صالح النجار يقبض على الزمن مخافة أن يهرب منه

إذا كان في الإبداع عادة حب استطلاع وإستكشاف، فإن صالح النجار يعيش الإبداع ذاته، ويمارسه بدرجاته كلها، المنخفضة منها والمرتفعة، لا يخاف من الجديد بل يبحث عنه، ويسعى إليه،

كتبت عن تجربته قبل ست سنوات تقريباً، كان ذلك تزامناً مع مشاركته في المعرض المشترك لفناني كردستان وفلسطين والذي أقيم في مايو/أيار 2017 في قاعة قصر الثقافة بمدينة السليمانية في كردستان العراق ضمن أسبوع الصداقة والتضامن بين شعبي فلسطين وكردستان، قلت حينها بأنه يبتدع نقليات نوعية للإنطلاق بمشهده البصري بإجتهاد، وبأنه يسعى جاهداً لتحقيق قيم فنية جمالية لها أهمية كبرى في ملامسة أفقه المتحول، وبأن مملكته منفتحة صيغياً.

 قلت كل ذلك قبل سنوات وأنا أراه الآن يمضي ضمن النسق الذي تحدثت عنه، ويثبت يوماً عن يوم بأنه من أكثر فناني كردستان إجتهاداً، فهو لا يهدأ، قد تجده اليوم في بغداد، أو في بابل، وغدا في أربيل أو في السليمانية، أو بعد غد في كركوك أو في خانقين، وتجده طائراً إلى اسطنبول، هذا النشاط الكبير وبهذه الحيوية لا بد أن يقطف ثمار ذلك، وهو من أكثر الفنانين الذي يشتغلون على أنفسهم، فلا يترك دقيقة تمضي دون أن يتنفسها فناً، أتحدث هنا عن صالح النجار (خانقين 1968)، الفنان الذي التقيت به على هامش سيمبوزيوم السليمانية الثالث الذي أقيم في سبتمبر/أيلول 2021، برفقة الفنان ستار علي وآخرين لم تعد تسعفي الذاكرة بأسمائهم، وكان هذا الحماس يعيش فيه، تجده وكأنه ينبض بالفن، أو كأنه خارج من طبخة ألوان ويمضي للغرق بأخرى، قرأت هذا الإجتهاد وهذا الحماس في حركيته التي لا تهدأ، وكأنه يصر أن يقبض على الزمن مخافة أن يفلت منه، وهذه الحالة التي يعيشها تدفعه من بناء إلى آخر، ومن بحث إلى آخر، فالتجريب هاجسه، لا يخشى الغرق في بحيرات لونية معينة، كما لا يخشى من الجدران التي قد تعترضه، فروحه المتمردة تمنحه طاقة مجنحة تمضي به إلى أفقه المتحول، الأفق الذي لا يهدأ بدوره، الأفق الذي يحاول الهرب بعيداً كلما أوشك النجار على ملامسته، الأفق الذي يجعل النجار يرقص إنجازاً ضمن شعائر جمالية غير معهودة إلا لديه، شعائر أشبه بتلك الشعائر الخاصة بالعبادة، فهو الذي مر على التاريخ بحركات متزامنة مع ممارساته في مناطق الخلق، فضلاً عن أنه يرسم صورة حقيقية لصعوده، فنزوعه نحو إستخداماته لوسائل الإنسان تجعله يثير بها مشاعره وعواطفه وعلى نحو خاص عاطفة الجمال بموسيقاها وإيقاعاتها، وهنا تبرز مهاراته التي تحكمها الطاقة التي لا تنام في دواخله .

 إذا كان في الإبداع عادة حب استطلاع وإستكشاف، فإن صالح النجار يعيش الإبداع ذاته، ويمارسه بدرجاته كلها، المنخفضة منها والمرتفعة، لا يخاف من الجديد بل يبحث عنه، ويسعى إليه، له قدرة على التلاعب بالعناصر والمفاهيم والإنفتاح، يساعده في ذلك خبرته ونشاطه وبحثه، ولهذا يبتعد عن الأشكال المألوفة، ويهتم بالجمال الشكلي إلى بعد ما، وبالإستثارة التي تحدثها مشهده البصري الجمالي لدى المتلقي، وأيضاً بالعناصر البسيطة لهذا المشهد كالخطوط والألوان والنغمات وبالجوانب المركبة منها كالتكوين والأسلوب وما شابه ذلك، لا يتردد في خوض المغامرات مهما كانت عناصرها غامضة بالنسبة إليه، ومهما كانت عسيرة في جوانب منها، بل ذلك يزيده شوقاً في الإبحار فيها، فجرأته مبنية على ثقته بريشته وبدواخله وما تحتوي، لا يقفز فيها، بل يمضي معها بكل قوامه، وبكل حواسه وحدسه، يمضي بهدوء وكأنه يتحين للإنقضاض على فريسته، يأبى أن يعود إلا وسلاله ملأى بثمار جناه بفهمه الصحيح لخطواته، حتى يبدأ بالكشف التدريجي لها، ولمعانيها، حتى يتلاشى ذلك الغموض المرتبط أصلاً بمسائل احتمالية هو بغنى عنها، يتعامل معها في الوقت ذاته كباحث عن جمال ملائم لشهيقه وزفيره، ملائم للمنزلة الرفيعة التي خلقها بين الذوق الخاص، والذوق المتولد بالمشاهدة في قاعات العرض، فالهيمنة هنا نسبية وإن كانت كفتها تتأرجح إلى جهته، أقول نسبية لأن الأذواق المتوالدة ستتمايز من خلال عوامل عديدة كالإنتماء والزمن والمكان، وهذا يجعله يدرك غمار خوضه في هذا البحر دفعة واحدة، يتقن العوم فيه، ويتقن لغة كائناتها وحيواتها التي على الغالب هي التي ستعلو بالقيمة الفنية لما سيجنيه في آخر مطافه وهو يعود فرحاً من عومه ذلك، وهو في كل ذلك يعتمد منحى يستطيع فيه أن يتبنى الوسائل المناسبة للوصول إلى هذه الصياغات، بتأويلاتها المختلفة، ومن خلال محاولتنا لتحليل بعضها سنرى كيف أنه يفك المعنى الإنفعالي إلى مكونات عدة منها شعوره هو نحو الموضوع الذي يعالجه لونياً، والنغمة السائدة فيها والموجهة نحونا كمتلقين، ومقاصده من ورائها ووراء مؤثراتها، فمن خلال مشهده الفني نستطيع أن نشتق كل ذلك .

صالح النجار يميز اللون والشكل والملمس بإجتهاد عال، ويعالج المواد الفنية بعناية، ولهذا فهو يقدم مشاهد جمالية تكتسب قرابتها الزمنية من تلك التطورات المتوازية لإستكشافاته بالتفصيل، ولنشاطاته الشعورية واللاشعورية بقوتهما الإضافية، فيسهم إسهاماً خاصاً في صقل فهمنا كمتلقين للخصائص الشكلية لتجربته، وبالطبع يمكننا أن نكتشف وجود مسارات فرعية صغيرة أو كبيرة تربط بينها، أقصد بين تلك الخصائص، وهي مسارات قد نهتم خلالها بدراسة أكثر من منحى موضوعي لها كعلاقة شخصية النجار كفنان بإبداعه، أو علاقة سمات شخصية المتلقي بتفضيلاته الفنية، أو علاقة طفولة الفنان بإبداعه، أو دراسة دوافعها وإنفعالاتها وصورها وقيمها أو غير ذلك من موضوعات أخرى، المقصد من دلك إلتقاط بعض من تلك العلاقات الخاصة التي يهتم بها المتلقي كباحث عن مقولاتها المشتركة التي ستؤمن بدورها له معايشة ما ينبغي العودة إليها، بما في ذلك الأكثر بدائية للجمال والحرية معاً، وثمة إمكانية لديه في تجديد وتشذيب إنتاجه بما يتلائم مع روح العصر، سواء أكانت على مستوى الأجواء والمقولات الجمالية وموضوعاتها، أو على مستوى رؤيته ومكوناتها وملامحها، أو على مستوى آليات بحثه وتفكيره، فهو يعالج لوازمه ومترتباتها من حيث موقعها المتأرجح بين الثبات والتغيير، الثبات الذي بخرج منه، والتغيير الذي يمضي إليه متجاوزاً للزمني، ومترفعاً عن الانحصار في الأساس، حتى يشكل اللامنطق بحثه أو موضوعه الذي يشتغل عليه في بناءاته ومحدداتها، والتي تتصف بالسيرورة والدوام والتعالي بمعزل عن أي اعتبار آخر . 

حين يغدو صالح النجار محوراً أساسياً للحراك التشكيلي العراقي على نحو عام والكردستاني على نحو خاص، ومن المهمين الذين يقدمون هويتهم الفنية على نحو مختلف تماماً، إنطلاقاً من فهمه الدقيق لمجمل المعطيات والمشارب التي يتشكل منها تجربته، وبالنظر إلى طبيعة الإرتباط الذي يجمع بين تلك المعطيات بوصفها منظومات متكاملة بمعزل عن التمييز بين مختلف أبعاد مشهده الجمالي، فنستطيع أن ندرجه في خانة ما، خانة ستساعدنا في إعادة قراءة أعماله، نبرز فيها هويته أو منهجه، وتعدد عناصره ما يمكنه من إنتاج مضامين جديدة بأشكال جديدة، وبما يمكن أن تحاكي روح العصر بغاياتها وبمبانيها، بآلياتها ومعياريتها، مشكلاً سياقه الخاص الممتد معرفياً في البعد التاريخي للتجربة، فهو يقوم بمنظومته على أساس الثقة ووجود علاقات ودية فيما بينها، رغم أنها علاقات تصادم وهي التي ستكسر كل الأطر الضيقة لديه، فرؤاه جديدة رغم أنها مازالت غامضة، يمتزج معاييره بثقافة محلية حيناً، وحيناً بالوافدة لإعادة إنتاج القيم الجمالية بكل تداعياتها، فهو يتناول التناقضات عند الإنسان بدلالاتها، وإشكالياتها، يرسخ بها هويته الخاصة ورؤاه الخاصة، ففطرته سليمة، بها يزداد شوقاً إلى المعارف الحقة التي ستمضي به إلى حقول خاصة لا يمكن التقرب منها ما لم يسبقنا إليها النجار .

ينتقل النجار بتجربته خطوة فخطوة، ومع كل خطوة يعلن عن ذاته، ويترك أثره ليمضي نحو الخطوة الأخرى، الخطوة التي تليها، والإعلان الذي يليه، والجديد الذي لديه، فهو منذ معرضه الفردي الأول في خانقين في عام 1980 وهو يصر أن يكون مختلفاً، والمعرض الفردي لديه هو إعلان عن شيء يقوله، عن شيء أنجزه، عن شيء سيبقى له رائحته إلى يوم الدين، نعم يصر أنه لن يكون رقماً عابراً بل فاعلاً وبقوة، نعم فهو منذ معرضه الفردي الأول ويذكرنا بمشاريعه، ذاك المعرض الذي خصصه لخانقين، المدينة التي أنجبته وحضنته حتى شق طريقه، عن طبيعتها وجمالها ومعالمها الطبيعية والثقافية، عن أشجار نخيلها، ونهرها الذي يقسم المدينة إلى نصفين، بضفتين جميلتين، فهو دائماً يبحث عن أفكار جديدة كمشروعه للوحة الصغيرة، أو المصغرات كما سماها والتي أتت أصغر من طوابع البريد حسب قوله، وبكامل المواصفات التي للوحة الكبيرة، دون أن يضحي بألوانه أو خطوطه أو تقنياته.

ومن أفكاره الجديدة أيضاً نقل اللوحة من الصالات المغلقة إلى حيث يوجد المتلقي فكانت فكرة لوحة في مصعد، ترافق المتلقي في الصعود والنزول وهي فكرة جديدة ومثمرة، وفي 2018 أقام معرضاً فردياً في مدينة السليمانية بعنوان الأقنعة، افتتح له الفنان اسماعيل خياط، ومن عنوانه ندرك إلى أن يمضي وأين يضع قدمه، فهو على دراية تامة بأن التجريب هي التي ستفتح له أبواباً، وعبرها سيلج عالماً يبحث عنه على إمتداد نفسه، وسبق قدم أسود 23 في شارع المتنبي ببغداد، في دكانة رؤيا التابعة لمؤسسة رؤيا فون ديشن.

وكذلك له تجربة أخرى "بوك آرت" حين جسد قصيدة محمود درويش / أحد عشر كوكباً في لوحات باتت من مقتنيات دار وغاليري الكلمات، المقصد من كل ما تقدم هو أن نقول لا يشرب صالح النجار من بحيرة راكدة، ولا يعوم فيها، بل هو كالنهر تماماً، يشق طريقه بماء جديد في كل حين، ولهذا فهو يفاجئنا بجديده في كل مرة، وما أعماله الأخيرة التي سيقدمها لنا في دار وغاليري الكلمات إلا مثالاً آخر يؤكد رأينا بأنه لا يعيد نفسه، وإذا لم يكن لديه جديد لا يمكن أن يخاطر، فنحن أمام تجربة جديدة لا في كردستان العراق فحسب، بل في عموم العراق، تجربة سيبقى لها أثرها وأهميتها في المشهد التشكيلي العام، فهو العارف بأحكام الطريق، ولا أجلَّ عنده من التجريب، وبمقتضى الحال يرفض التقليد والتشبيه، وخياله خصب ويُحْيي القلب، لا يقترب من النهايات، كما لا ينهي عمله بعلامات ما، بل يبعثر وصاياه بين ثناياه، يترك الظلال تخيم بين الأخباث، فقبح الإنسان موجب للشفاء، ومميت للروح، وقبح الحيوات وجهة أخرى لما يعاني منه مجتمعنا من أمراض الفساد والانحراف، فالنجار يدفع العملية الإبداعية نحو العمق الإنساني ويستحضر منها كائنات أخرى تشبهه، كل منها تجره إلى جهة، وكل منها ملون به، لدرجة أنك تتيه في معرفة الأصل منه، وهو أمام واجب مقدس كي يقول جملته المفيدة، فكان لا بد من اللجوء إلى الكولاج وإلى تلك الشبكة المقسمة إلى المربعات ليسدل بها أعماله، وكأنها مغشية على ذاتها، بصفاتها وشفافيتها، بأفعالها وتأويلاتها.

وإذا أمعنا النظر في المشهد الجديد سنشرع في المجاهدة لإكمال المعرفة التي نبحث عنها، لنستشف مخاطبات روحانية في ذم الدنيا وأهلها، وبتوضيح آخر لنستشف الحيوات، والإنسان منها ومخاطباتهم من خلال الظلال وكلامها عن التفاوت الجميل في البنية بين نمطي البحث وجدوى البحث الدائر حول التجربة وخصائصها، محاولين تحديد السبل والآليات المناسبة لهذا اللون من التجربة .