سيميائية النغمات المتتابعة في رواية 'اللحن المكسور'

المبدع الكبير نشأت المصري ينجح في التراسل بدقة وحبكة وإبتكار في شد خيوط الرواية كشد 'دلال' لاوتار كمانها الذي يصدر نغمته الأخيرة المخنوقة ليكون الصدى الأخير لبطلة أرادت ألا تكون كل ألحان حياتها مكسورة، فلم يكن لها ما أرادت.
الدكتور محمود خليل
القاهرة

 

أولا: (مقام موسيقي / مدخل)

بين قوسي القتل بفعل فاعل (الإنتحار / الاغتيال) تدور أحداث رواية (اللحن المكسور) للكاتب الشاعر الكبير نشأت المصري، كعمل فني مكتنز بين أعمالة الروائية الأثنى عشر التي راوح فيها الكاتب الفنان بين التجريب المغامر، والسرد الشاعر، والحبك والسبك القصصى الحميم، والنثر الفني المغزول من الكلمات والتفاعيل، والإيقاعات والأفكار المتسارعة.... ذلك أن "المصري" لا ينسى أبداً أنه شاعر، مفكر، مثقف، مهموم بالذات والوطن والإنسان ... حتى إنه يأخذ بأيدينا، ويدخلنا إلى معزوفته الماتعة.... بداية من الإهداء الأسري الآسر ... إلى أمه... وزوجته... أمه الثانية... وإلى ابنته الرابعة إيمان زكي .... وإلى بطلة الرواية دلال هاشم ... ذلك العنقود الأسرى الذي يأخذك حتماً إلى دفء الإستمالة، وحنان العشرة .. ومودة ذوي القربى.

ثانيا: (استهلال /  مفتتح) :

        لم يكن عبثاً أن يأخذنا الكاتب الكبير نشأت المصري بالأحضان المفعمة بالحزن الشفيف، والهدهدة البنفسجية الشاجية... في فصل الرواية الأول... بهذه القصيدة الباكية... كلحن جنائزى بكاء ... يأخذك من مطلع الرواية في صفه، بعد الإهداء الذي استمالك إلى جانبه فيقول :

كيف أنساها دلال وهي فوق السلم الحجرى تسقط

رأسها شج ... تخبط

بطنها موج عذاب

صرخت دون التفات

انقذوني

السكاكين بأحشائي وصدري

أيها الجيران ...

يا كلبي ... الذي أطعمته عاماً وأكثر

إننى أحببتكم في كل حين

فأحبوني لو بعض الثواني

ساعدوني

غيبوني ...

ابعدوا الآلام عني

إنني أنهار يا هول السكوت

كيف لا عين تراني

إن رأسي يتهشم

وخطوط من دماء كلهيب فوق وجهي

يا إلهي؟!!!

من هو الزاعق ؟ .... يا ناس ؟؟؟!!!

دلال في خطر

أيها المجهول لا أقدر حتى أن أراك

هيبطنى كالحمم

فإلى المشفى خدوني

أو سريعاً ..

دمروا رأسى عسايا

أفقد الوعى وينداح الألم

ثم تمضى (القصيدة / الفصل ) ....عازفة على أوتار الشخوص المحورية في الرواية التي تداخلت خطوطها وخيوطها، حتى أنتجت هذه الجريمة اللغز، التي كانت ثمرة مرة لأحداثها المتشابكة، وأجوائها النفسية والإجتماعية المتراكبة، من ذلك الزوج الدكتور "عمر" الذي كان لا يرى أن الحقائق لا توجد إلاّ في المعامل، وولده (فادى) المصاب بأنفصام الشخصية، جراء السلوك المتجاهل من الوالدين العبقريين في مجالى العلم والفن، والذين سقط "فادي" من جملتهم الموسيقية غير المتسقة .

وتكلم الخادمة "هدى" التي تغذت على الآفات الإجتماعية والنفسية لمعظم شخوص الرواية، فكانت كنبات الهالوك، الذي لا يكتفي بأن يعيش إلى جانب النبات الأصلى، بل لا تقوم حياته إلا على التغذية بالنبات الأصلى حتى الموت .

وبين الثنايا يخرج دور "نزار" ذلك الطبيب المزيف النصاب، الذي يعيش حياة عليلة، ملؤها السلوك التعويضي عن فشله الدراسي، وتدني مستواه الإجتماعي، فيسرف في التلذذ بمعرفة النساء، والتلهيبالموسيقي، والتشوف الدائم إلى  صناعة النجاح الموهوم في أعين الآخرين، وهو ما كان يحب ان يكون... وفي طياته تأتى أدوار زوجتيه "هند" و"سوزان" ... ومعشوقته العبقرية الموسيقية العرجاء الدكتورة "دلال"... التي تزوجت العقل في "عمر" وأحبت النشوة في "نزار" وباهت بتدله "باهر" في حبها ... تحت فلسفتها التي رسمتها لنفسها " من حقي أمام نفسى أن أتنفس ولا أحيا كأمي، إذ تسجن نفسها، وتصرخ في كل يوم" .

والتي يتلخص مردودها السلوكى في قولها: "رائع أن يكون الإنسان محل إعجاب أكثر من شخص، رغم القدم العرجاء"، والتي ترى أن ذلك هو أسبط حقوقها على الآخرين بعد ما أهدت البهجة للجميع .

ثم يختتم شاعرنا الروائى ذلك (الفصل / القصيدة) بقوله:

" يتهم الكلٌ الكلَ

يرتاحون قليلاً حين يقال انتحرت

لكن ...

أحداً .. لم يحسم شيئاً"

ثالثا: تنويعات (رمزية الشخوص وفضاء السرد)

1- رمزية الشخوص:

يمضى بك التنويع والتوزيع والتفريغ في هذه الرواية، إلى الحد الذي يجعلك تعيش لعبة " التباديل والتوفيق " ... حيث يفضى البناء الحكائى لكل شخص إلى الآخر ... من خلال المادة الحكائية المتعددة المستويات النفسية، والمعبأة بأعماقها الفلسفية للذات والمجتمع، عبر الأفق الثقافي والاجتماعى الذي عاشته، والذي كانت تود أن تعيشه ... والذي آلت الآحداث والناس إلى أن تعيشه بالفعل .

فدلال : الموسيقية الموهبة الطموح ... التي تتلاحم شخصيتها وتنبعج، وتنبسط وتتذبذب، وتتقعر وتنبلج ... ذات الصقيع الملون بالخوف والملل، والذي يفرز المتناقضات، والتي لا تسطيع أستجماع نفسها، التي أرهقتها بامتدادها إلى أبعد منها، وإلى ما لا تطيقه وداعتها، ولا يتحمله علمها، ولا يستوعبه فنها الذي يفتح لها كل يوم بابا، يرميها في حض مائة باب .

ولذا ... فقد عاشت حياتها داخلياً وخاريجيا... وهي مأزومة بمشكلة الساق العرجاء، التي تسرب عرجها من مشيها إلى سلوكها وهي لا تدرى !!! .

وفادي : ذلك الولد الضحية للوالد المستغرق محراب العلم، وطموح السفر، وجنون الأم بالموسيقى وشقشقات المعجبين، جراء أزمة تحقيق الذات، وسوء الصحبة المتسرب إليه من سوء صحبة أمه من قبل، فإن العرق دسساس، حتى تفاقم به مرضه النفسى إلى أن يصبح موطن شك، يرقى إلى اليقين، في قتل أمه، وإزالتها من حياته.

ونزار : ذلك الأسم الذي يعنى الندرة أو القلة ... وهو ذلك الطبيب الدعي الكذوب، والدكتور المزيف، الذي يقاسم "دلال" سلم الأحباطات الموسيقية، التي تنتهي بتدبيره لاغتيالها، لانكشاف عورة أسراره أمامها ...

وعمر : ذلك الرجل الصارم العالم ... الذي يرى أن اليقين لايوجد إلا في المعامل والذي أمتدت شخصيته من أول الرواية حتى آخرها، وهو يصرخ من أعماقه صرخة مكتومة مفادها ... يااااااااااه .... يا دلال .... !!!

عبئك يتضخم كل يوم !!!

حتى لحن النهاية ... كررته دلال ثلاث مرات، تلبيه لطلب الجمهور، في إشارة واضحة لضحاياها الثلاثة، "باهر" حبيبها المدرسى الفاشل، و"نزار" حبيبها الطبيب الشغوف المزيف... و"عمر" زوجها الرابض في الصالة، في حالة أقرب إلى الأختفاء، كانه يتعرف من جديد، ومن بعيد على "دلال" ... ثم ها هي تفاجئ الجمهور في منتصف الحفل بإطلاق عصفورين من عصافير الجنة ... من قفص استدعته لهذه المفاجأة التي اسعدت المشاهدين ... وكأنها تعلن أمام نفسها أنها ستطلق إلى فضاء اللاعودة ... "باهر" و"نزار" ... من قفصها الشخصى الذي يجب أن يشغل "بعمر" زوجها العالم المكافح الشريف ... وحده ... وحده فقط  .

أما "باهر"... فقد بدأ من أسماء الأضداد ... فلا هو باهر العلم ... ولا هو باهر الخلق ... ولا هو باهر السلوك ... ولا هو باهر الذرية ...

وهكذا كانت كل الشخوص المحورية والثانوية في هذا "اللحن المكسور" ما هيإلا نوافذ تطل منها على عالمها الخاص والعام، بكل تداعياته وإشكالياته، الذي يتجلى في المتن الحكائى، الشارح لسيمائية هذه الحزمة (المتصارعة / المتحابة) ... (المتماسكة /المفككة)... من خلق الله ... ولله في خلقه شئون !!!

2- فضاء السرد :

عاش المصري فضاءه السردي، بريشة الفنان، ولون الرسام، ورقة الأديب، ونغمة الموسيقي، وعمق الفيلسوف، ورشاقة الشاعر الطروب

ومن ثم كان التشكيل لديه، مادة فنية قائمة بذاتها... راوح فيها بين الشعر الذي استهل به الفصل الأول، على أنه مفتتح الرواية، ثم عاود العزف على أوتاره في الفصل الرابع مدندناً على الأوتار تكمن في طياتها معظم المادة الحية للرمز، والهمز، واللمز ... والإيماء ... والإيحاء الذي أجاب على رؤوس الاسئلة، وسعى مع هؤلاء الناس في ذلك القطاع من حياتهم المترعة بكل ما في الحياة من صراعات وتناقضات، ظاهرة وباطنة ...

ويذكر "للمصرى" أن الفضاء الأكبر للرواية، هو فضاء " دلال" ... النابغة الموسيقية أستاذة الجامعة... ساحرة الكمان... التي تتنقل من معزوفات "بيتهوفن" "وفاجنر" ... إلى موسيقاها الخاصة... وأرادت بها ان تنتصر على كل الغربان... " إنتصار العصافير"... والتي عانقت الموسيقي وعانقتها الموسيقي .. بعشق وجنون.

والتي لا تريد أن تحمل كل الناس في شرايينها، وترصهم على رأسها، ثم تصرخ في فضائها اللا متناهي.

ذلك أنه "يبدو ان كل مفردات الكون لها نغمات"

تلك حقيقة علمية ... فاللغة هيموسيقي الكون ... ولسان الكائنات .

نعود فنقول : يذكر "للمصري" ... أنه تماهي مع هذه، الشخصية، فانتصر لها في كل أجواء الرواية، ودرامية الأحداث، وتفكيك الرؤي ... ونمو الأشخاص وتلاشيهم من حولها ... بدليل :

أنه أهدى لها عمله الروائى كبطلة، إلى جوار أحب الناس إليه أمه، وزوجته وخالته الأحب إليه، من بين خالاته الست (أمينة محمود رزق ) كما أخبرني شخصياً... ثم أستهل عمله الروائى بالعزف شعراً... على خلفية لحنها المكسور.

ثم ما لبث ثلث أحداث الرواية أن يمضى.. إلا وعاد إليه للعزف شعراً في الفصل الرابع.

عاصفة من موسيقي تقتلع الليل

فتبدله بصباح لم ينضج بعد

هذا ما يدفعنى كى أعزف ما لا أفهمه أحيانا.

....

....

أحتضن "كمانى"

فهو يحاكينى إنسانيا.

فشموخ الرقبة تنساب عليها لمسات أصابع كفي

وتطيّرنا

وكذلك وجهي

صار كأوتار تتأود

بالجز وبالمد ّ!!!

ثم يقولها بالصريح الفصيح :

(إن الموسيقي ُتتُبَع لا َتتبع) !!!

ثم تدّارك شاعرية السرد، سد الفجوة بين الواقع المهموم، والعزف المنغوم .

فتقول :

كيف تكون كذلك ؟؟؟

ورؤس الناس بلا أذن تسمع ؟ !

فلنحفر أذاناً للناس

وندربها

لتميز بين الضحكة والصرخة

ثم تبرر لولدها (فادى) المضطرب نفسياً ... ولكل فادى آخر ... ولكل مضطرب

سواه

هيليست رجسا يا فادى

فالموسيقي نشأت في حض الدين

هيإرث فرعونى سبق العالم في التعبير عن الأشواق الدينية والإنسانية

تلك خيول الموسيقي تصهل في أودية الروح

والآن سألت (كمانى) :

كيف لأنغامك ان ترتاد جفاف حياة الفلاحين ؟

وآهات المرضى في كل مكان ... ؟؟؟ فتخفف عنهم ؟

وترقق أفئدة ملائكة الرحمة ... أصحاب الياقات البيضاء ؟؟؟

نجح "المصري" بأمتياز، في أن يتحول إلى "مغسل وضامن جنة" لبطلة روايته!!!

فالتمس لها العذر في كل أخطائها وخطاياها... وكأنه يتحدث بلسانها تضامناً وشفقة وحبا... حتى في دهشة الخاتمة ... إلتمس لها المبرر اللاعقلانى في ألا تخترق طلقة الرصاص (كمانها) المسند إلى جوارها ... فتصطدم به طلقة الأغتيال .. فتنحرف عن صدرها الحنون الحانى ورأسها الشاجى (لتصير الوسيقي حياة !!!)

وكأن فضاء السرد ... قد تم نسجه على هواها فيما يخصها إذ تقول  : "حين أغمض عيني ينفتح العالم ... ويتسع المدى ... وتنير الأنغام ظلامه ... وربما صنعت خيالات أخذتنا من هذا العالم المختصر" ...

وربما كان مبرر "المصري" في التماهي "دلال"... فى تدللها... إنه أتخذ لنفسه مفتاحاً مشروعاً لدى كل العقلاء من الناس .... "إنها ضريبة النجاح" !!!

وكذلك مناقشة الطروحات المتناثرة بين ثنايا الرواية  : هل يكون يكون النجاح مراً في النهاية ؟؟؟

وما كان إدمان "باهر"... وتزييفات "نزار"... وانفصام "فادى"... ودفن "عمر" بالحياة ... وتأمر "سوزان" ... وغيرة "هند" ... وتخبطات "دلال" ... واندهاشات "وصفي" ... وخيانة "هدى" ... سوى سياقات صائبة أو خائبة نحو النجاح ... النجاح في أي شئ ... في العلم ... في جمع الثروة ..  في "الإبداع".... في "التجارة".. في النصب والاحتيال... في الحياة بحلوها ومرها.

وهكذا، انه التراسل الفنى الذي نجح فيه المبدع الكبير نشأت المصري بدقة وحبكة وإبتكار... في شد خيوط الرواية، كشد " دلال " لاوتار " كمانها" الذي يصدر نغمته الأخيرة المخنوقة ... ليكون الصدى الأخير... لبطلة "اللحن المكسور" ... التي أرادت ألا تكون كل ألحان حياتها مكسورة ... فلم يكن لها ما أرادت...

وبقي السؤال الجوهرى المفتوح:   

كيف حدث ما حدث؟

ولماذا حدث ما حدث؟

حتى تهالكت كل الجسور؟؟؟!!!