سليمان شيخو يترك الأقنعة ليعيدنا إلى العوالم النقيّة

سليمان شيخو يعيدنا إلى مرحلة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي حين كانت الواقعية التسجيلية هي اللغة التي كانت متداولة آنذاك والتي كان يتحدث بها معظم الفنانين أبناء تلك المرحلة.

هو ابن الريف الجزراوي حيث ولد في قرية 'خاص ملية' الواقعة بين مدينتي عامودا والدرباسية على التخوم التركية عام 1959 لهذا بقيت المفردات الريفية تلاحقه في مجمل أعماله، الطبيعة بسردياتها وفصولها وما تحملها من هضاب وسهول ومواسم، المرأة بملامحها وأعمالها وبساطتها وما تنبض بها من عطاءات وحب وجمال، الفلكلور والتراث والعادات بإيقاعاتها في رسم الحياة، فهو يركب حافلة تلوح له ملتمعة خيوط فجر لم يغادره قطّ، خيوط خطى متسللة كالهاربة نحو مشهد بات ينسحب من الموقع الثابت، نحو مشهد ليس موجوداً إلا قيد الوصف والمعاينة ، فهو لم يهرب من المكان مهما ضاقت به السبل، مهما انتابته الهواجس وحاصرته الأفكار، يأبى مغادرة الزمن كما أبى مغادرة المكان، فهو ما زال يقطن مدينة عامودا، المدينة التي تستبطن عواطفه ورغباته وآماله، فهذا التشبث ينبثق من صوته في شكل حوار باطني، ولا تكمن المسألة في الثأر من الأجوبة عن أسئلة باتت محرمة، بل بات طرحها يذيقك الجحيم بعينه، نعم لم يغادر شيخو عامودا رغم الخراب الكبير لروحها، فهو يسكنها وهي تسكنه وبالتالي تسكن أعماله التي هي مرآته في سعيه نحو الحياة المرجوة، هي حكاياه التي جمعها من حشرجات نفسه ونفس المدينة التي تتدخل الأقدار لإفساد الزمان فيها وتركها لمكائد الزمان، فهو يقوم برحلته فيها دون تيه ودون جنون ويعترف بأن لكل عامودي شفاءه وجنازته وألواحه المفقودة التي كان قد تركها له الأسلاف الأوائل ويعترف بأن لكل عامودي نبوءته التي قد يفني حياته بحثاً عنها وعن ذلك الضوء الخجول، الضوء الخفي الذي سيجود له بذلك السر الذي سيبدد له الظلمات في هذه الرقعة الموجعة وسيعثر على تلك السعادة الأبدية التي طالما انتظرها عشاق نال منهم الحنين.

سليمان شيخو يعيدنا إلى مرحلة الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت حين كانت الواقعية التسجيلية هي اللغة التي كانت متداولة آنذاك والتي كان يتحدث بها معظم الفنانين أبناء تلك المرحلة، إن كانت بالعودة إلى الطبيعة واقتناص مشاهد خاطفة منها، أو بالعودة إلى تلك الحياة البسيطة بعوالمها النقية، نعم يعيدنا شيخو إلى تلك المرحلة وإلى مداراتها التي لم تقرأ إلا أفقياً فالأمر لم يكن يحتاج إلى جهد كبير ولا إلى مغامرات ولا إلى حركات تعاندها الريح، بل إلى الكثير من النبل والكثير من الحب يكفي أن يتضح المشهد إذا قلنا إنها مرحلة لم تكن غنية بالوحوش كما الآن ولم يكن الناس فيها يهربون من بعضهم ويخشون بعضهم كما الآن، كانت مرحلة لم تكن تنهكها الأحزان والحياة لم تكن نجسة كما الآن، فليس غريباً ونحن نطوف بين لوحاته أن نرى فتاة تعزف على آلة موسيقية (الطنبور أو الدف مثلاً)، أو مشاهد الحصاد بحرارتها واختزالها لكل مقاطعها السردية والتعاون المثمر بين الرجل والمرأة  بل بين أهل القرية جميعاً، فالعلاقة قائمة بين أكثر من شريحة من الحياة فلا مجال للتفكير هنا ولا وقت للبحث عن الإلهام ومصادره أو حتى انتظاره،  على الفنان أن يلوح بريشته وألوانه حتى يجد نفسه متوهجاً، يرتمي روحاً داخل النص، أقول ليس غريباً أن نجد بين لوحات شيخو فتاة تضع يدها على خدها بحيرة أو بحالة انتظار، أو مشهداً لعاشقين من ملحمة كردية مم وزين مثلاً أو سيامند وخجى، أو امرأة حالمة تنتظر من تحب لتغويه وتهديه تفتّحها، أو وجهاً كردياً لامرأة تلبس طقماً من الهباري الموصلية ويتأملن الآفاق علها تنشق ويخرج منها من يقدر هذا الجمال ليقطفه ويختفي في الحياة، أسوق هذه الأمثلة لندرك إلى أي حد يعيش شيخو في الماضي وذاكرته التي لا تغيب عنها مفردات الحياة آنذاك، بساطتها، رائحتها، طقوسها التي تستوي فيها الصفاء والنقاء والحب كله.

إن صيغة السرد عند شيخو عموماً تكون حكاية أفعال وأحوال أولاً ثم حكاية أقوال وأفكار ثانياً، فهو يمسك بالبؤر سريعاً ليبدأ منها حكايته، فيعلن عن الأحوال وكيف تتلون بصوته حاملة مقامها بأسلوب السارد الذي يحمل بدوره مقاماته تلك ولا ينهيها حين يبلغ أطرافها، بل يغلف عليها السكون والصمت وهي تمتد صريحة، واضحة وهو يروي وقائعها، وقائع حكاياه، تلك الوقائع غير المعقدة، وغير المتداخلة التي تمضي حتى يظهرها للعيان، لمتلقيه بأنها تدل على قدراته من منظور سردي له مخصوص يختاره ما يظهره كسارد كثيراً ما يحاول أن يبقى مختفياً لكن تدل عليه المشيرات كلها، فهو حقاً يظهر نفسه كسارد لا يجادل في مسائل بما رواه وبما سرده، فهو يبرر ظهوره بأنه ابن زمن ماض وجميل وبأنه يعيش فيه، يشجعه على ذلك يقينه وشخوصه واحترامه لهم، فهو يترك الأقنعة وينخرط سريعاً في المباشرة التي تقول كل ما لديها دفعة واحدة ولا وقت لديها للتراجع أو الإيحاء، فتسرع لتروي قضاياها أقصد حكاياها فليس هناك ما يمنعها من ملاقاة الناس جميعاً دفعة واحدة وبسرعة البرق كما يقولون.

على الطرف الآخر هناك مجموعة من الأعمال التعبيرية التي اشتغل عليها شيخو والتي تزخر بالانفعالات والمشاعر والأحاسيس وهو ما يمكن أن نسميه حالات موظفة لوصف ما تكون عليها الوجوه المشبعة بالتعب والموظفة جيداً في خدمة وتدعيم أفكاره فهو هنا أقرب لنفسه من أعماله الواقعية الأخرى وإن كانت تتقاطع مع تجارب أخرى وليته دأب في هذا الجانب، فلديه مخزون إنساني لا يمكن تفريغه هناك، أقصد في تسجيلاته، بل يمكن أن ينثرها هنا بين ملامح شخوصه بتعبيرية جميلة، نعم أجده هنا، فهو سيكون طليقاً بأجنحة كثيرة كانت مقلمة طوال الوقت، حان الوقت أن يكسر قيوده ويمضي بانفعاته إلى أقصى ما يمكن، الوقت يمضي والأحاسيس تهدأ، فما زال هناك من الوقت ما يكفي كي يقول كلمته التي يستحق ومن الجدير بالذكر هنا أيضاً أن نشير إلى تجربته مع الكمبيوتر والرسم بالماوس فرغم تحفظي على هكذا تجارب إلا أنها كما عند شيخو تكاد تنفد طاقته وتأخذه من المكان الذي يجب أن يكون فيه، أرى أن يرميها بعيداً ويترك مخبوءاته لريشته وعلى نحو أخص تعبيرياته أعتقد أن مكانه الأصوب هنا بين انفعالاته وأحاسيسه التي ستمنحه سماء يستطيع التحليق فيها بحب ونجاح.