فريد شنكان يستشف ضفائر رؤيته من شغوفة بالتخيٌل

'لوحتي هي الأنثى التي أبوح لها بهواجسي ومكنوناتي من دون أن تشتكي أو تتذمر مني، إنها ملاذي دوماً '، العبارة الأصدق التي من الممكن أن يقولها فنان حقيقي وهو في سجال وحوار وبوح دائم مع لوحته، ومع نفسه، ومع الحياة.

"أنا والتراث عاشقان" هذا ما يقوله الفنان السوري، الدمشقي فريد شنكان والذي ولد فيها عام 1963، ودرس فيها وتخرج من كلية الفنون الجميلة بجامعتها عام 1986، نعم هو والتراث عاشقان فهو من أهم من يعمل في ترميم البيوت التراثية الدمشقية، وهو الخبير بذلك وبزخرفتها، بل خبير في مجال تراثها الفني من أرابيسك وفسيفساء، ولهذا نجد أعماله تغرق برموزها التي يستمتع بها متلقيه والتي تشتمل على أدوار تفاعلية خاصة، برموزها التي تدل على جذورها المرتبطة بنماذجه التي تدفعه ومعه متلقيه إلى الإبحار بخيالهم نحو محاولات لمحاكاة أفعال ونشاطات بأشكال مختلفة من أجل إضفاء المعنى عليها والإستمتاع بها وبما تجلبه من تحولات إبداعية معينة، فهو شغوف بالتخيٌل، يتعمق فيه، ويستمتع بتلك القدرة الفنية المتجاوزة لذاتها، والتي تمنحه إحساساً مسكوناً بالفرح والدهشة، بالعلو والسمو حتى يتلبس الانطلاق بلغته التي لا يستخدم منطوقها بل نظامها السيميائي، فيقبض على محتوياتها، بمفرداتها التي يستشف منها تعابير تتصاعد في دوران حلزوني متشابكة مع دوائر وأشكال وخيوط وخطوط هي التي ستشكل ضفائر رؤيته التي سيحتكرها لأصابعه هو، لأصابعه فقط فهي الوحيدة القادرة على لمسها والعزف عليها وبها مخاطباً متلقيه التخيّيل كلما كان كثيفاً كلما أثمرت أكثر وأنضج، والمبدع كلما نثر رؤيته في العمل بآفاق مفتوحة كلما كانت أكثر فاعلية وأكثر أثراً، فالوجهة الغالبة لعملية التأثر تكون لصالح المعالم الدالة التي ستخلق بدورها انسجاماً تفاعلياً بينها وبين المتلقي النابض أمامها، بذاكرته النابضة، القادرة على إخراج المتعة المعرفية من تلك الأشكال بذوق فني رفيع، مصحوبة بموسيقا صامتة تحمل من الترميز ما يحيله إلى نوع من المشاهدات التي يتجاوزها لفظاً، يعيشها تأويلاً، والتي لولاها لما اكتسبت تلك الخصوصية المتفردة، التي تضفي عليها طابعاً تراثياً تبحث كثيراً عن الصدى الضائع، وهذا ما يدعونا لنتساءل : ماذا تعني عملية الخلق بالنسبة لفريد شنكان، وإلى أي مدى كان في مقدوره بنتاجه الدقيق التعبير عن تجارب الذات، بتصدعاتها وإلتآماته، وهل استطاع أن يتحرر من القيود الثقافية المتداولة والمتوارثة عن طريق التحرر من لغته؟

إن هذه الأسئلة ستجد الإجابة عنها في ذاكرة أعماله التي أبدعها لنا بلغة كانت قد تأخذ صفة إشكالية مفتوحة لولا توافقها في إستخدام صيغها الجمالية التي تختزل الذات بالآخر والتي ترتكز على حقل ترسخ تشكيل هويته الفنية دون أن يجردها من سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية، الأمر الذي يرتبط على نحو وثيق بتشبعه من لغته الخاصة، وبتمكنه من التنقل والسفر بها عبر أعمال وجدران تتعمق وتتطور انطلاقاً من تحررها التي ستأتي كمرحلة حاسمة لولادة يحق لها أن تطالب بمقام دائم.

على سبيل الدنو من عوالم فريد شنكان كان علينا الاقتراب من عتباتها الكثيرة، تلك العتبات التي لا تمنع المقاربة من أجوائها، بل تجرنا للدخول إلى عمقها والاستمتاع بما ستفاجئنا، فنصه ليس عصياً على متلقيه وإن كان عليه أقصد المتلقي بأن ينتبه بأن شنكان لا ينزع جلده، أقصد خصوصيته، بل يرسمه بروح تحمل من البوح لباسه هو، مشاعره هو، فهو يبحث عن أشياء معينة على أنها واقع، يفصح عنها في محايثاته لأنه يعمل على الإفراج عن كل ما يشده للوصول إلى مستويات أرفع، فهو من ناحية يربط بين ماهو صميمي وبين تلك المستويات المكشوفة له، ومن ناحية يفرض معاييره الخاصة على الوقائع من الداخل قبل الخارج، وبالتالي فهو يشد تلك الوقائع صوب ما تنبغي أن يكون عليها، ومن ثم يغدو بها جميعاً مع أشياء أخرى نحو ما تلبي حاجته الفردية والروحية، فثمة تلازم بينها، وهو على درجة من التعمد كي يدرج كل ذلك في وعيه الذاتي، ذلك يتيح له مناخاً يمكن أن يُفعٌل الكلام مع الذات الجمالية الإنسانية التي يهدف إليها فيما يهدف، فهذه القدرة التي يحوز عليها هي ذاتها التي تدفعه نحو التحقق الذاتي في جميع عمليات الصيرورة، وإذا كان العالم الإنساني متمادياً مع الطبيعة إلى حدودها القصوى فهو لديه تلك القدرة كي يقرر ما الذي يمكن أن تكون عليه الحياة الأجمل، الحياة الأكثر اعتاقاً، فالأمر عنده لا يقتصر على خلق الجمال وتركه، بل يعمل على تحريره وفتح كل الأبواب التي ستستقبل أريجه، فهو فعلاً يراهن على أن الحقائق العامة تحمل من الشرط الإنساني الكثير، فقط تحتاج إلى رصيد من التحدي كي تتشكل كل لحظة من لحظاتها.

لقد شعر فريد شنكان منذ البدء بشيء من الحب، بل بالحب كله وهو يستجيب لذاك النداء الخفي كي يكون فناناً مغايراً عن مجايليه، فكانت للأمكنة التراثية والبيئة الدمشقية القديمة الروح التي ستتب فيه وبالتالي في منتجه، فهو الحاضن لتلك الروح، والنافخ بها لكل الموروث التراثي بزخرفتها الشرقية، محافظاً على عناصرها من أشخاص وبيوت وكل ما في تلك البيئة الحميمية من المفردات، فبحق تختصر لوحته التراث الشامي كما قيل كثيراً، فالمهمة التي استعد لها لم تكن هينة، بل تنطوي على ما تتعدى المألوف، فلتحقيق غاية سامية معينة تكون لها الغلبة على الوقائع كلها، الكبيرة منها والصغيرة، ولمواجهة تلك التحديات التي تنطلق من تلك الوقائع كان لا بد أن يعمل فريد شانكان على إبراز ما كان يقيدها وإعطاء الأولية لفك تلك القيود أو كسرها والدخول في طريق بصوت عال هو الصوت الذي سيمثله مشتملاً على تشكيلة واسعة من الموضوعات التي هي بحق إستثنائية، وكشف تفاعلات أبعادها مع أبعاد حياته الشخصية، فالأمر لافت بالفعل، وإلقاء نظرة خاطفة على تلك التفاعلات وما أسس لها فسيلم بشتات الأطراف السائبة كي يجعل الأمر أكثر وأشد تماسكاً بالنسبة له كمنتج ومبدع وهذا ما سيؤكده لاحقاً شيئاً فشيئاً وبأن الطريق الذي يمضي فيه مهما كان حالكاً فهو شمعته، وهو وثيق الصِّلة بهذا الطريق وبالكيفية التي يمضي فيه نحو عالم تجعل تأملاته لوحات زخرفية تزين حارات دمشق القديمة، من أبوابها لروح ووجوه أبنائها.

"لوحتي هي الأنثى التي أبوح لها بهواجسي ومكنوناتي من دون أن تشتكي أو تتذمر مني، إنها ملاذي دوماً "، العبارة الأصدق التي من الممكن أن يقولها فنان حقيقي وهو في سجال وحوار وبوح دائم مع لوحته، ومع نفسه، ومع الحياة، فهي تحمل الجزء الأكبر من سيرته إن لم تكن كلها، بمفرداتها المختلفة، بمشاعرها وأحاسيسها، بحزنها وفرحها، بعتباتها ومتنها، فهو يعطي الأولوية لعشقه فهو خير من يتكلم بنقاء عن كل تلك الوقائع التي تحتاج إلى البوح بوصفها النبيذ الذي يسكر الروح وينعشها مخترقة حالة النيرفانا، فالملاك يكشف أبعاد هذه الحالة التي تقربه من الآلهة بصورة استثنائية، وهذا أمر لافت بالفعل، ومن الطابع الجمالي ألا يناقض ذلك إنتاجه المتزايد الممتد بالموسيقا كضرب من البراعة في خلق ما هو ملائم لتقنياته، وما يلامس صياغاته بوصفها انشغالاته التي يركز عليها على نحو دائم ليوفر لنفسه مدخلاً يوصله إلى ثيمات وأفكار ستبرز مرة تلو الأخرى، تلك الثيمات وتلك الأفكار التي تبقى حاضرة في مجمل سياقاته أو من خلال إطلالاته الواسعة على ما سيكتشف لاحقاً.