طيور وحيوانات تنطق بالحكمة في 'مختارات من الخرافة الصينية'

الخرافات كَتب معظمها في الثلاثينيات والأربعينيات باستخدام لغة مقنعة ورموز تفضح مساوئ وشرور تلك الفترة، كما كانت أيضا شكلًا فنيا مناسبا في فترة "الرعب الأبيض" في الصين، عندما اضطرت رقابة"كومنتانج" الكتاب ا إلى اللجوء إلى هذا الأسلوب.

وللخرافة في الصين تاريخ ضارب في القدم؛ حيث عُرِفت، شعرا ونثرا، منذ القرن الثالث أو الرابع قبل الميلاد، واستخدمت كوعاء أدبي لنقل حكمة السنين عبر مختلف الأجيال والعصور،لكن المختارات التي اختارها المترجم طلعت الشايب وعنونها بـ "أنا القمر: مختارات من الخرافة الصينية" وقدم لها الناقد د.شاكر عبد الحميد وصدرت نسختها الجديدة أخيرا عن مؤسسة هنداوي، فهي خرافات حديثة مختارة من كتاب "خرافات" للكاتب الصيني "فنج زوفنج" (1903–1976م) والذي كَتب معظمها في الثلاثينيات والأربعينيات مُجبرا على استخدام لغة مقنعة ورموز يفضح بها مساوئ وشرور تلك الفترة، كما كانت الخرافة أيضا شكلًا فنيا مناسبا في فترة "الرعب الأبيض" في الصين، عندما اضطرت رقابة"كومنتانج"الكتاب الصينيين إلى اللجوء إلى هذا الأسلوب.

يشير الشايب إلى أن الخرافة حكاية قصيرة ذات مغزًى أخلاقي، تُروَى عادةً على ألسنة الطيور والحيوانات شعرًا ونثرًا. وقد عَرَفَت الثقافات القديمة كلها تقريبًا ذلك النوع من الحَكْي الباقي إلى اليوم كجزءٍ مُهِم من الموروث الشعبي. وربما تكون اليونان كما تقول معظم المصادر، هي مهد ذلك القالب الأدبي؛ حيث تُنسَب أول مجموعة من الخرافات إلى "أيسوب"ـ القرن السادس قبل الميلاد ـ ذلك العبد اليوناني الحكيم الذي أَعتَقه سيِّدُه بعد أن اكتشف عِلْمه وذكاءه. وبعد أيسوب جاء "فيدروس" و"بابريوس" في القرن الأول الميلادي، وقد حافظَ أوَّلُهما على خرافات أيسوب إلى أن ظهرت تعديلاتٌ وتنويعات عليها بعنوان "رومولوس"، وقد تواصلت شهرة ذلك العمل حتى القرن السابع عشر.كما توجد مجموعة أخرى شهيرة من الخرافات الهندية هي "البيدياي" من المُحتمَل أن تكون قد كُتِبَت أولًا بالسنسكريتية سنة 300ق.م. وقد تُرجِمَت نصوصٌ كثيرة منها، شعرًا ونثرًا، إلى لغاتٍ عدَّة بين القرنين الثالث والسادس عشر، وهي التي تَرجم منها ابن المُقَفَّع نصوصه المعروفة ﺑ "كليلة ودمنة"، ومن أشهر كتاب الخرافات في العصور الوسطى "ماري دي فرانس"، التي كَتبتْ 120 خرافة شِعرية سنة 1200م، وبعدها جاء "لافونتين"، الذي يُعتبر أفضل كُتَّابها المُحدَثين، وقد أخذ معظم حكاياته من خرافات أيسوب، ونشر كتابه الشهير Fable Choisies في 12 جزءًا 1668 – 1678 – 1679 – 1694م، وقلَّده كثيرون فيما بعد من بينهم "أيوستاشي دي نوبل" و"بيجنوتي" و"جون جاي". أما في روسيا فيُعتبَر "إيفان كريلوف" أشهر كُتَّاب الخرافة، وقد ترجم عددًا كبيرًا من خرافات أيسوب ونَشر 9 كتب في الفترة ما بين 1910 و1820، كما ترجم عبدالفتاح الجمل خرافات أيسوب كاملة وصدرت عن دار الفتى العربي بالقاهرة في جزءين سنة 1987.

ويرى أن هذه المختارات وإن كانت حديثة إلا أنها تتبع نفس الأسلوب حيث الحكمة والموعظة الحسنة والدروس الأخلاقية على ألسنة الطير والحيوان والجماد.. بقرة وكلب يتفقان على الهرب، وفي نهاية الخرافة تكشف لنا أن المِلْكية والتعلُّق بها هُما سبب كل بلاء، أشجار تتكلم عن دور الفرد في الجماعة، ضفدع رديء الصوت كأنه شاعر يُزيِّن للطاغية أعماله بقصائد أكثر رداءة، قمر يتكلم ونَمِر يتشدَّق بالحديث عن الكرامة وحمَّار يسخر من القاضي.

وفي مقدمته يرى د.شاكر عبد الحميد أن ساحة الخرافات هنا شبيهة بغابة تعج بالحيوانات والطيور والزواحف والأشجار والبشر، حيوانات كأنها مخلوقات آدمية، ومخلوقات آدمية كأنها الحيوانات، بشر يتحوَّلون إلى تماثيل، وتماثيل تتحول إلى بشر، طيور تنطق بالحكمة، وحيوانات تَتذاكى وتضحك وتبكي، أفكار تربوية وسياسية واجتماعية وفلسفية، وجمالية، ولغة شديدة الجمال والصفاء والنقاء والتدفق والشاعرية، ومترجِم يُعيد خلْق النص من جديد، ترجمة هي إبداعٌ على إبداع، وقدرة هائلة على نقْل العالم الأصلي للحكايات من خلال جُمَل قصيرة وتعبيرات مُوحِية، ومَشاهد بصرية شديدة الرهافة والعمق والحيوية. ترجمة دون أدنى مُعاظَلة، إعادة إنتاج وكأنها الإنتاج نفسه، ترجمة تجعلُك كأنك تعيش حياتك مرة أخرى تَخطفُك من حياتك العابرة الحاسرة وتجعلُك تعيش في قلبها مستمعتًا ومستفيدًا أو متأمِّلًا وخالدًا. فلا تدري هل أنتَ تعيش في قلب الأحداث، أو أن هذه الأحداث تعيش في قلبك أنت؟!

ويقول "يستخدم طلعت الشايب في ترجمته لهذه المجموعة من الخرافات، بل من القصص الخرافية الصينية، العديدَ من الطاقات الإبداعية الكامنة في اللغة العربية، فهو يستخدم الألفاظ المُوحِية، والجُمَل البسيطة السهلة التي تشعُّ جمالًا، والتعبيرات القرآنية والتراثية بديعةَ التصوير عميقة التأثير، ولعلَّ ذِكر بعض الاستخدامات لبعض التعبيرات القرآنية في قصة "الثعبان والموسيقى" مثلًا تُوضِّح للقارئ العزيز بعضًا من هذا التوفيق وهذا النجاح الذي حقَّقه هذا المترجِم القدير في استفادته من مثل هذه التعبيرات، لقد ظهر ذلك مثلًا في قوله: "وضَع الموسيقيُّ لحنًا جمَع فيه كل مشاعر الألم والفَقْد والاستنكار والغضب، وكان كل من يستمع إليه مع الصبح إذا تنفَّس، أو في الليل إذا سجَى، يشعر بالألم الدفين."ونجد نفس الشيء أيضًا في قصصٍ عديدة من قصص هذه المجموعة، ومن ذلك ما جاء في قصة حوض الاستحمام المسحور من أن ذلك الفلاح الأجير الذي اكتشف الحوض المسحور الذي يُضاعِف الثمار والنقود إذا أُلقِيَت فيه، كان بعد أن استولى صاحبُ الأرض ثم العمدة ثم المَلك على الحوض، وبعد أن قفز المَلك في الحوض خرج وراءه مَلك ثم مَلك ودب الصراع بينهم وانتشرت الفوضى في البلاد. كان هذا الفلَّاح الأجير الذي اكتشف الحوض "يجلس مَلُومًا محسورا" وهو يقول لنفسه: "ليتني مت قبل هذا!"

ويضيف "في الخرافات التي تحتويها هذه المجموعة إدانةٌ وسخرية من البشر والحيوانات، وليست هناك فواصل صارمة أو حادَّة بين عوالم البشر وعوالم الحيوانات، ولا بين قيم وسلوكيات وأفكار ومناورات ورغبات ومطامح قاطِنِي هذه العوالم أو تلك، هناك وحدة وجود عارمة بين الجميع في دراما الحياة وغرائزها المُتناوِبة صعودًا وهبوطًا".

ويلفت عبد الحميد إلى الثنائيات في العناوين والمفرَدات، وأقطاب للصراع، وهناك دائمًا هذه الثنائية وعلى أطرافها هناك قطبٌ ثالث يراقب، هناك الجرادة الرمادية والجرادة الخضراء، والأفعى الذهبية والأفعى الفضية، والحمار الرمادي والحمار البُنِّي، وهناك: بوذا والجسر، والذهب والنحاس، والحقيقة والوهم، والثعلب والسلطعون، والبحَّار وابنه، والنحَّات والتمثال، وابن عِرس والقنفذ، والأسد والجَمل، والذبابة الصغيرة والمصباح… إلخ، وعلى هامش الأحداث هناك طرفٌ ثالث يراقب دائمًا. وقد يكون هذا الطرف المراقب للأحداث هو الإوَزَّة كما في قصة "الديك والدودة الصغيرة" أو السلحفاة في قصة "الحوت الطيب" أو الراوي نفسه الذي يُعلِّق على الأحداث ويستقْطِر الدلالة منها في قصصٍ كثيرة من قصص هذه المجموعة.هناك في هذه المجموعات إيحاءٌ بالدور الذي يمكن أن تلعبه الأسماء في خلق التصوُّرات الذهنية الخاصة عن الأشياء فبأسمائها قد تتمايز الأشياء، والقط يمكن أن يصبح نَمِرًا أو تِنِّينًا أو سحابًا أو ريحًا أو جدارًا أو فأرا… كذلك تتبدَّل الأدوار ما بين الصانع والمصنوع، ما بين الفاعل والمفعول، فالتمثال المصنوع يتحوَّل إلى صانِع ومسيطر، والمثَّال الصانع يتحوَّل إلى عبْد مستعطِف يرجو عفو التمثال وكرَمه. (هل نتذكر أسطورة بيجماليون؟) هنا نقدٌ مرير لفكرة الاغتراب، وتحذير من سيطرة ما نصنعه ونقوم به علينا وعلى سلوكياتنا وأفكارنا بحيث نتحوَّل من ذات إلى موضوع، ومن فاعِل إلى مفعول به، ومن مسيطِر إلى مسيطَر عليه.

من الخرافات

أنا القمر

الكاتب لي جي هواي

قمرٌ مكتمل مُعلَّق في المساء يغمر نورُه الوادي! مسحورًا بجماله وضيائه قال عابر سبيل: ما أعظمك! إنك أجمل من الشمس التي تنير النهار بينما أنت تنير الليل، أيها الملاك الرائع، لولاك لأظلم العالَم! في نفس الوقت، كان لصٌّ كامنٌ في ركنٍ ما من ساحة بيت يُحَملِق في السماء وهو يقول: اغْرُب عن وجهي أيها الشيطان الرجيم، ليتني أستطيع أن أستدعي كل سحب العالم السوداء وأُلقي بها عليك، علَّها تمنع إطلالة وجهك الشاحب الذي يُقيِّد حركتي، عليك اللعنة!

في هدوءٍ شديد قال القمر وهو يبتسم: لستُ أعظمَ من الشمس التي أستمدُّ منها نوري، وما أنا بشيطانٍ رجيم يمنع الخير عن الناس … أنا القمر!

ثقة في محلها

الكاتب هو وانج ري يون

تورَّطَ حارسٌ من حرَّاس الأسواق في قضية، وقبل مثوله للمحاكمة كان قد تمكَّن من رشوة القاضي بأن قدَّم له حمارًا هدية. وجاء اليوم الموعود فحصل الحارس على حكمٍ بالبراءة. بعد انتهاء الجلسة، اقترب الحارس من القاضي وهمس إليه: يعلم الله أنني بمجرد دخولي هذه القاعة، غمرني شعورٌ قويٌّ بأن العدل أساس الملك، وأنه سوف يأخذ مجراه على يديك! قال القاضي: أنا أتوخَّى العدل دائمًا في عملي، وعلى أية حال شكرًا لثقتك الغالية بي. قال الحارس: العفو يا سيدي، إن ثقتي بالحمار لأشد!

 منطق

الكاتب زهان لو

عندما شعرَت الدجاجة بأنها لم تَعُد تتحمَّل الخطر أكثر من ذلك، ذهبت إلى الحيوانات القوية تشكو إليهم الثعلب الذي يُهدِّد أفراخها، وتطلب منهم أن يُقيموا العدل ويوقفوه عند حدِّه. قالت الدجاجة في ضعف: انظروا إلى عينه وسوف تَفهمون كل شيء!

زمجر النَّمِر قائلًا: لا خوف على أفراخك ولا هم يحزنون، لقد نظرتُ في عين الثعلب وما وجدت فيها سوى الخجل … أو لعله الخوف!

ونخر الخنزير البرِّي قائلًا: الثعلب يُفسِح لي الطريق كلما رآني، وما في عينه سوى التواضع والطيبة!

وعوى الذئب قائلًا: أعرفه معرفةً جيدة، إنه أول مَن ينسحب عند أي صراع، في عينه ضعفٌ شديد!

قالت الدجاجة: ولماذا لم يرَ أحدٌ منكم ما في عينه من خُبثٍ وقسوة؟!

قال النَّمِر: أمسكي عليكِ لسانك، أنا لا أسمح لك بتلفيق التُّهَم ضد الثعلب. وقال الخنزير البرِّي: إياكِ والتحامل!

وقال الذئب: كلماتك محسوبة عليك، ومن الخطأ أن يستأسِد الضعيف على القوي، تماما مثلما من الخطأ أن يستأسِد القوي على الضعيف!

قرار

الكاتب وو زياو جي

نَفِدَ الماء من مستكشفَين في وسط الصحراء، قال أحدهما: هناك نبعٌ قريب في اتجاه الجنوب، وقال الآخر: بل هناك نبعٌ في اتجاه الشمال. رغم أنها كانت مسألة حياة أو موت، أصرَّ كلٌّ منهما على رأيه. وبعد تفكيرٍ وجدل قرَّرَا إجراء قرعة فجاءت النتيجة في صالح الاتجاه جنوبًا.. ولكنهما لم يجدَا شيئًا هناك. وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال أحدهما: أنا آسف، لقد أخطأت، وصمَت الثاني لحظةً ثم قال: من ذا الذي يستطيع أن يجزم أيُّنا كان على خطأ؟.. ربما كان علينا أن نفترق قبل ذلك يا صديقي!