد نفسه ليحدد الاصطلاحات والدلالات الفنية لطرز التماثيل والأشكال التي روج بها الحكام البطالمة لأنفسهم بين رعاياهم المصريين. لكن القارئ سيتبين بسهولة حجم الدور الكبير الذي لعبته "الصفوة المصرية" وخاصة الكهنة أصحاب المصالح والنفوذ، في ترويج هذه الصور كاستمرار للتقاليد المصرية لتثبيت وتوطيد حكم الملوك الأجانب عبر هذه الفترة.

يشير المؤلف إلى أربعة مفاهيم أساسية عن الصور الملكية البطلمية، وهي الأخلاق، والقداسة، والشرعية، و"اليونانية". وينتهي إلى أن قرارات المراسيم الكهنوتية المتعلقة بمشهد ضرب الأعداء تعكس دور الملك كمدافع عن أرض  مصر، وكان هذا المشهد بمثابة الرمز الممثل لمهامه الأخلاقية. وفي الوقت نفسه، فإن sḫm وتعني تمثالا تشير إلى قدسية الصور الملكية "كآلهة مشاركة في المعبد" "sunnaoi theoi"، كما أنها جسدت القداسة الملكية للبطالمة كورثة للفراعنة وللإسكندر الأكبر. ومفهوم الشرعية الذي تعكسه المجموعات النحتية للعائلة الملكية حين يظهر الآباء مع الأبناء أو الزوجات وهكذا. ويختتمها بمفهوم "اليونانية" والذي يظهر من خلال معالجة الشَّعر وسمات الوجه اليونانية، وهو المفهوم الذي قد يتحفظ عليه كاتب هذه السطور، حيث يرى أن اختلاط هذه التقاليد الفنية اليونانية والمصرية يرجع إلى سياق أعم وأوسع يشمل غالب ألوان فن النحت والعمارة في مصر تحت الحكم البطلمي وليس صور الملوك فقط، وكانت تميل إلى المزج بين هذه التقاليد.

يهتم الكتاب كما ذكرت بالسياق الأثري - حيث نُصبت غالب هذه التماثيل والصور في معابد مصرية - محاولًا أن يستكشف مواضعها داخل هذه المعابد، ودلالاتها السياسية والدينية، وكذلك المنحوتات التي عثر عليها في العاصمة والتي كانت تزين ساحل البحر السكندري، فقد كان البطالمة يقدمون أنفسهم "كفراعنة" لزوَّار المدينة من أنحاء البحر المتوسط  المختلفة. وتتمثل إحدي الميزات الهامة في هذا الكتاب في تعميق فهمنا لخصوصية الصور الملكية البطلمية في جمعها بين عناصر ومفردات فنية موغلة في القدم، وبين تجديدات ظهرت في ذلك العصر. وبالرغم من كونه اتجاها بحثيا قديما إلا أن المؤلف انتقل به إلى مستوى جديد من ربطه بمفهوم الطراز "التمثال الواقف" أو الجالس أو تمثال بهيئة أبي الهول وغيرها.

كما يفرد الكتاب دراسة متأنية لكل العناصر التصويرية التي تظهر مع صور هؤلاء الملوك سواء كانت مصرية أو يونانية (التيجان المصرية – الملابس - الرموز والمخصصات - عصبة الرأس الملكية اليونانية)، ليفسرها أو يعيد تفسيرها ضمن رؤيته الشاملة لأهمية الصورة كوسيلة تواصل بين الحكام والمحكومين في هذه الفترة، بالإضافة طبعًا إلى النقوش الهيروغليفية أو اليونانية - حين تكون موجودة.

ويلفت الانتباه أن المؤلف يفرد نفس الاهتمام بصور الملكات بقدر أهمية صور الملوك أيضًا، وكذلك العناصر التصويرية الملكية اليونانية والمصرية التي ظهرت معهم، فقد كانت ايزيس - الإلهة المصرية القديمة - هي المفتاح السحري الذي استخدمته السياسة البطلمية في مصر وخارجها لتقديم الملكات كأشباه لها أو حتى كتجليات لهئيتها كما فعلت كليوباترا السابعة "ايزيس الصغيرة"، كما لقبت نفسها.

يهتم المؤلف أيضا بالتماثيل التي تحمل نقوشًا سواء أكانت هيروغليفية أو يونانية أو بالخط المصري الشعبي "ديموطيقي" ليحاول اكتشاف دلالتها وعلاقتها بأماكن العثور عليها، والتي تظهر عبر قرون حكم البطالمة الثلاثة. ليؤكد أن هذه الصور كانت موجهة بشكل رئيسي إلى جمهور الرعايا المصريين أو الطبقة الجديدة التي جمعت بين نسل اليونانيين والمصريين "المتأغرقين".

يعد التعرف على هوية الملوك والملكات البطالمة من المسائل الصعبة في تاريخ الفن، لتشابه الملامح حتى في صورهم على الأسلوب اليوناني الذي يتميز بقدر من الاختلافات، وهو ما يجعل التعرف عليهم في منحوتات الأسلوب المصري أمرا أكثر صعوبة. وفي هذا الإطار الوعر تمكن المؤلف من تقديم وجهات نظر علمية جديرة بالاعتبار حول هوية العديد من المنحوتات الخلافية، داعما بحثه بأدلة مقارنة من الفن اليوناني وكذلك نقوش المعابد المصرية والأختام والمصادر الكتابية سواء على المنحوتات نفسها أو النقوش الهيروغليفية المختلفة ليقترح تأريخا معينا، يسهل التعرف على الشخصيات المصورة. كما وظف هنا الأستاذ ستانويك المعلومات المتاحة عن السياق الأثري وموضع الاكتشاف ليعضد استنتاجاته الزمنية. وكما هو متوقع استعمل المادة الأثرية المؤرخة بعناصر خارجية لتأريخ قطع نحتية مشابهة من ناحية الأسلوب الفني مع القطع المؤرخة بدقة أو بالأحرى الأقل جدلا حول تأريخها. ويعد هذا الفصل درسا مهما لطلاب كليات وأقسام الآثار والباحثين المتخصصين، في موضوع قلما تظهر فيه كتابات باللغة العربية.

كما يهتم كتاب الأستاذ ستانويك بمفهوم "أسلوب التنفيذ الفني" وذلك ضمن إطار المجموعات التي قسم الصور/التماثيل إليها، ويؤسس علاقة الأسلوب المصري في العصر البطلمي المبكر مع تصوير ملوك الأسرة الثلاثين، ثم يتتبع تطور هذا الأسلوب خلال القرنين الثاني والأول ق. م بداية من فترة الملوك الصبية (بطلميوس الخامس والسادس) كما يسميها المؤلف. كما يستطرد المؤلف ليربط هذه التطورات الأسلوبية بالسمات العامة لكل ملك أو ملكة بطلمية وبالأحداث الرئيسية الكبرى في تاريخ المملكة البطلمية الحافل بالدعاية السياسية وبالحروب والدسائس والمكائد والاغتيالات والزيجات الأسرية.

يناقش المؤلف أيضا في فصله المعنون "جيل من المبدعين" خلفيات النحاتين/الحرفيين الذين قاموا بتنفيذ التماثيل والصور الملكية البطلمية، ويميز المؤلف بين الأسلوب الهليني، والأسلوب الوسيط والأسلوب التقليدي المصري. ويرى أن العاصمة الإسكندرية وضاحيتها القريبة ابي قير كانتا مقرا لفناني الأسلوب الهليني، وفيه تظهر عناصر مصرية مع يونانية بشكل متجاور ومتجانس في العمل الفني الواحد. بينما يخصص الأسلوب الوسيط إلى مواقع بعينها مثل مدينة ماضي بالفيوم وهي أقل يونانية من الأسلوب الأول، لكنها أقل تقليدية من الأسلوب المصري الخالص، الذي يرى أن مركزا عتيقا مثل منف كانت هي الحاضنة لاستمرار إنتاجه، وكذلك مصر العليا وبخاصة طيبة. يفتح هذا الاستخلاص بابا لمناقشات مهمة حول تحول الشخصية الفنية لصورة الحاكم في مصر خلال هذه الفترة، مقارنة بآراء أخرى قد تتفق أو تختلف مع الأستاذ ستانويك، إلا أنها تعمق النقاش حول منحوتات الورش المصرية من الحجارة الصلبة ذات الأسلوب  المصري/ اليوناني، "البطلمي" كما يفضل كاتب هذه السطور أن يسميه.

يضم الكتاب أيضا كتالوغا قيما لجسم المادة الرئيسية من المنحوتات المصرية الأسلوب والتي تصور ملوكا وملكات من هذه الفترة. رتب هذا الكتالوغ تاريخيا بحيث تضم المجموعةA  المنجوتات بين عصر الإسكندر الأكبر وعصر بطلميوس الرابع، بينما تضم المجموعة B منحوتات عصري بطلميوس الخامس والسادس، والمجموعة C منحوتات عصر بطلميوس الثامن، بينما اشتملت منحوتات المجموعة D على تماثيل تصور كليوباترا الثالثة وولديها بطلميوس التاسع والعاشر. وتضم المجموعة E بطلميوس الثاني عشر وابنته الشهيرة كليوباترا السابعة وتبنها قيصريون. وتضم المجموعة F منحوتات بطلمية مصرية الأسلوب غير محددة التأريخ. وتضم المجموعة G منحوتات من العصر الروماني.

من خلال هذا الكتالوغ والفصول المتعمقة عن الأساليب الفنية والتأريخ والخلفيات الدينية والسياسية والفنية التي تقف وراء الاختلاف والتباين والتطور في إنتاج الصورة الملكية في مصر خلال هذه الفترة، يأخذ كتاب الأستاذ ستانويك أهميته بين الدراسات المرموقة التى تهتم بالفنون المصرية خلال العصر البطلمي. كما يتيح الكتاب المترجم مدخلًا مهما للقارئ العربي أن يتعرف بدقة وبيسر في نفس الوقت على نتاج دراسات متعمقة في أحد التقاليد الفنية والحضارية التي لا تزال بعيدة عن متناول القارئ المصري والعربي، رغم أهميتها في فهم الظهور التدريجي "للفن القبطي" فيما بعد.