عنايت عطار يبحر في دوائر المرأة

أينما توجهت وأينما تبحرت في أعمال التشكيلي السوري لا بد أن تصادفك المرأة، فهي ضيفة شبه مقيمة إن لم نقل مقيمة إقامة دائمة في مجمل أعماله، حتى في تلك اللوحات التي قد توحي لك بأنها غائبة لكن ما إن تمعن فيها قليلاً حتى تجدها نائمة بين ثنايا اللوحة أو حالمة بين أفق ألوانه المزركشة الخاصة.

إذا كانوا قد أطلقوا على الراحل نزار قباني شاعر المرأة بغض النظر إذا كنا موافقين على هذه التسمية أم لا، هل نستطيع أن نحمل هذا اللقب في إطار الفن التشكيلي الى عنايت فتقول عنه فنان المرأة.. فأينما توجهت وأينما تبحرت في أعماله لا بد أن تصادفك المرأة، فهي ضيفة شبه مقيمة إن لم نقل مقيمة إقامة دائمة في مجمل أعماله، حتى في تلك اللوحات التي قد توحي لك بأنها غائبة لكن ما إن تمعن فيها قليلاً حتى تجدها نائمة بين ثنايا اللوحة أو حالمة بين أفق ألوانه المزركشة الخاصة والتي أسست أصلاً لها، بالإعتماد على خيالات توحي بها.

 فهي وأقصد المرأة تعتبر العنصر الأهم في حقله الفني الجميل، فهي ترافق ريشته كيفما وأينما دار بها، حتى أننا كدنا أن نقول بأن ذاكرة الفنان تكاد أن تكون فردية ومحصورة بها فقط، وهي بكل تأكيد تستحق ذلك وهذا يسجل له وليس عليه، بغض النظر عن الأبعاد التي قد تعنيها له كقضية جمالية أولاً وإنسانية ثانياً وقد توحي إليه موضوعا آخراً ومغايراً كالموضوع القومي مثلاً وتشي بذلك الوجوه نفسها وبألوان نفسها تلك الوجوه القادمات من حقول الشمس وبألوان تكاد تنحسر بألوان الربيع، بألوان النوروز، فالمرأة عنده جمال وقضية بل كيان شامخ يبلور كل الإستعارات بمركزية الاقتران بالتشكيل الذي يعود الأذهان على أن تراه، فهي حياة سابقة للزمن وللتاريخ وكمكون بشري يلبي كل المكونات الأخرى بإنفعالاتها وأذواقها وعاداتها وميولها المحررة من هيمنة السائد بالإشارة الى الحضور المتصاعد على الرغم من انشغاله بخاصية بصرية على المستوى الناجز في نقل خاصية لونية الى خاصية وصفية بنقل حركات صوتية على المستوى السمعي البصري وهذا ما يظهره على احتكاك عميق بالحاسات الغائبة شكلاً والحاضرة تأويلاً مع غياب الفوارق التأثيرية والمأخوذة من مظاهر لا تنتهي في الخاطر بل تسرد في آلاف الحكايات المبعثرة بألوان قزحية في أكثر أعمال عنايت.

فحضورهن داخل العمل بمفردهن يحتاج إلى وقائع خاصة ومستفيضة قد نعود إلىها، مع التذكير بأن وجوههن تلبي كل الإيحاءات الخارجية منها والداخلية عبر تداعي الرغبات السامية والمعاني التي كثيراً ما يشير إلى اكتساب عادات بقوة الإيماء وهذا ما يدفعنا إلى القول بأنه يكسر مقولة فولتير حين يقول: "المرأة المرسومة إمرأة واحدة، هذا كل شيئ، لقد أنجزت صورتها وتمت وكل كلام حولها لغو" وبتحد كبير للمخيلة وذلك بنقل مصادرها للمتلقي مما يتيح له تشكيل تكوين خاص به، دون أن يدفعه ذلك إلى أي تحوير وفقاً لإشارات يرهنها لحلول بصرية قد تأخذ أبعاداً تجريبية ناضجة إلى حد كبير، فهو مع طاقمه من النساء اللواتي يتجولن بين الأورانج والأزرق والأصفرو الأخضر وفقاً لخوض قضايا جمالية ترهن فعالية الذاكرة وفاعلية المخيلة لإقتباسات تتغلغل في عمق صياغات السماء التاسعة، بالتشديد على مفاصل تكوينية تستمد عزمها من ألوانها المستمدة في خلق البنية الفنية في كل مفاصل أعماله، مع السعي إلى مناصرة ما يراه بمنح طاقة شعرية في أعماله، وذلك حين يغرق اللوحة بالأورانج الهادئ القريب من الذات الإنساتية والمغناة ضمن ألحان مبتكرة من المكان الذي ينتمي إليه، فيذهب عنايت الى أفق مفتوح يفضي إلى مفترق لمسارات تنشط مخيلته وفقاً لخلق قضايا جمالية تعيده إلى بناء الأحداث من منظور آخر يجعله يؤكد بأن أصابعه هنا تنزف عشقاً وذلك عبر عملية شق وتصعيد درامي جمالي تقني ومن منظور تغريبي لم يسبقه إلا ميرخولد وبريخت في المسرح، أما في الفن التشكيلي فما زلت أبحث في هذا الجانب ويبقى إلى الآن عنايت هو السباق في هذا التغريب الذي أبعده من السقوط في التناقض وفي الإرتباك وفي التكرار، رغم طموحه الحاسم في التحولات التكوينية، هذه التحولات المرتبطة ذاتاً بمقولات أساسية تنطق بها جل أعماله على إمتداد التوافق الذي يقيس الإنتاج الفني بمقياس كوني يعتمد في تحليلاته على إستمرارية النضج لخصائص التجريب بالوقوف عند إستخلاصات هي تجريبية أيضاً في علائقها التي تزداد توغلاً في سمات القيمة المعيارية للعمل، وهكذا تسير حكاية بل حكايات عنايت مع المرأة ضمن رائحة الأمس فينبغي النظر إليها بإعتبارها معطى ثقافي مهم، بوصفها مفهوم للأنسنة وللتوكيد على تحديد ماهية مكونها الافتراضي ولهذا يستعين عنايت محور حكاياته من الواقع المتداخل مع التاريخ والأسطورة فيظهرها بصورة الريح بل ويدمجهما معاً.

لم يتجاوز عنايت الحدود التي أوجدها لنفسه رغم أنه يغيب كل الحدود أمام نسائه، فتتوالى ودون خشية وكأمواج وأرتال وجماعات ليبدين تفاعلاً مع كل دوائر الولادات المتجاورة لأسقف السموات، فهن يدركن وبوضوح كبير للزمن عبر إدراكهن للمكان الذي ولدن منه، فوضوح القامات وغياب الملامح هو ترتيب آخر وأولي لحروف التشكيل عند عنايت، الذي يرفض أن يكون تحت العتبة، فهو يحمل ذاكرة تتضمن مشروعاً فنياً تشكيلياً تكوينياً يحتاج إلى انفجارات كثيرة من داخله خرج بعضها والبعض الآخر في الطريق ما زال ينتظر، ولهذا أدعو عنايت إلى الصوم الفني برهة ليمنح المجال لأفقه الجديد المبشر بإنفجارات جمالية قد تكون منعطفاً في مسيرته الفنية.

وفي ضوء ما تقدم نستطيع أن نقول بأن عنايت يكرس مساحة كبيرة في بلورة سؤال يذهب إلى نهايات لا بداية لها وحيناً إلى بدايات لا نهاية لها، وهذا ما يمكننا في تفهم أطروحته الأساسية، تلك الأطروحة التي تقترب وتقربك معها من تجربته منذ النضج الأول ووصولاً إلى البعد الخاص به الذي يمهد له الطريق في إكتشافات عبر ولوجه لبوابة رسمها له تراكماته الكثيرة وتجاربه اللامحدودة في السعي إلى قراءة الواقع قراءة لونية فنية.