زهير دباغ يلامس الذات الحقيقية في أعماله

الفنان التشكيلي يسعى الى قطف فاكهة التجريب وليس مهماً إن كان الطريق إليها بعيداً أم قربباً سالكاً أم غير سالك، فهو يبقى في جريه حتى يدخل حقلها تماماً.

"يهمني أن يرى الناس هذا الجسر الطويل من تاريخ الأعمال، خاصة أنني خسرت أعمالي في هذه الحرب" مقولة قالها الفنان التشكيلي زهير دباغ (1953) تعليقاً على معرضه البابانورامي الذي أقامه في بيروت عام 2017، وضم نتاجه من 1981 إلى تاريخه، فرغم أن نتاجه الممتد لثلاثين عاماً أكلتها الحرب، وأحرقتها نيرانه، ذات النيران التي أكلت حلب مدينته، والبلاد، ورغم ذلك فوتيرته لم تتوقف، وعشقه للريشة والإزميل لم تهدأ، بل إصراره على أن الفن أقوى من كل طواغيت الأرض، وبأن الفن باق والطواغيت إلى زوال، فإزدادت همته وإرتفع عنده منسوب التحدي، وبالتالي إرتفع منسوب التراكم من فائض الإنفعالات، فكان لا بد له من البوح عن الداخل بإستدلالاته الرامية الأطراف، الواسعة الأرجاء، كان لا بد له من ترجمة إستغراقاته الكلية وتأملاته الجوهرية مع ماهيتها، في جانبها الروحي والنفسي والمعرفي، وما تحدثه من حركات ملتصقة بالشعور وبالجواني الإنفعالي، بمنطق التصورات، والمكاشفات وما ينفتح أمام عوالمه من أسرار وآفاق.

وفاكهة التجريب هي التي يسعى دباغ إلى قطفها، وليس مهماً إن كان الطريق إليها بعيداً أم قربباً، سالكاً أم غير سالك، فهو يبقى في جريه حتى يدخل حقلها تماماً، وتبدأ عملية القطف أولاً، والأكل ثانياً، فكما كان يسرق الفحم من منقل جدته ويصعد على الجدران، ويرسم أمام الأولاد، عصفوراً أو جملاً، وينتشي فرحاً بإنجازاته، فهو يسرق فواكه جديدة من حقول التجريب، ولسنوات طويلة وهو يمارس هذه العملية بفطرته علّه يعثر على حلمه الذي جاءت الحرب لاحقاً ليخطف سلته من فواكه تلك ويحرق حلمه ويتم بعثرة رمادها في الفلوات، ولكن السائق لم يهرب بعربته وأقصد هنا دباغ حين حلّ الدمار بمرسمه، بل إزداد ولعاً بالمكان، وبالطين، والألوان، فكان لا بد أن تكون سلته الجديدة مليئة بكل ما يشتهيه نفسه من لوحات ومنحوتات، لم يكن يغيب عن القطف مطلقاً، ويرتدي حواسه ويمضي كي يكسر الصمت الذي صعد فيه لبرهة، ثم تلاشى ولكن إلى أين، إلى صخب يثقل كاهل أشكاله، كاهل مجسماته التي بقيت تركض في مهجعه الأخير، وكاهل لوحاته التي إستمرت في الأنين.

فدباغ يحضن وجعه وحروفه، عنوانه ومسالكه، ناظراً إلى مدركات الحواس، وإلى ترتيبات محاورها وما تفرع عنها، فهو يعي أن مقاربة الذات لمكوناتها المتعددة يبدأ من دوائرها الداخلية ،أو من إبتهالاتها إلى التناسق والتناسب لمنحى معالمها - حسب مقتضى الحال - فثمة مقاصد بحثية يمكن الوصول إليها، وإن كانت هناك مكابدات قد تعترضها هنا أو هناك، بالإعتماد على إشارات غير مؤطرة، تتخطى مساعيها لمسعاها، وكأنها تهرب إلى اللانهاية.

زهير دباغ رغم أنه كان يحب أن يعرف كنحات لا كملّون، ولكن ظروف المأساة جعلت الكفة تتأرجح إلى جهة اللون، بعد إنقطاع لم يكن بالقصير يعود دباغ إلى اللوحة والألوان، مبتعداً قليلاً عن الكتلة والإزميل، وإن كانت علاقته مع اللوحة هي علاقة نحات، فهو يتعامل مع مساحاته البيضاء بالسكين وكأنه ينحت منحوتة ما من طين أو أية خامة أخرى، فهو ومع السنين المُرّة أدرك أن النحت يحتاج إلى مكان وأدوات كلها تحتاج إلى مساحة تشتغل عليها، فأين له هذا المكان وكل الأمكنة باتت خراب وفي خبر كان، ربما هذا ما جعله يميل إلى القماش الأبيض والألوان وإن بلغة النحات، بلغة يبحث عن تفاصيل اللحظة، بزخمها وأسرارها وقدرها، حتى يلامس الذات الحقيقية في اللوحة ، والتي قد يستعيد بذلك الوجه الآخر للأشياء، الوجه المشبع بفصول كانت تضفي نوعاً من التوازن للمعبد الذي كان برتل فيه حياته، ودباغ لا يعترف بوجود حدود بين أنماطه المتنوعة التي يشتغل عليها، بين المنحوتة واللوحة، فوفق مقتضيات سياقهما يتحكم على نحو ضمني وصريح بتقاطعاتهما، وهذا يسهم في رفع غنى وتنوع تجربته.

ويمكن القول إن هذه الغنى وهذا التنوع يجعله أقصد دباغ يسلك طرق إنتاج جديدة، طرق تجعله قادراً على دفع فعل التأويل نحو مسارات غير محددة، وقادرة بدورها على إنتاج ممكنات نصوصه الدلالية، فكل نص وبعد التداخل بين مستوياته يزود بطاقات من الفعل المضمر، وحسب موقعه من إنتاج الدلالات الإيحائية تحدد طبيعة تلك الإيماءات التي ستتوالد على إمتدادات عملية الخلق، وليس غريباً هنا أن ينفلت من دباغ نسقاً في حدوده المرئية، فيستهويه هنا كل ما هو مستعص على الضبط، فيصحو جيداً حتى ينتشي تماماً ليقدم على فك رموز تلك الطاقة المبهمة وكشف أسرارها، ورصد جوهرها، فيطلق العنان لها حتى تتسامى القيم والمواقف معاً، وحتى يتبلور ثيماتها الرئيسة التي عليها تحال الكثير من الوضعيات الممكنة، المتعلقة ببداية ولانهاية مسارات حداثية تحمل رهانها في قدرتها على التحول وعلى التجدد، وبالتالي على خلق متلقيها القادر على التفاعل معها وإن كان ذلك يحتاج إلى تراكمات معرفية بصرية كفيلة بالشروع في مغامرة التفاعل والبحث .