عقيدة 'الترند' تتصدر المشهد في المسلسلات الرمضانية

إخفاق وسائل الإعلام المغربية بين تقييم وتضخيم جودة الدراما الرمضانية يكشف أوجه التزييف في نسب المشاهدة.

الرباط - لو كان علي أن أختار لفظًا واحدًا لأصف به اللغط الإعلامي الذي يحوم حول المسلسلات المغربية في رمضان، لكان هذا المصطلح هو "بريكولاج"، غير أن من الواجب ألا يسيء المرء هذا المصطلح، إذ أن له في الحديث اليومي عادة معنى أوسع من ذلك الذي أقصده، فعندما نكتب في مقالاتنا المعتادة أن المسلسل كذا نال إعجاب الجمهور، نعني بها عادةً أننا نجد لهذا المسلسل متابعين، أي نسب مشاهدات معقولة. غير أن نسب المشاهدة وعدد المعجبين واللايكات ليست معايير لقياس جودة المسلسلات، فهناك جهات وشركات ممولة اختصاصها ثقافة الترندات، باتت تجعل من أي ممثل أو ممثلة، ولو كان لديه دور بسيطٍ، بطلا قوميا على مواقع التواصل الاجتماعي، بمبدأ "ادفع لنا ونحن نزيد من عدد متابعيك"، هذه الأمور ليست ذات مصداقية، ولكن الإعلام يقتات عليها، على الأقل يجد الصحفي مواضيع جاهزة كأطباق مرق للعامة، كما يفعل ذلك الأشخاص السيئو الطباع الذين يناقشون أي شيء في المقاهي، والذين يجدون بالصدفة نفس المواضيع التي يناقشونها تروج في الصحف اليومية، لم يعد هناك فرق خاصة في رمضان.

وليس هذا هو موضوعنا في الحقيقة، رغم أن الترند الغير الطبيعي الذي تتصدره الأعمال بات مكشوفًا، من التطبيل لبعض الأعمال إلى نفخ الأبطال، والحق أن المسلسلات الرمضانية المغربية هذه السنة أحدثت طفرة على مستوى تنوع المواضيع، فهي بهذا المعنى تفحص وتبحث وتدقق وتنتقي شيئاً لكي تسخر أو تنتقد من نقاط قوته وضعه، وبهذا المعنى تكون جودة المسلسلات متعلقة بمزايا الموضوع الذي تطرحه فضلاً عن عيوبه، ولكن ما المواضيع الهادفة التي تم أو يتم إنتاجها سنوياً من أجل برامج رمضان؟ ولماذا هذا السباق الرمضاني؟ رغم أن الاجابة في  عنوان المقال إلا أن...

إن الإجابة عن هذا السؤال ليست هينة إلى هذا الحد الذي يتبادر إلى الذهن، ومع ذلك يمكن القول أن الدراما المغربية باتت تنتقد بعضًا من أهم الاعتقادات التي يأخذ بها المجتمع وأوسعها انتشاراً، نأخذ على سبيل المثال مسلسل "الشياطين لا تتوب" للمخرج حميد زيان، فهو فتح النار على جبهة تجارة الدين والنصب والاحتيال باسم الرقية الشرعية، وليس هذا فحسب بل تطرق أيضاً إلى الممارسات الخادشة للحياء التي يمارسها الرقاة الشرعيون في المغرب، وهذا الملف وحده يحمل قضايا فساد مهولة، ويبقى السؤال هنا هو من يأتي لهؤلاء القوم برخص العمل في هذا المجال؟ وحتى لو حصلوا على رخصة ممارسة مهنة الرقية الشرعية والحجامة، فلا يمكنك أن تتخيل حجم الفساد وراء انتشار هذه المهن بهذا الشكل السرطاني داخل المجتمع المغربي.

وهناك مثال آخر طُرح في مسلسل "2 وجوه"، للمخرج مراد الخودي وهو بدوره يفتح النار على جبهة التسول في المغرب، وليس أي متسول بل أرباب المهنة الذين لا يحتاجون إلى التسول أساسا، فهم أغنياء وأصحاب مشاريع، إذ أنهم إما أن يتسولوا وهم متنكرون، أو يستغلون الأطفال المتخلى عنهم في ممارسة هذه المهنة ويتكلفون بهم، وهذا الموضوع أثار الكثير من اللغط في المجتمع وحتى على المستوى السياسي، فالمجلس الاجتماعي والاقتصادي البيئي على سبيل المثال استضاف مخرج مسلسل "2 وجوه" فقط من أجل مناشقة الموضوع، وهذا دليل على أن المسلسل قام بدوره الاجتماعي والسياسي معًا.

نأتي إلى موضوع مسلسل "بين القصور" للمخرج هشام الجباري، فالعمل وضع يده على أبشع ما يؤرق المواطن المغربي، وهو ظاهرة "التشرميل" قطاع الطرق، والعصابات الإجرامية بكل أنواعها سواء تجار المخدرات أو السرقات، أو حتى الاعتداءات الجنسية، كما أن هناك ما هو أخطر من هذا كله وهي الجماهير الكروية التي باتت تشكل عصابات إجرامية خطيرة تقتل في وضح النهار وتتسبب في عاهات مستديمة للخصوم، وهذا أيضًا موضوع الساعة في المغرب.

أما مسلسل "فوق السلك" للمخرج نبيل بودرقة، فهو يناقش ما تسبب في الشتات الأسري وقسم المجتمع إلى نصفين، وهو موضوع الميراث، والطمع، والحسد، والشراهة، والمصالح، وكل تلك الصفات الدنيئة التي تحوم حول المال، وأفعال أخرى كالوفاء بالوعد أو الولاء.

أما موضوع مسلسل "الجنين" للمخرج إدريس الروخ، فتطرق إلى قضية شديدة الحساسية ومرتبطة بالمجتمع بشكل أساسي وهي الأطفال المتخلى عنهم، وحقيقة، قضية هذا النوع من المواضيع ملغومة ويتم التلاعب بها بشكل أو بآخر، لماذا؟ لأن الفساد برمته ينبع من هذه الفئة الاجتماعية، منبتهم حرام ومستقبلهم تطبل لهم الجمعيات على أساس أنهم ضحايا المجتمع، وهم فعلا ضحايا تستغلهم بعض المؤسسات الاجتماعية ومراكز المجتمع المدني، والضحية الحقيقية هي الدولة التي يزداد تعداد سكانها بطرق غير شرعية، والضحية الثانية هم أبناء الأصول الذين يضطرون إلى التعامل مع هذا النوع الذي ليس لديه شيء يخسره.

ودعونا نوضح أمرًا في غاية الأهمية سواء في الدراما التلفزيونية، أو المسلسلات وحتى في السينما، وهو منبع فكرة العمل، فكاتب السيناريو الذي يجعل من الأبناء الغير شرعيين أبطالًا في نظر المجتمع، أو يجعل من مهنة البغاء عملًا إنسانيًا نبيلًا، أو تجار المخدرات وممارسة التمرد في الشوارع شيئًا مباحًا، في الحقيقة هو ترويج ماكر لصفات لا تخدم المجتمع بتاتًا، إضافة إلى تلك المواضيع التي تطبل لاستقلالية المرأة، ومدونة الأسرة وما يليها من الشعارات الفارغة التي هدفها الأساسي هو خلق فتنة بين الرجال والنساء، وباقي أفراد المجتمع المغربي، لماذا؟

لأنه ليس في صالح دولة العالم الحر والجهات الموالية لها أن يتكاثر النسل، فهذا يشكل تهديدًا لهم ويجعلهم يفقدون السيطرة على الشعوب، فيخلقون مواضيع تسبب البلبلة بينهم كي يكره بعضهم بعضًا. ونأخذ على سبيل المثال مواضيع المثلية الجنسية التي تتصدر الأفلام العالمية، إنه من النادر في الأعمال الدرامية والسينمائية الحديثة أن لا تجد مشاهد أو لقطات تروج لها، حتى في أفلام الحروب التاريخية دمجوها، أما موضوع المرأة القوية والتطبيل لها، فهم يوهمون النساء بالحرية والاستقلالية لكن هدفهم من مساندة النساء في السنوات الأخيرة هو الحد من النسل وتشويش أفكارهم بأن الزواج والأبناء مجرد مضيعة للوقت وأنه ليس كل شيء، فانظر وألقِ نظرة قريبة على المجتمع المغربي كيف أصبح، نسبة الطلاق اليومي تفوق عدد سكان جزر القمر ونسبة العزوف عن الزواج أشد، والشاهد عبادة الترند، مؤسسات وجهات تمول وإعلام وضيع يروج ويطبل.

وفي الواقع، ما يحدث في المجال الفني يتكرر في المجال السياسي وفي جميع المجالات الأخرى، فما نشاهده من تصادم بين الدول مثل روسيا والولايات المتحدة الاميركية والصين وإيران وإسرائيل ليس إلا عبارة عن مسرحية يُديرها القادة السياسيون ويروج لها الإعلام، حيث تُلقى العظام إلى الصحافة لتُروج لما يريده القادة أن يُظهر، بينما يخفون الجانب الآخر، فهؤلاء الزعماء قد يكونون حلفاء وأصدقاء تحت الطاولة، ولكن يُظهرون كأعداء في عيون الشعوب بسبب الإعلام المزيف.

وكمثال حصري في سياق موضوعنا الاساسي، حدثت ضجة بين أبطال الكوميديا الرمضانية المغربية في الأيام الأخيرة، حيث بدأ الإعلام يكتب عنهم ووصلوا إلى الترند، وفي الحقيقة، كان هؤلاء الأبطال أصدقاء اتفقوا مع بعضهم البعض في السر لإخراج مشهد مزيف يظهرون فيه في حالة خصام، والصحافة المزيفة ابتلعت الخدعة بسهولة وجعلتهم على الصفحات الرئيسية، وهذا السيناريو ليس مختلفًا عن الأمور السياسية، حيث يتمثل السلام في الأبواب الخلفية، بينما يعيش الناس في ظل الصراع الذي يشتت الشعوب وتستفيد منه الصحافة والإعلام.

لاشك أن الأمثلة التي ذكرتها توضح أن هذه المواضيع الهامة والملغومة بالأفكار السامة واسعة الانتشار بالفعل، فكل إنسان عاقل تقريبًا يشاهد ويقارن سيأخذ بنوع معين من الأفكار السامة التي يتم تمريرها، وإذا تريث المشاهد والقارئ لحظة ليفكر في هذا الأمر، سيدرك أن هذا ينطبق عليه هو نفسه أيضًا، مهما كان غموض المواضيع الملغمة أو عدم تحديد معالمها الأساسية.

فالإعلام مضطر إلى تسويق ما تمليه الجهات الممولة، وهذا ليس بالأمر الغريب، ولكن الغريب في المسلسلات الرمضانية هو أن يقوم المخرج بشراء الصحافة لتكتب عنه وتطبل لأعماله، وهذا الأسلوب في الحقيقة مثير للاشمئزاز، لماذا؟ لأنه يمثل أسفل مستوى من الدناءة، وليس هذا فحسب، بل أصبح الممثل أو الممثلة يشترون الإعجابات والمتابعين والتعليقات على صفحات الانستغرام ومنصات التواصل الاجتماعي، وهم أيضًا يشترون مجموعة من الأقلام الباهتة المنعدمة الضمير لتكتب عنهم، وما خفي أعظم، وشهر رمضان الذي أنزل فيه القران أصبح الشهر الذي انتجب فيه المسلسلات، كنا في التسعينات بين مسلسلات تاريخية حتى لو كانت مزيفة ترفع من درجة تمكننا من اللغة الأم، والان أصبح المكر الفني أكثر خبثًا من المكر السياسي المكيافيللي.