كتابة السيرة الذاتية فن أصيل في الأدب والثقافة العربيين

كتاب 'ترجمة النفس.. السيرة الذاتية عند العرب' للمغربي عبداللطيف الوراري يرصد تأريخ السيرة الذاتية وتنظيراتها في الغرب ولدى العرب، ويعتبر انها لم تحقق طفرتها ويتم الاعتراف بها كنوع أدبي إلا في الربع الأخير من القرن العشرين.
'الاعتبار' من أهم كتب السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم
السيرة الذاتية تتموضع بين الحقيقة التاريخية والإبداع التخييلي

تشكل السيرة الذاتية مفتاحا مهما لقراءة تجليات التكوين الإنساني والمعرفي لصاحبها والواقع الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي عاشه وانعكس على رؤاه وأفكاره.
 ولقد ترك لنا العرب القدامى إرثا سيريا كثيرا ومتنوعا عنوا فيه بالتأريخ للفرد وترجمة حياته بصورة من الصور، وترافق هذا التأريخ للأفراد واتسع مداه مع ما عرف بأدب التراجم والطبقات، وتمخض عنه سير الرجال، وفي المقابل ألف آخرون كتبا ورسائل قائمة الذات هي بمثابة تراجم وسير ذاتية صرفوها، تعبيرا واعتبارا، في الحديث عن أهواء النفس وصراعها الروحي، وذكرياتهم، وتحولات عصرهم المضطرب وقلاقل دولهم.

ضرورة التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية
ضرورة التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية

ويشكل هذا الكتاب "ترجمة النفس.. السيرة الذاتية عند العرب" للشاعر والناقد المغربي عبداللطيف الوراري رصدا ودرسا وتحليلا لتأريخ السيرة الذاتية وتنظيراتها غربيا وعربيا، حيث انطلق عربيا مما صنفه العرب في أحوال أنفسهم، كاشفا عن إرث هائل وصل عبر أمهات كتب التراث مثل كتاب الأغاني للأصفهاني وكتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ومعجم ياقوت الحموي الذي خص به طائفة الأدباء والنحويين، بالاضافة إلى سير سلمان الفارسي وحنين بن اسحاق والمحاسبي والترمزي وابن بلقين والغزالي.
لافتا إلى ما أقر به الإمام جلال الدين السيوطي من أن الأدباء والكتاب والرحالة العرب والمسلمين كانوا منهمكين على مدى عشرة قرون على الأقل في كتابة التراجم والسير الذاتية.
وينطلق الزواري بعد ذلك إلى تحليل لغة وأسلوب حكي أسامة بن منقذ في كتابه"الاعتبار"، الذي رأى فيه أهم كتب السير الذاتية في الأدب العربي القديم.
 وقد انشغل الوراري في دراسته التي يليها مختارات من كتاب "الاعتبار" وصدرت ضمن كتاب الدوحة، باعتبارين رئيسين الأول أن كتاب "الاعتبار" يعكس نموذج السيرة الذاتية في التقليد العربي الإسلامي، ومن ثم مهد للدراسة بتعرف السيرة وإرثها وخواصها المائزة في التقليد العربي الإسلامي، وذلك ردا على القائلين بغيابها أو ندرتها من مستشرقين وعرب. والثاني وأنه لكون كتاب "الاعتبار" وثيقة سير ذاتية وتاريخية لقائد عسكري في الحروب الصليبية.
 فقد عرج على نبذة من حياة أسامة بن منقذ وتصانيفه، وعلى أصل كتاب "الاعتبار" وطبعاته الحديثة وأقسامه، مؤكدا بأن الكتاب سيرة ذاتية يستعيد فيها حياته وذكرياته في مناخ الحروب الصليبية وآثارها المدمرة على وقع حياة الناس، ويبسط فيها صورة الآخر الافرنج، منتهيا بتحليل اللغة والأسلوب وطرائق الحكي.
يقول الوراري "إذا كانت السيرة الذاتية، كما تواضع على تسميتها حديثا، لم تحقق طفرتها الحقيقة ويتم الاعتراف بها كنوع أدبي إلا في الربع الأخير من القرن العشرين، إلا أن دلائل كثيرة بين أيدينا تكشف عن أن لها أصولا في الثقافات الإنسانية العريقة، وأن هناك مجموعة من الأشكال السيرية والسير ذاتية تبلورت منذ العصور القديمة ومارست تأثريها الواضح على غيرها من أجناس الخطاب تاليا، بما في ذلك الرواية تحديدا.
 وفي قديم الثقافة العربية والإسلامية، كانت التراجم والسير من الأنواع النثرية القديمة محط اهتمام الأدباء والعلماء العرب القدامى ممن كانت لهم منزلة أو سلطة ما في مجتمعهم أو في دولايب الحكم والسياسة، حظوا بها أو دفعوا إليها".
ويضيف أن السيرة الذاتية تواضع على تسميتها بعد الدراسة الرائدة التي أنجزها الكاتب الفرنسي فيليب لوجون وعنونها بـ"الميثاق السير الذاتي" 1975، وعرف السيرة الذاتية بأنها "حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، عندما يركز أساسا على حياته الفردية ولاسيما على تاريخ شخصيته" ولقد استدعى مثل هذا التعريف الذي استفاد من تجارب سابقة أو من بروز أخرى لكَّتاب أعلام مثل جان جاك روسو وستندال وأندريه جيد وجون بول سارتر، بعض المعايير أهمها: معيار شكلي إذ يتعلق بالحكي نثرا، ومعيار موضوعاتي إذ يعالج الموضوع حياة الفرد وتاريخه الشخصين ومعيار مرتبط بمنظور الحكي الذي يكون استعاديا في الغالب، ومعيار تلفظي إذ يحصل هناك تطابق بين المؤلف والسارد من جهة، وبين السارد والشخصية الرئيسية من جهة أخرى. ويفترض المعيار الأخير أن تختبر السيرة الذاتية قدرتها على التوليف بين الذات وتاريخها الشخصي، بحيث يعيد المؤلف بناء حياته مانحا إياها معنى من المعاني، داخل الفهم المزدوج للكلمة، دلالة واتجاها.
 فالطفولة من هنا يجب أن تحتل حيزا دلاليا بمقدار ما تسهم في توجيه حياة الفرد، ورغم هذا الشرط يميز فيليب لوجون بين السيرة الذاتية وذكريات الطفولة التي لا تشغل سوى جزء من الحياة.
ويشير الوراري إلى أنه لا يكون العمل سيرة ذاتية إلا عندما يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، معا أو بشكل متفرق، وفي حال ما إذا أدمج المؤلف معلومات بيوغرافية حقيقية فإن ذلك ليس يكفي، ينبغي أن يحصل هناك اتفاق مسبقا بين المؤلف وقارئه.
 فالمؤلف يلتزم بأن لا يقول إلا الحقيقة، ويكون مؤتمنا في ما يخص حياته. في مقابل ذلك، يقر القارئ بأن يمنحه ثقته. إن هذا الالتزام الذي يؤكد فيه المؤلف على التطابق بين كل من السارد والشخصية هو ما أشار إليه لوجون فيما يخص "تأكيد هذا التطابق داخل النص الذي يحيل في نهاية المطاف إلى اسم المؤلف على الغلاف". إن هذا التطابق بين الثلاثة "المؤلف، السارد، والشخصية"، يمكن أن يتأسس من جهتين: عبر استعمال العنوان بوصفه "سيرة ذاتية" أو "قصة حياتي" استعمالا لا لبس فيه، أو عبر التزام المؤلف تجاه القارئ منذ بداية النص. 
والسيرة الذاتية، مثلها مثل البيوغرافيا، هي نص مرجعي. هدفها ليس أثر الواقعي كما في الرواية بل الحقيقة.
ويؤكد إن السيرة الذاتية تتموضع بين الحقيقة التاريخية والإبداع التخييلي، وعليه يستحيل وضع أي تعريف وصفي لها، أو وضع أي قيود عامة عليها إطلاقا. وإذا كانت الحقيقة السير الذاتية تكشف عن كونها وهما، فإن للذاكرة دورا مهما في السيرة الذاتية، وفي الروابط الضيقة والمركبة والمتبدلة التي غالبا ما تنبني بين الذاكرة والحياة المستعادة أثناء الكتابة، أي "لن تعود الذاكرة بمثابة حضن للذكريات، بل عنصرا فعالا في تقديمها".
 فالوهم المرجعي الذي تنتجه السيرة الذاتية لا يجب، مع ذلك، أن يخفى عنا حمولة التخييل المتضمنة فيه، إذ لا يمكن للمؤلف أن يأخذ بالاعتبار حياته كما جرت. إنه يصنع منها حكيا، بمعنى أنه يكيف هذه الحياة مع الإكراهات المرتبطة بالشكل السردي، أي يعيد تشييد حياته حتى يكتبها. 
وفي هذا الصدد هناك بعض كتاب السيرة الذاتية من سعى إلى إعادة تنظيم ماضيه على ضوء ذاته الراهنة، وآخرون غيرهم أرادوا أن يرمموا ماضيهم مثلما عاشوه وروؤه.
ويتابع الوراري أن الإرث العربي من الكتب والرسائل التي هي بمثابة تراجم وسير ذاتية تضعنا أمام حقيقة أن فنا من الكتابة اسمه فن الترجمة أو السيرة الذاتية كان موجودا في الأدب والثقافة العربيين، ويبين عن ملامح واشتراطات ومواصفات خاصة لـ"نوع أدبي" كان يتطور باستمرار، وبالتالي يدحض المغالطات التي شاعت في الأدب الغربي وأشاعها الفكر الاستشراقي أو الكولونيالي والإغرابي بعد ذلك، والقائلة بأن أدب السيرة الذاتية والاعتراف، إنما هو نوع غربي خالص لم يعرف غير الأوروبيين. وهكذا نؤكد أن فن السيرة كان موجودا في التقليد العربي الإسلامي منذ العصور الأولى وأنه يكشف عن إحساس قوي بالذات وقد ارتبط وجوده بسياقات تاريخية وسوسيوثقافية متباينة عن غيرها في التراث الإغريقي اللاتيني، أو في الفضاء الأوروبي حتى العصر الحديث.
 ولكن نعتقد أن المشروع، وهو غير مشروع بحثنا، لا زال قائما في بحث الأطر النظرية والمعرفية التي يمكن على ضوئها فهم وتفكيك الالتباسات المحيطة بتاريخ السيرة الذاتية عند العرب، وبناء على الطبيعة المتغيرة للنوع بتعبير مؤرخ الأدب يوري تينيانوف.
ويرى الوراري أن كتاب "الاعتبار" لأسامة بن منقذ من أهم كتب السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم.
 إنه يحتوي على مذكرات دونها أسامة بضمير المتكلم، وكانت حياته محور فصوله وأحداثه. مع ذلك، لم يكن أسامة يهتم بأخبار المعارك والتأريخ لها بدقة، شأن كتابات مؤرخي وقضاة وكتاب مسلمي الحقبة الصليبية، وإنما كان يصور بأسلوب حكائي يطبعه الاسترسال والعفوية، حياته التي وجدها متناثرة متتاليات في ساحات الحرب ومفاوضاتها، ويصف الناس ومعايشهم التي تأثرت بهذا المناخ ووقعت تحت سمائه الملبدة بالدخان، مثلما يصف أحوال الزمان الذي لم يخل من قسوة وجبروت وتعصب.
ويلفت إلى أن القسم الرئيس من السيرة يمتلئ بالحوادث والوقائع والمواقف والمصائر والمشاهدات والحكم التي سردها الأنا السير ذاتي من الداخل، بعد أن عاشها وتأثر بها ووجد نفسه في مواجهتها، واعتبر بها. إن الأنا هنا في موقع متقدم من الحكاية، متورط في ما يعرضه، ليس يخفى عن رؤيته شيء، تتدبره ويطول بسعة أفقه إليه، بل نجده يخوض الواقعة المسرودة، ويصنعها، بلا ادعاء بطولة كما في السير عند الإغريق والرومان القائمة على نظرية الرجل العظيم. أسامة بن منقذ الصبي الذي تحيط به عناية الوالد والعم، بعد عناية الله ولطفه، والذي شب عن الطوق مبكرا وانطلق إلى ساحات الحرب يشارك فيها، مبارزا شجاعا وقائدا عسكريا.
 ثم هو يسوس تداعياتها المحتملة في ردهات الحكم بوصفه مفاوضا وخبيرا استراتيجيا جمع بين الحنكة وسعة الأفق وتدبير المرحلة جيوسياسيا بلا أنانية أو تهور. 
في سياق السرد نكتشف تطور شخصيته وتأثرها بما يجري حولها من أحداث متسارعة.
لكن سيرة أسامة الذاتية هذه كتبت في ضوء الحرب الصليبية، هذه الحرب التي فرضت عليه ووجد نفسه مدفوعا إليها، بل فرضت على محيطه ككل الإنساني والاجتماعي والبيئي، إنها بمعنى آخر، سيرة حربية يتشابك فيها الذاتي بالجمعي، فهو يركز في مجملها، لأكثر من اعتبار وقصد، على وقائع الحروب الصليبية التي عاشها ووقف في مقدمة الجبهة المستعرة ضد جيوش الصليبيين، ومستشارا في الملمات الصعبة التي حاطت به ودفع إليها من بلد إلى آخر، في فترة حرجة بين: الحملات الصليبية الأولى، وصراع آل زنكي لاستعادة أراضي المسلمين من الأفرنج الذين استقروا في مدن وقلاع من طرابلس إلى بيت المقدس. 
وإذا كان أسامة لم يلتزم في سرد سيرته التسلسل الزمني، حيث السيرة لا تجري بطريق التذكر والاسترجاع على نسق تاريخي أو ترتيب كرونولوجي منظم، إلا أنه يمكن اعادة ترتيب المتن الحكائي الذي تحكيه الأنا السير ذاتي، منذ الطفولة حتى قبيل وفاته بزمان يسير.
 فقد بدا أن المدة التي يحكيها طويلة تحتاج ذاكرة قوية وحافظة متينة من أجل استحضارها وإعادة إنتاجها سرديا، فذاكرة المؤلف - السارد تعاملت مع هذه الأحداث تعاملا انتقائيا.